رأي في التصوّف



أفكار              أفكار             أفكار











حين تزداد الغربة بين عالمنا الداخلي والمحيط , هل يكون الحل هو الهروب ؟

- هذا الهروب الذي يختار الانتحار حيناً كطريقة للخلاص , أو ينعكس  أمراضاً نفسية كالفصام والاكتئاب حيناً آخر -

وهل يكون إنهاء الحياة بشفرة قرار جريء وخطير دليل قوة فعلاً ؟

أحاول أن أصدق ذلك , فيصعب علي . لا لأني لا أملك هذه القدرة الصاعقة على اختيار موتي كما أحب

ولكن لأسباب أخرى أعرضها لاحقاً ... بعد أن أتأمل .

أتأمل شخصيات كثيرة قرأت عنها وعن نهاياتها المأساوية – والتي هي ليست كذلك حتماً بالنسبة لأصحابها –

وأتساءل : لماذا الشعراء والأدباء والفنانون أكثر ميلاً للهروب بأشكاله  من سواهم ؟

أتأمل في عمق تركيبة الإنسان , وأرصد عالم الشعور والأحاسيس التي مصدرها النفس لا العقل , وأراها تتضخم

عند من ذكرت , حتى تغدو المسيطرة والمسيرة لحياتهم , تحجب غيومها نور العقل , حتى تبدو هي اليقين وسواها محض أوهام وخيالات .

أتأمل الإنسان وحيداً مهزوماً , لاشيء يحميه من ضعفه أمام قهر محيطه , لا يملك إلا مشاعر عجز الاخر عن فهمها وقد سلمها أمره فأودت به إلى النهاية التي ظن أنه اختارها متحدياً قوانين الطبيعة والوجود .

وفي عمق تأملاتي يهتف بي صوت يعارض استرسالي : " وهل الطريق الذي يختاره الصوفي إلا هروب في اتجاه معاكس " .  

لا .. أجيب , وأنا أعي ما يعنيه التصوف تماماً , وفق فهمي وإحساسي وإيماني به .

فالصوفي أساساً مؤمن , والإيمان – وفق ما أرى - حماية للمرء من كل أمراض النفس .

إيمان تدريجي لا يهبط فجأة , ولا يأتي وراثة أو تلقيناً – رغم أهمية ذلك أحياناً -  بل يلمع كومضة في القلب , وينمو بباضطراد , عبر حوار دائم عبر العقل والقلب, وتفاهم وانسجام بينهما مع تباين في وجهات النظر بحكم موقع كل منهما , ليصلا معاً إلى نتيجة مرضية , تتجلى في سكينة وسلام وطمأنينة , مهما كانت معطيات الوسط المحيط .

إيمان يبدأ لحظة سؤالنا , هل هناك قوة مبدعة في الكون أم لا ؟وبالتالي هل هناك غاية لكل هذا أم لا ؟ وهل

هناك ثقة بهذه القدرة اللا محدودة أم لا ؟التي قولها وفعلها خير مطلق , وأرادتنا أن نكون مثلها ولو عبر دهور ,

وأن كل شر ما هو إلا نتيجة اختلال الميزان والانحراف عن الصراط الذي لا ترى فيه عوجاً ولا أمتا .

من لحظة الإيمان هذه , يأتي التسليم والصبر والرضى والإقرار بالقضاء والقدر ....  وكل ما دعت إليه الرسالات  

السماوية , يتحدد وفقها طريقة حياة وتفكير المرء , بحكمة كل ما تراه أعيننا وغائية الأمثال المضروبة للتأمل .

وأراني هنا ,  بتوق للاستفاضة في الحديث عن التصوف ,  الذي أراه حصن من إيحاءات النفس الخادعة , التي تهيمن

لحظة تواري عين العقل الرقيبة :

التصوف , ليس في لبس خرقة الدراويش , والاعتكاف في زوايا المساجد والتكايا ,  أو في دوران مولوي مع ترديد كلمة حتى التلاشي - رغم سموّ هذه الحالة - .

التصوف حالة انسجام مع كل ما في الكون من أشياء , وتفاعل بالقول والفعل مع الآخر , لا غنائيات عشق إلهي في الخلوة فقط .

لأن من أحب الله أحب خلقه .

و المحبة هنا , لا تعني أن يكون مثلهم ويفكر كما يفكرون , بل تعني تقبلهم ومحاولة إحيائهم بالكلمة الصادقة والفعل الذي يترجم الكلمة ، فما كانت كلمة لله إن لم تتجسد .

والصوفي يحيا لا يعيش ، والدنيا عنده تختلف عن الحياة .

فالدنيا التي يستهجنها ليست إلا حالة اختلال ميزان الأشياء , كاللهاث وراء الرغبات , والاستسلام للهموم والأحزان لفترة طويلة .

يحب من الحياة الدنيا , كل ما يرقى بنفسه نحو الأسمى , ويحررها من الكدورات والشوائب . يملكها ولا تملكه

يسوسها ولا تسوسه , وهذه هي الحياة .. " قلب صاف تنعكس به الحقائق "

ليس الصوفي بمنأى عن الألم والحزن والرغبة والغضب والحسد و .. و .. .,  لكنه لا يفتأ يرقب نفسه , ولا يتركها

تلهو به وتقصيه عن غاية وجوده هنا ليرقيها إلى أن تصير عقلاً ,  في رحلة طويلة هي الغاية من هذا الكون .

غربته ووحدته ليست كغربة غيره , ولا حزنه لفقد عزيز أو خيبة أمل شخصي , أو عجز عن فهم مرحلي ,

بل لأنه يؤمن بحالة مثلى , يصطدم تطبيقها بتنامي المادة وسطوتها , وبإنسان لم يبق من إنسانيته إلا الاسم .

إنسان الاسم هذا .. الذي ارتضى أن يكون حمّال أسفار .. جمّاع أفكار .. دون أن يكلف نفسه عناء خوض التجربة

لأن التجربة تستلزم التضحية بمألوفه , وما عاش عمره يحسبه الصواب .

والتجربة تتطلب الوقوف بجرأة وحياد وصدق أمام ذاته يسائلها : وماذا بعد ؟

والتجربة تعني قوام الأمور في نصابها , مما يخسره ما يحسبه حقوقاً مشروعة .

والتجربة خسارة لنعيم محسوساته .

التجربة تحد للوهم بكل صوره التي تخدع الناظر بأنها الحقيقة .



الصوفي الحقيقي هو الإنسان , وطريق الصوفية هو طريق طويل لتحقيق إنسانيتنا .

للوصول للقامة الألفية المنتصبة العالية , المختارة المنتجبة المرشحة للخلافة على الأرض .



***



*ثناء درويش*












View thanaa's Full Portfolio
آمال نوار's picture

يا طيبة الروح
طرحت سؤالا في مقدمة مقالتك يشغلني منذ مدة، وقد بدأت بإعداد بحثاً عنه منذ شهور ولم أنته بعد! وأقصد “الشعراء تحديداً وأشكال الهروب”. لكنك يا عزيزتي غيّرت مسارك لتتحدثي عن الصوفية. وددت لو أنك تتأملين في سؤالك بتجرد وإيجابية وتسبرين أعماق حيوات مبدعة لم تنقصها التجربة لتحيا ولا القلب لتسع الحق. وددت لو ترصدين عالم الشعور واللاشعور عبر كتاباتهم بعيدا عن أية إسقاطات وعظية. ما بين أن تقيم الحياة في الكآبة وأن تقيم في التصوف ثمة ما لا يحصى من حالات الوجدان التي يحيا فيها البشر. ثم هل التصوف في متناول كل مريد؟ أيضا وبمحبة أسألك لماذا الأحاسيس التي مصدرها النفس وليس العقل تحجب غيومها نور العقل؟ ألا يقول “ابن عربي”: ” ان العقل قيد، يحصر الأمر في نعت واحد، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر”. لماذا ترين أن الصوفي يرتقي بنفسه إلى أن تصير عقلا؟ يقول تعالى:”ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب” ولم يقل لمن له عقل بحسب ابن عربي، مضيفاً: لقد ثبت أن القلب رئيس البدن وهو المُخاطب في الإنسان، وهو العقل الذي يعقل عن الله. ثم أتعرفين يا ثناء إلى ماذا يقود التجلّي في نهاية المطاف ؟ التجلي يؤدي إلى الحيرة . إن الهدى لدى المتصوفة أن تهتدي إلى الحيرة فتعلم أن الأمر حيرة ،والحيرة قلق وحركة، والحركة حياة ،والحياة وجود ،والوجود يعني انتفاء العدم. يعني وداوني بالتي كانت هي الداء!
مزيداً من العطاء والتواصل
حباً
أمال

عبد الله جمال's picture

السيدة ثناء طه قد وضعت يدها على الجرح
ولكن التصوف يا سيدتي مقام وأحوال لا يجد
الأنسان العادي أي مدخل لينسلك في افلاكها
انها وصفة ودواء لا يستطيع الأنسان العادي
شراؤه ولا يعلم اصلا ان هناك دواء بهذه المواصفات
وحتى لو اخبرناه بذلك فلن يقبل تجرع مرارة ذلك الدواء
وهو محق فالتصوف الحق يتعارض مع جملة ما تلقنه
انساننا البسيط العربي فمن جهة يشحنه الفقهاء بجرعات
كبيرة من النفور من الآخر المختلف ومن جهة اخرى
تغويه دعاياتنا التلفازية وغيرها بكل ما هو لذة عابرة
وتحثه على الشره .

سعيد الكحل's picture

سيدتي ثناء طه ، إليك تحياتي الصادقة . كما تعلمين هناك أشكال متعددة ومتباينة من التصوف ، سواء على مستوى الاعتقاد أو الممارسة . والتصوف الذي تحتاجه مجتمعاتنا هو الذي تطرقت إليه في موضوعك القيم . بحيث يصير الصوفي منبع الحب والرأفة ويكون بمثابة رجل إطفاء يتصدى لمشاعر الضغينة والكراهية التي تنشرها جماعات الإسلام السياسي وتحرض اتباعها على بث الرعب والقتل بين خلق . إن مجتمعاتنا بحاجة إلى كل ما يشيع فيها ثقافة التسامح ومشاعر التراحم ، كان تصوفا أو غيره . ذلك أن مفهوم التسامح دخيل على ثقافتنا العربية ولم نستطع بعد تبيئته . مع مودتي . سعيد الكحل .