إلى/ كل نساء دارفور اللائي صمدن في وجهِ الخرابِ وآلهة الدم!! " أن تكون مجنوناً رديئاً بلا ضمير أو شفقة ، فأنتَ لم تقترف إثماً بأي حال ، أنتَ فقط تتسق مع جوهر الله " برقت تلك الخاطرة في خلده ، فجأة؛ حينما كان يتأمل في هذه الحياة الخربة الآيلة نحو سحيق العدم . في غمرةِ التيه ، تراءت له الحياة جثةٌ منتفقةٌ ، وجهٌ مليءٌ بالبثور ، مقابرٌ جماعيٌّ تثير الرعب في النفوس ، بالوعة تطفو بخراءٍ شيطانيٍّ رجيم . جلس مقرفصاً ، منكفئ على نفسه ، بيده اليسرى سيجارة تلفظ أنفاسها الأخيرة ، تحت مقصلة الريح التي تهبط على عنقها بلا شفقة ، فيتساقط منها الرماد على دفعاتٍ بصورة غير منتظمة ، شاخصاً بعمقٍ في أغوار النفس البشري ، في ماهية هذا الكائن القريب المثير للخوف والشفقة في آن . هذا الكائن المسخ الذي لا يجيد غير حزّ الرقاب الآدمية غير الإقتتال البغيض لأتفه الأسباب . هذا المسخ الذي لا يجيد غير بذر الخراب في رحم الوجود . الذي لا يجيد غير تعميد الشر . هذا الكائن المسخ الذي لا يستحق العناء ، حتى عناء القتل . إنه خطيئة كُبرى ، إنه خطأ الطبيعة ، أو خطيئة الله ، لا يهم . فهو مسخ شيطاني لعين في النهاية . متمرغاً في وحلِ ذكرياته الصدئة ، وذاكرته التي تصدعت بفعل مطارق الحرب والفجيعة ، سقط آخر دفعة رماد مِن سيجارته التي لفظت أنفاسها الأخيرة ، على صليب الريح ، بصورة قاطعة لا تدع مجالاً للشك ، بتكاسلٍ نظر إلى كوب القهوة الموضوع أمامه على منضدة صغيرة ، تتصاعد منه الأبخرة ، والرغوة السوداء تطفو عليه . " آه ، يا لها مِن قهوة ، ويا لها مِن نكهة آسِرة " . صرح بذلك في أعماقِ قلبه ، وإبتسامة مضيئة تطير كفراشة مِن ثغره الذي كشف عن أسنان بيضاء شفافة . إنها قهوة أمه ، يعرفها جيداً مِن نكهتها ، مِن عبقها ، مِن رائحتها التي تبعث على السرور وتبهج القلب . حين يرتشف القهوة هذه ، فهو لا يرتشف القهوة وحدها ، وإنما رائحة أمها ، حبها اللا محدود واللا مشروط ، ونيّتها الصافية بلا شوائب . أمها ؛ أمرأة في أربعينيات عمرها البائس ، تطفو على وجهها مسحة كآبة ، تأبى أن تزول ، ما تجعلها تبدو أكبر مِن عمرها الحقيقي بسنواتٍ طوال . أمرأة كتومة ، وبائسة ، ويائسة مِن الحياة أيضاً أمرأة نخر الحزن روحها ، فتحولت إلى ركام جسد ، إلى جثة متحركة بلا روح . لكنها رغم ذلك فهي أمرأة مِعطاء لو تعلّق الأمر بحب الأبناء ، إذ لم تبخل بشيء على إبنها الوحيد الذي تبقى لها مِن جحيم الحرب . إذ تقضي النهار بطوله في بيوت الأسر الغنية ، تكنس وتغسل الملابس بلا كلل أو ملل ، مِن أجل حفنة أموال تكفي لوجبة جيدة لا أكثر ، تعود بها في المساء . بقدمه اليسرى ، سحق أعقاب سيجارته المنتهية ، شعر بإختناق شديد يداهمه ، " ربما بسبب هذه السيجارة اللعينة " . هجس في نفسه . أخذ رشفة أولى مِن قهوته ، تلاشت لذة الرشفة مع هدير سيارة تمزق الشوارع الضيقة في زحمةِ الليل . رشف رشفته الثانية ، فأحس بإلتذاذ غريب لا يُدرك كنهها ، ربما لأنه لم يحتسي القهوة منذ الصباح أو بسبب الجوع الذي يعتصر معدته قبل أن يعلن الفجر قدومه الحتمي الذي لا مفر منه . لحظات مِن الآن ، فيهبط الليل الحالك ، ويلف الصمت المكان ، يخرس فم الحياة ، فتتلاشى صخب الأطفال الذين يتراكضون في الأزقة والممرات الضيقة . تزول هسيس الأرجل وهي تضرب الأرض بلا شفقة ، يتلاشى كل شيء ، ويكتنف السكون الموحش رئة الحياة ، فيمنعها عن التنفس . الآن ، يومض على قرصِ الذاكرةِ المُعبأ بفجائعِ الحربِ التي لا تزال تستعر في جسد الحياة ، وتحيل الحياة إلى أشلاء جثث ينبعث منها الدم والدخان . يتذكر ، الآن ، أزمنة الرصاص التي تهطل مع كل صباح ، والدم المسفوح الذي أصبغ التراب بحمرةٍ شاحبة كوجنةِ مراهقة لم تزل تحتفظ ببكارتها غير مفضوضة على مائدةِ الخطيئة . تنبعث مِن قاعِ الذاكرة أزمنة الفوضى والدم ، أزمنة القتل والكراهية وموت الله ، أزمنة الدفن في رماد الخطيئة القاتلة ، أزمنة تمجيد القبح ، فيصبح فيها القتل فعل جمال يستحق التصفيق الحار مِن الجميع ، أزمنة يُدان فيها الحب ، أزمنة تُدان فيها السعادة والحياة ؛ إنها سطوة الأزمنة المعطونة بالخراب ، أزمنة تذبح فيها البراءة الخالصة رغبة في إحتساء نبيذ الدم الذي لا لون له ، ليترنح الجميع ثمالة للقتل . في غمرةِ الثمالة التي وجد نفسه يغوص في طينها ، تذكر مقطع لقصيدة لا يدري مِن أين له به : بعد ثلاثين عاماً مِن الأن سأكون لا شيء سأصير عدماً أو ربما خراباً ينضاف إلى هذا الخراب الذي لا ينتهي! ليس هناك أكثر خطأً مِن أن تكون إنساناً أن تكون بشراً مِن لحمٍ ودم أن تكون نصف إله أو حتى إلهاً كاملاً ؛ لا يهم! فأن تكون إنساناً فهذا ليس أمراً يدعو للزهو بل أمراً مثيراً للتقزز! كل الذي مضى ، سيمر الآن على سهوبِ الذاكرة ، كقطارٍ يجوس الفيافي الشاسعة ، قبل أن يختفي إلى حين إشعار خيال آخر . أشعل سيجارة أخرى ، يريد أن يزيح مسحة الكآبة التي تعتصره الآن ، لكأنه كروم عنب لأجل نبيذ في موسم الحصاد . نافثاً دخانها برعونةٍ وخبرة في آن ، فأنتثر الدخان في الفضاء الرحبة ، محلقاً في الأعالِ التي لا حدّ لها سوى السماء التي تتلوّن بزرقة داكنة ، إذ تكتنفها غيوم تنذر بمطرٍ وشيك ، يزيد مِن معاناة خراف الرب ، الذين يحتمون بمساكن قوامها الحصير والخيام والطوب الأخضر ، لتغدو مساكن هشة كخيوط العناكب ، تسقط عند أول عاصفة تطالها . كيف بوسع المرء التخلّص مِن أوحالِ فاجعة يغوص فيها حتى العنق ؟ كيف بوسعه الهرب مِن صفعاتِ الذاكرة ؟ كيف بوسعه الفرار مِن عبث الماضي اللعين ؟ ساهماً إلى ما وراء الأفق البعيد ، إلى ما وراء الغيوم التي تكاثفت في رحمِ السماء ، فحجبت الرؤية ، إلا مِن شعاعِ برق يومض لحظات قبل أن ينطفئ ، لتعود الحلكة أكثر مِن ذي قبل ، قابضاً على مؤخرة سيجارته التي توشك على الإنتهاء ، بيدٍ رعشى ، ربما ذلك بسبب تأثير هالة الحرب الفاجرة ، الحرب المجنونة التي صلبت على حقولها جسد البراءة ، وهُتك فيها شرف الأخلاق والقيم . تخفق الذكريات في فضاءِ الذاكرة الرحبة التي لا تتسع إلا للفواجع القاتلة ، آن نفث آخر نفثةً مِن سيجارته التي لها طعم الموت ، ورائحة دم مخثر . ريح عاصفة تضرب جسد الليل المدثر بسوادٍ تثير الزعر في النفوسِ التائقةِ إلى السلام والسكينة ، بعد أن أعياها أهوال الحرب وعهر الأزمنة التي لا تعرف الرحمة . تزداد الغيوم كثافةً ، فيزداد سواد الليل ويبتلع الحياة برمتها : المدينة والفيافي ، البشر والشجر ، الأصوات والطيور التي تخفق في السماء ، وكل شيء في الوجود ، لم يبق إلا الصمت والوحشة القاتلة . كل هنيهة وأخرى ، يتقصف برق في كبدِ السماء ، ليضيء دياجير الكون التي تغوص في محيطِ ظلامٍ مرعب ، آنه يتنفس خراف الرب الصعداء .