يشرف الملتقى الفكرى العربى عل نهايته عندما أدفع بهذا التعليق للمطبعة ، وسيكون تقييم هذا الملتقى محل جدل قد يطول أمده أو يقصر وفقا لما أصاب من نجاح أو فشل وما قدم من اسهام يضاف الى الملتقى الفكرى السابق بمدينة الجزائر . لهذا السبب وغيره لا أرمى من وراء هذا التعليق الى تقييم هذا الملتقى قبل أن تكتمل الصورة وتتوفر العوامل المساعدة لانشاء مثل ذلك التقييم . .
ولكن ما دفعنى كتابةل هو الحديث الذى أرسله السيد وزير الشباب (الدكتور منصور خالد ) فى مطلع الملتقى لأنه يمثل منهجا فى التفكير أثر على الهيئة التى طلع بها الملتقى الفكرى ، ولأنه تناول قضايا فكرية خطيرة بت فيها بالرأى وقطع فيها بالحجة المنهج الذى جرى كالخيط المتصل فى حديث الدكتور منصور سمته وطابعه الغالب الفصل بين الفكر والتطبيق ، بين النظرية والعمل ، سأدخل فى باطن هذه النتيجة فيما بعد بقدر ما لاحظت من تفاصيل ، وفى رأيى أن هذا المنهج الفكرى هو الذى صاغ الملتقى الفكرى على الهيئة التى خرج بها بما طرح من قضايا وما قدم من حلول من قبل مهندسى هذا الملتقى ، فالنظرة السريعة لجدول أعمال الملتقى تدعم هذه الحجة اذ أن القضايا المطروحة قدمت بصورة مطلقة وبطريقة معزولة عن أخطر المشاكل التى تواجه الفكر العربى والعمل العربى على حد سواء .
وفى رأيى أنه من المستحيل مناقشة القضايا النظرية للثورة العربية بعيدا عن المشكلة الجوهرية التى تواجه الجماهير العربية ، وأعنى هزيمة يونيو 1967 . وما دفعت به من قضايا على رأسها الاحتلال الأجنبى للأراضى العربية ، وما تفرع من هذا الواقع من مشاكل فكرية وعملية . ,
لقد وقعت حرب يونيو ، لا ينفى من وقوعها حقيقة أنها حرب خاطفة حس م أمرها فى ستة أبام أو أقل من ذلك بكثير ، كما لا ينفى نتائجها الادعاء بأن الجماهير . لم تشارك فيها . وكل الحجج التى قيلت تبريرا لواقع الهزيمة لا تنفى ذلك الواقع و تقلل من ثقله والحرب هى الامتحان العسير الذى لا تخطىء مقاييسه ، لا فى تقييم الأجهزة العسكرية وحسب بل فى تقييم الأجهزة الاقتصادية والسياسية والفكرية .
وحرب يونيو طرحت للتفكير وللتفهم النظرى كافة أوجه النشاط الثورى العربى خلافا لحرب 1948 . فالصوت العالى فى عام 1948 كان للقوى الرجعية بينما كان الصوت المدوى عام 1967 للقوى الثورية العربية .
فكيف اذن يمكن مناقشة الأرضية التى التى تتحرك منها الثورة العربية مثلا أو المرتكزات الفكرية والروحية لها -
الى نهاية جدول الأعمال الذى وضعه مهندسو الملتقى الفكرى بعيدا عن واقع الهزيمة ، وما أثارت من رؤى جديدة وما أجرت من تحديات للفكر الثورى العربى .
العقبة الأساسية :
لا يستطيع الانس ا ن أن يفهم فكرا اشتراكيا يتناول قضايا الاشتراكية ويبحث عن التراث الروحى والفكرى للثورة العربية بعيدا عن المعاناة العملي ة للجماهير العربية فى هذه اللحظات الحاسمة من تاريخها . كما أن هذا بعيد أيضا عن منابت الفكر الاشتراكى الجاد فى البلدان العربية وهو الذى نما عبر نضال طويل وقدم وفق قدراته الحلول للجماهير العربية وهى تخوض معاركها المختلفة بطريقة تحترمها الجماهير وترد على تساؤلاتها ان لم يغرز أرجله فى تربة الوطن وبين معاركه التاريخية الحاسمة . فقد طرح واقع الهزيمة بحدة أمام الجماهير العربية حقيقة أن الاستعمار الحديث وفى مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية هو الذى يهدد الوجود العربى وهو العقبة الأساسية أمام انطلاق حركة الثورة العربية. الجماهير العربية تنتظر من مفكريها الجادين أن يمدوها بالزاد النظرى لتجمع قواها وتستجمع أوصالها فى معركة هائلة ضد هذه العقبة الخطيرة التى تسد المنافذ أمام الثورة العربية. وقد كان ملاحظا من الكثير أن السيد وزير الشباب - هو الذى يطرح بحكم توليه أمر الندوة وجهة نظر الشعب السودانى . جاء خطابه خاليا من هذه القضية الجوهرية. وعندما يشير السيد الوزير من بعيد الى تلك القضية ، يطرحها بطريقة غامضة كحديثه عن الضغوط الأجنبية والنفوذ الأجنبى .
استشهادا بقول الرسول (صلعم) "أعوذ بالله من علم لاينفع " . ورجوعا الى النظريات الثورية الحديثة وفى مقدمتها الماركسية اللينيينية , والنظرية مرشد للعمل ، ونجد أن الفصل بين الفكر والعمل قاد الى تقديم الندوة بهيئة لا تتمشى واحتياجات الثورة العربية فى ظروفها الملموسة الراهنة . والملتقى بهذه الهيئة لن يضيف الى محصول ندوة الجزائر عام 1967 ، كما اننى أشك كثيرا فى تأثيره على حركة النضال الشعبى العربى .
لقد نشأ هذا الموقف فى تقديرى من المنهج الذى سلكه السيد الوزير فى معالجة قضايا العمل الثورى كما اشرت من قبل . فهو يطرح المنهج السوسيولجى على حد تعبيره بداية بالنظر فى التراث العربى ونهاية بمعالجة قضايا الماركسية اللينينية . وهذا المنهج ليس جديدا على الفكر البشرى ، بل هو يمثل مرسة كاملة بين مفكرى أوربا الغربية فى فرنسا وبين خريجى معهد ماساسوتش للتكنلوجيا (فى الولايات المتحدة) . محتوى هذا التفكير أنه يفسر المجتمع ، تفسير التاريخ ولكنه يحرر كل نظرية اجتماعية من محتواها الثورى . فالمعرفة فى نظره ان كانت تراثا قوميا أو انسانيا لا تعالج بوصفها محصول الجهد البشرى الثورى فى اكتشاف قوانين الطبيعة وتطويعها لارادة الانسان ، وفى اكتشاف قوانين التطور الاجتماعى والقوانين الباطنية لتطور الفكر بل تجرد من الحركة وارادة الانسان فى التغيير وسعيه الدائب للاستحالة والتغ ي ير من حالة الى أخرى . وقد ورط هذا المنهج السيد الوزير فى أخطاء منهجية كبيرة . فالملتقى حسب ماأعلن عنه ، ملتقى للمفكرين الثوريين العرب ، والثورة هى التى تغير المجتمع . ان السوسيولوج يا تبحث عن تفسير المجتمع أصابت النجاح أم لقيت الفشل . ولكن الفكر الثورى لا يضع تفسير المجتمع وحسب بل يستهدف من التفسير وبارادة كاملة اكتشاف القوانين التى تغير المجتمع والعمل لا حداث ذلك التغيير أو الثورة . وفى هذا تكمن منعة النظريات الثورية التى تثير ضجة كبرى فى عالم اليوم ، وتترك أثار أقدامها واضحة على الأرض التى تعبر من فوقها البشرية فى موجات متتابعة للوصول للمجتمع الفاضل .
تصور خاطىء
بهذا التصور الخاطىء اقترب السيد الوزير من قضايا عصرية مقدمة فكان أمرا طبيعيا أن يصل الى نتائج ممعنة فى الخطأ . لقد صور الوزير الفكر الماركسى فى هيئة التحليل النقدى الأكثر تطورا للمجتمع الأوربى المسيحى ، وهاجم المثقفين اليبراليين من العربالذين يرفضونه بغباء وان كانت الماركسية كما صورها الدكتور منصور تحليلا ناقدا للمجتمع الأوربى المسيحى ، فما غناها لمفكر عربى يريد تغيير مجتمع ليس أوربيا وليس مسيحيا ؟
وفى اعتقادى أن المنهج السوسيلوجى الذى يتبعه الدكتور الدكتور منصور هو الذى أوقعه فى هذا التناقض البادى للعين . وباعد بينه وبين الحقيقة . صحيح أن الماركسية نشأت فى أوربا فى القرن التاسع عشر ولكنها كانت فى شقها الاجتماعى الاقتصادى تحليلا ناقدا للمجتمع الرأسمالى . والرأسمالية كما يدرك كل متعلم ليست جنسيتها قاصرة على أوربا ، كما أن دينها - ان كان لها دين - ليس قاصرا على المسيحية . لا أريد أن أرجع الى الشواهد التاريخية فى تطور العلاقات الرأسمالية عبر تاريخ الانسانية حجة على ما أقول ، اذ أن مثل هذه الشواهد أصبحت من بين المعلومات العامة التى ي د ركها كل متنور .
ولأن الدكتور منصور يحلل تطور المجتمع الانسانى ونضال الجماهير من أجل التقدم على أسس حضارية متعارضة فهو يقدم صيغة غريبة للمفكرين العرب فيما يخص النظرية الماركسية .انه يدعو لقبول علاقات الانتاج فى المجتمع الاشتراكى مع رفض الجوانب الفلسفية الماركسية والتى حددها فى "نظرية الحركة عن طريق النقائض ، والنظرية الجبرية التاريخية ، وفكرة نهائية العلم والرؤيا المستقبلية للمجتمع المذهبى" . وقد استشهد فى دعوته بالتجربتين المصرية والجزائرية . وكان الدكتور الداعية للتفسير الحضارى يصور الفلسفة الماركسية جزءا من الحضارة الأوربية المسيحية التى لا يقبل ها التكوين العربى ، فى حين أن القسم العملى منها الذى لا يؤثر على حضارتنا (الاقتصاد) يمكن قبوله . هذا فى تقديرى تصور متعسف للنظري ة الماركسية ، وهى كل لا يتجزأ . فالتنظيم الاقتصادى على الخط الماركسى نتيجة منطقية للمنهج الماركسى فى المعرفة ومحصول طبيعى لكل من المادية التاريخية والفكر الجدلى وهما لب الم ا ركسية . اذا رجعنا الى كتاب رأس المال - ومكانته معروفة فى الفكر الماركسى - نجد أنه تحليل نقدى للانتاج الرأسمالى ولكنه فى نفس الوقت تجسيد للتفسير المادى للتاريخ ، والمنهج الجدلى الماركسى . وما كان لمؤلفه أن يصل الى نتائجه التى يقبلها الدكتور منصور منظمة للاقتصاد العربى الحديث ، من غير أن يتوسل اليها بأدواته الفلسفية . ان النظرية الاقتصادية لفائض القيمة التى يقوم عليها تنظيم المجتمع الرأسمالى هى السند لفكرة الصراع الطبقى وهى التى تؤدى فى نهاية الأمر الى الى تصور الماركسية لحرية الانسان وزوال غربته فى المجتمع اللا طبقى . فكيف يمكننا أن نخرج الاقتصاد الماركسى من هذا النس ي ج الدقيق كما نخرج الشعرة من العجين ؟
نظرية علمية شاملة :
أن الفكر العربى مدعو اليوم لمواجهة مشاكل جماهيرية ملموسة . مدعو لطرح نظرية علمية شاملة تواجه الاستعمار الأمريكى والصهيونى فى الأرض العربية ، تعيد استكمال الحرية الوطنية ، ومواجهة فى الشق الاجتماعى لطرح نظرية تخرج الجماهير العربية من الفقر والشقاء والتخلف الى رحاب المجتمع الاشتراكى ، والنظرية الماركسية منهجا وحصيلة عمل يقدم تحليلا ناقدا للاستعمار الأمريكى والصهيونية . ويقدم دعوة واضحة لاتحاد الجماهير الكادحة فى النضال ضد تحكم الطبقات الرجعية العربية ومن أجل الاشتراكية . وأزمة مجتمعنا ليست أزمة حضارية كما يحتج الدكتور منصور بل هى أزمة المنظمات الثورية والفئات الاجتماعية النشطة فى حقل الثورة السياسية والاجتماعية ، تلك الأزمة التى تحول بينها وبين قيادة الجماهير لحل مشاكل الثورة الوطنية الديمقراطية العربية ثم الانتقال لبناء الاشتراكية . وفى هذا التضال لا مفر من طرح الماركسية اللينينية . وحركة الجماهير هى الحكم . وهى التى تقرر الطريق الذى تسلكه دون وصاية ولا احتكار لمفكر او غير مفكر .
وفى هذا الفرز المبتسر للجانب الاقتصادى للماركسية والجانب الفلسفى منها تورط أيضا السيد الوزيرحينما صور الجانب الفلسفى فى الماركسية على الهيئة التى أورتها من حديثه . لقد هوجمت الماركسية تقليديا بأنها تدعو لجبرية التاريخية وتحجب ارادة الانسان فى تغيير مجرى التاريخ . وهذه حجة قديمة مردودة اذ أن ماركس قدم القاعدة المادية بوصفها الحاسمة فى تطور التاريخ بين عدة عوامل أخرى فى التركيب الفوقى للمجتمع . وهذه ميزة كار ماركس الكبرى كعالم اجتماعى دفع بالتاريخ الى مجال الوضوح النسبى وأخرجه من متاهات الاستنتاجات الذاتية التى تفقد المقياس والمؤشر فى نهاية الأمر . وعندما يقول ماركس بأن نظريته لا تدعو الى تفسير المجتمع بل الى تغي ي ره . وعندما يطرح للقوى الاجتماعية المكلفة تاريخيا بتغيير المجتمع شعاره المعروف : يا عمال العالم اتحدوا ، فانه يفتح الباب على مصراعيه للارادة الانسانية المدركة لذاتها أن تتدخل وتصوغ تاريخ البشرية وفقا لمتطلبات التقدم لا أظن بأننى سآتى بحجة جديدة فى دحض ما أقول . فكلانا يغترف من ماعون اغترف منه الكثير خلال أكثر من قرن من الزمان . أما فى نظرية الحركة فان اسهام ماركس الفلسفى لم يرد فى حيز نظرية المتناقضات التى سبقه اليها أستاذه هيغل بل ترد على وجه التحديد فى أنه قلب جدلية هيغل رأسا على عقب وأخرجها من حيز التفكير الميتافيزيقى الى حيز التفكير المادى والفلسفى المادية . والخطأ الذى وقع فيه دكتور منصور خطأ شائع وذائع أمره بين الكثير من المثقين الذين قرأو ا عن الماركسية ولا يقرأونها .
ويكفينا هذا وسأعود فى مناسبة أخرى لمناقشة قضية "نهائية العلم" كما فهمتها من حديث الدكتور منصور .
المنهج السوسيولوجى :
ولقد أورد المنهج السوسيلوجى الدكتور منصور موارد الخطأ أيضا فى تفسيره لا تجاهات فكرية عربية قديمة وحديثة على السواء . أن ملتقى المفكرين من الثوريين العرب تطرح أمامه بالحاح قضية النظرية الثورية التى يمكن أن تقود الجماهير العربية الكادحة فى النضال ضد الاستعمار الحديث والصهيونية ، وفى سبيل استكمال الثورة الديمقراطية والتوجه نحو الاشتراكية . وعندما يعرض هذا الملتقى لتراث العربى فانما يعرض له ليفرزه وليبنى من فوقه الأفكار الثورية الاجتماعية والسياسية . بين تراثنا نظريته الثورية لتغيير المجتمع العربى فى الثلث الأخير من القرن العشرين ومن فوق واقع الاحتلال الجاسم على صدر الأمة العربية . لا ينكر أحد أن الفكر العربى فى سالف أيامه أسهم اسهاما كبيرا فى ميادين الرشد والعلم . فابن خلدون توصل الى نتائج جزئية فى علم الاجتماع , بل يمكن القول بأنه تصدى للتفسير المادى للتاريخ بقدر محصول عصره من المعرفة . وكل من أورد الوزير ذكره من العلماء الأجلاء أسهم بقسطه فى تنمية المعرفة وفى اثراء منهج العلم القائم على التجربة . لا جدال فى هذا . ولكن العلم يولد تقليديا نظرية ثورية تكون الجماهير العربية زادها وعدتها فى المعركة المصيرية الراهنة . ان العلم ، وقد استقر بين الفكر الأوربى خلال فترة النهضة ثم فترة التنوير والثورة الصناعية لم تتولد منه بصورة عفوية النظرية الثورية التى نقدت المجتمع الرأسمالى ، بل أن ارادة الانسان وفعالية الفكر وتعمده هى التى ولدت النظرية الاشتراكية بعد أن تهيأت لولادتها الشروط الموضوعية اللازمة . ان استكشاف الجوانب المضيئة فى حضارتنا العربية ووضعها فى مجرى الحضارة الانسانية أمر لايختلف حوله اثنان . ولكن المشاكل التى تواجهنا عموما تقع فى ميادين أخرى غير هذا الميدان . فالصدام بين الشعوب العربية والاستعمار الأمريكى لا يرجع لصراع بين الحضارة العربية والأمريكية . بل يرجع للطبيعة التوسعية للنظام الرأسمالى الأمريكى . وتخلف مجتمعاتنا فى القرن العشرين وقصورها عن تحقيق مجتمعات اشتراكية متقدمة لا يرجع لتنكبنا طريق السلف الصالح أو لننا أولينا ظهورنا لمجتمع فاضل كنا نعيشه فى الماضى ولكن لأننا لم نستطع أن ندخل الوعى الاشتراكى بين جماهيرنا الكادحة المجاهدة، وأن نفجر طاقاتها لتهدم العلاقات الاجتماعية القديمة وتبنى فوقها علاقات متقدمة تستشرف الاشتراكية . ومايفيد من تراثنا فى هذا الميدان هو ما بذل الثوار العرب عبر تاريخنا الطويل فى سبيل نصرة الحق ، والتصدى لمشاكل الجماهير العربية المغلوبة على أمرها . وما قدم أولئك الثوار من نظريات تدعو لتقدم المجتمع وتطوره والتفكير العلمى الذى وطد أركانه المفكرون والعلماء العرب الذين ذكر السيد الوزير طرفا من أخبارهم يمكن فى حركة البعث العربى المعاصرة أن يسهم بدوره فى اقرار العلم منهجا للفكر الثورى الداعى لتغير المجتمع والعامل فعلا لذلك التغيير . كل ذلك يتم على أساس منهج نقدى يربط حاضر حركتنا الشعبية بماضيها .
حاضر الفكر العربى :
وهذا الخلط فى فهم مايدخل من تراثنا فى بنية النظرية الثورية التى تقود حركة الجماهير العربية - وهو خلط ناتج عن المنهج الخاطىء الذ سلكه الدكتور منصور خالد - قاد صاحبه أيضا الى أخطاء فى تق ي يم حاضر الفكر العربى . فهو على سبيل المثال يورد سلامة موسى رائدا من رواد "الاسلوب الاشتراكى طريقا للحياة" ، وهذا خطأ تردى فيه المتحدث . ان اسهام سلامة موسى الحقيقى فى الفكر العربى هو طرحه للمنهج العلمى وتقديمه لنظرية النشوء والارتقاء الداروينية . ونستطيع أن نقول أنه والدكتور مندور كانا من رواد الفكر الليبرالى فى المنطقة العربية . صحيح أن الأستاذ سلامة موسى فى بعض ما أنشأ الى الاشتراكية ولكنه كان متأثرا بالاشتراكية الفابية التى سقطت فى معارك التحرر الوطن ي لأنها اشتراكية الأقسام العليا من الطبقة العاملة الأوربية المتشابكة المصالح مع الاحتكارات الاستعمارية . كذلك يظل تحليل الدكتور منصور قاصرا حينما يعرض للتجربة الثورية فى كل من مصر والجزائر ، وال م ؤثرات الفكرية التى أحاطت بهما ، ليقفز من فوق مقدمات تاريخية طويلة ليصل الى ما قبلت الثورتان من النظرية الماركسية وما رفضتا . ان هذه المقدمات هامة وخاصة فى تفهم الثورة المصرية . يمكننا أن نلخص هذه المقدمات فى قولنا بأن الثورة المصرية طرحت أفكار التقدم الاجتماعى بعد أن خاضت تجارب طويلة كثورة وطنية ضد الاستعمار البريطانى ومن بعده الاستعمار الأمريكى . خلال هذه التجارب حققت مصر استقلالها الاقتصادى وبدأت تواجه مشاكل التنمية الداخلية . ولكن الضغوط الاقتصادية ذات الطابع الاستعمارى جعلت من المستحيل تحقيق الأمن الوطنى والتقدم الاقتصادى من غير اللجوء الى قطاع الدولة فى الانتاج . وقد كان دخول هذا القطاع فى قيادة الاقتصاد المصرى وخاصة بعد اجراءات يوليو هو الأساس المادى للأفكار التقدمية والاجتماعية الجديدة . أعتقد أن هذا الطابع الوطنى ال ج اد للثورة المصرية هو الذى جعلها تميل فى الميثاق الى أفكار اجتماعية فيها كثير من الصلابة . وبها رفض قاطع للاشتراكية اليمينية الوافدة من غرب أوربا . والميثاق خلافا لتقييم الدكتور منصور يأخذ بعض الجوانب الفلسفية الماركسية كما صورها . فهو يقر المنهج الطبقى فى تحليل الحياة السياسية المصرية ! ويؤكد حتمية الحل الاشتراكى تاريخيا . كذلك نلحظ فى التجربة المصرية غياب نظرية شاملة ومنهج شامل قاد خطواتها للوصول الى أفكار التقدم الاجتماعى التى طرحت بوضوح فى الميثاق . أكد الميثاق هذه الحقيقة عندما أكد أن "هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثورى من غير تنظيم سياسى يواجه مشاكل المعركة . كذلك فأن هذا الزحف الثورى بدأ من غير نظرة كاملة للتغيير الثورى ."
* ميثاق العمل الوطنى :
ان تقييم هذا العامل أمر هام بالنسبة لتقدم العمل الثورى العربى ، فبعض المفكريين اليمينيين يصنعون نظرية كاملة لتبرير غياب النظرية الشاملة فى العمل الثورى العربى استنادا الى التجربة المصرية . محتجين بأن الفكر العلمى يقوم على "التجربة والخطأ" وفى اعتقادى أن غياب النظرية الشاملة أضر بمسيرة الثورة فى مصر وأخر من خطواتها كما أنه حرمها فترة من اتخاذ مكانتها التاريخية بين النسيج الثورى فى المجتمع المصرى قبل ثورة يوليو . وقد كان وضع الميثاق ثم ما أعقبه من نشاط سياسى فى مصر تصحيحا لتلك الثغرات ، فعندما يطلع بعض المثقفين مبشرين الآن لغياب نظرية شاملة للتطور فانما ينسخون تجارب طويلة وحقبة غنية من تاريخ الثورة المصرية . والخطير على الفكر العربى هو احتجاج هؤلاء المثقفين بالتجربة والخطأ فى كل ميادين المعرفة الاجتماعية . ان مقياس التجربة والخطأ هو المقياس العلمى مافى ذلك شك . والمثقفون الداعون لذلك لا يضيفون جديدا الى ماهو معروف لدى كل من له قسطا قليلا من التعليم . ولكن التجربة والخطأ شىء والدعوة الى فقدان المنهج ، الى فقدان النظرية شىء آخر . الأول صحيح لأنه المقباس الوحيد لمعرفة صحة العموميات النظرية والثانى خطأ لأنه دعوة للتجريبية وهى فلسفة متكاملة تلغى وجود الحقيقة . والأخطر فى هذه الفلسفة أنها عندما تطبق فى العمل السياسى تفقده كل محتوى ثورى وتشكل عقبة خطيرة فى نضال نضال الشعوب وقضاياها . اذا طبقت هذه النظرية فى ميدان النضال الوطنى أنزلت عليه الخراب لأنها تحرم الشعوب من يقينها الواقعى فلا صديق للشعوب ولا عدو لها الا بعد التجربة . وان طبقت أيضا فى ميدان التغيير الاجتماعى نسفت كل جهد شعبى فيه ، فلا منهج يتبع ، كما أنه ليست هناك صيغة للمجتمع التقدمى أو الاشتراكى يناضل الشعب من أجلها .
فى رأيى أن تبرير الفترة التى غاب فيها منهج العمل الثورى فى مصر ، وتقديم نظرية لهذا الموضوع كما فعل الدكتور منصور فى وقت تجاوزت فيه التجربة المصرية هذه الفترة ، دعوة واضحة للتجريبية. وهذا خطر على نضالنا الوطنى ضد الاستعمار ، وعلى نضالنا الديمقراطى من أجل التقدم الاجتماعى والاشتراكية . وهو خطر أيما خطر فى فترة نحن أحوج مانكون فيها لنقد أنفسنا وللبحث العميق فى ذواتنا لكى نخرج بالنتائج السليمة من واقع هزيمة 1967 . وهو أيضا منهج خطير بالنسبة للثورة السودانية التى تأتى فوق مطامح عالية للجماهير الشعبية فى بلادنا وقد حرمت لأكثر من ثلاثة عشر عاما من جنى ثمار الاستقلال فى كل ميادين العمل السياسى والاجتماعى على حد سواء . ان نجاح التجربة الشعبية التى يخوضها شعبنا منذ الخامس والعشرين من مايو يشمل كل الجماهير الكادحة ويشركها فعلا فى النشاط الخلاق لتغيير الواقع الاقتصادى الى ثورة اقتصادية تصلح جذور التخلف . والتفكير البراغماتى الداعى لغياب نظرية شاملة للعمل الثورى يخلق هوة بين مطامح الجماهير وحركة الثورة السودانية لتلبية هذه المطامح . هناك رغبة مشروعة فى فى التغيير الاجتماعى الحاسم والسريع ، وهناك توقف انتظارا لاكتشاف الحقائق المتغيرة على الدوام وفقا للنظرات الذاتية العملية لدعاة الفلسفة البرغماتية .
لقد أطلت وشفيعى فى هذه الاطالة المملة أن حديث الدكتور منصور مس قضايا فكرية خطيرة ذات أثر على الثورة العربية والثورة السودانية رأيت من المهم التصدى لها ومانلتها جميعا . ولكل مقام مقال ولكل شيخ طريقته .
( عبد الخالق محجوب ‘ جريدة الأيام بتاريخ 22 مارس 1970 )
قصيدة جيفارا مات للفاجومي أحمد فؤاد نجم ... القصيدة بصوت الشيخ امام