(1) مدينته
*******
في البداية تمنعت عليً الكلمات وتوارت واحتجبت وأبت ان تطاوعني وأنا مقدم على الكتابة عن أخي وصديقي وزميلي ورفيق الطفولة والصبا والشباب.. شاعر (أمتي) الراحل العزيز محمد المكي إبراهيم؛ بينما كنت أحسبها سوف تتساقط عليَ بسخاء وأريحية في مناسبة وداع فارسها وسيد بلاغتها وطباقها وجناسها وتشبيهها وعروضها وبحورها وقوافيها، الذي ظل دوماً يزينها بالإبداع والسحر والطلاوة.
وجدت العذر (للكلمات) في ذلك التمنع وعدم التجاوب، ونحن في مناسبة الاحتفاء بالذكرى، لكونها ترفض فكرة (الرحيل) و(الذكرى) من الأساس، وهي التي تعودت ان تتدفق وتنساب بسلاسة وعذوبة وبهجة وإشراق، في نقل قصائد وأناشيد الصديق العزيز المفعمة بالجمال، والنابضة بالحياة.
حاولت ان أجد تفسيراً آخراً لإحجام (الكلمات) عن الانطلاق، في تهيبها ارتياد الميدان الصعب المحفوف بمرارات الغياب؛ في أنها ربما تكون قد أحست بأنني أنوي أن أستخدمها قارباً أعبر به بحراً لا ضفاف له وسط أمواج لُجِيَة وأنواء عاتية؛ وأنني ربما ألقي عليها أعباء ثقيلة، وأرهقها بمطالبتها التعبير عن مكي الشاعر، ومكي الناقد الأدبي، ومكي الدبلوماسي؛ وعن فيض ذكرياتنا، وتفاصيل صداقتنا ومسيرة حياتنا المشتركة، بكل زخمها؛ والخوض بها في عباب بحور الشعر والنقد الأدبي، ووسط أمواج قضايا الفكر والاستنارة والتحديث.
فلنعذر (الكلمات) يا أصدقاء، ولا نحملها فوق ما هي عليه من عناء، ونكتفي بما تكنه الصدور، وما نحمله في سويداء أفئدتنا من حب ومَعزَة وتقدير لصديقنا العزيز.
لقد هَوَنَ عَليَ الصديق عمر الفحيل، والرفاق الأوفياء بالدوحة، وعلى (الكلمات) كذلك، بأن اقترح بأن يكون محور ومرتكز هذه الإطلالة هو، (إضاءات حول البيئة المجتمعية والثقافية التي شكلت شخصية محمد المكي إبراهيم، وساعدته على ذلك العطاء الذي أثرى به الساحة الأدبية)، حيث يرون أن شخصي الضعيف مؤهَلٌ لذلك.. لهم مني الشكر على هذه الثقة التي أعتز بها..
تجاوباً مع رغبة الأصدقاء تلك، ومتطلبات التنسيق، آثرت أن أقصر الحديث واجترار الذكريات العذبة عن الصديق (ود المكي) على (مدينته) و(جيله).
مدينتنا الأبيض، مهاد الحسن ومهد الجمال، ذات النسيم العذب والنفس العطري، كما وصفها عاشقها ومبدعها، جمعتنا وكان يلهو صبانا باعتزازٍ كماردٍ متعالِ، فكان أن أمدنا حبلها السري بالهوى والجمال والاعتزاز وحب الوطن.. تنسمنا شذا أريجها الفواح، وريح أهلها الطيب، وعشنا وسط تلك البانوراما ذات الألوان الزاهية والسحنات المحببة واللهجات التي تنبض إلفاً وحنيةً يا (ولض أمي)، والمعتقدات المختلفة التي لا تزيد أهل مدينتنا إلا تعايشاً وتقاربا ودوداً، فلا عجب أن بعث إبن الأبيض (جورج فرانسيس زرزور) برسالة من مهجره النائي بأستراليا إلى (نيافة) السيد البكري، يطلب منه بأن يذكره في صلواته، حيث أنه مقبل على عملية جراحية!
لا يخطر على بال أيٍ أحدٍ من أهل الأبيض أن يسأل، أو يسأله أحدٌ يوماً، من هو؟ أو لأي عرق ينتسب؟؛ حيث أن الجميع منصهرون في تلك البوتقة من السماحة والمحبة، التي تجسد النموذج الفريد للوحدة الوطنية، التي نأمل أن نراها تعم كل سوداننا الحبيب.
في بحثنا عن المؤثرات التي أسهمت في تكوين شخصية محمد المكي، وفي إثراء ثقافته، ودفعه على طريق الإبداع، وفي توسعة خياله وتشكيل وجدانه، لا بد لنا أن نبدأ بالإشارة أولاً إلى جذوره الأسرية التي تمتد إلى (الأستاذ) (قنديل كردفان) السيد إسماعيل ابن عبد الله، مؤسس الطريقة الإسماعيلية، والتي هي الطريقة الصوفية الوحيدة السودانية الخالصة، منشأً وقيادة..
احتج أحد الأخوة الأعزاء من أبناء حي (القبة) على وصفي للسيد إسماعيل الولي بأنه (مثقف وطني مستنير)، إذ أنه يرى أن ذلك وصف لقائد يساري!؛ غير أن السيد إسماعيل كان بالفعل كذلك؛ حيث له أكثر من سبعين مؤلفاً في التصوف والفقه وفروع المعارف المختلفة، وفي التاريخ والأدب والشعر؛ ولقد اتسم فكره بالأصالة والالتصاق بالبيئة الثقافية والاجتماعية المحلية. قدم السيد إسماعيل السند الروحي لمواطني كردفان في مقاومتهم لتجاوزات وقسوة الحكام في بدايات التركية، وقد واصل ذلك الدور ابنه السيد المكي.
من ثمرات الحيوية الاقتصادية والروح الجماعية التي سادت في مدينة الأبيض، ازدهار الحركة الوطنية والثقافية والفنية والرياضية، وبروز رموزها الأَعلام، النجوم الساطعة في تلك الميادين. كانت دور الأحزاب والأندية الثقافية والاجتماعية والفنية، تعج بالحركة الدؤوبة والنشطة. لقد استضافت الأبيض في بداية الخمسينات (المهرجان الثقافي) الذي كان ينظمه مؤتمر الخريجين، والذي كان يهدف إلى تعزيز الثقة في مقدرات البلاد وهي تخطو نحو الاستقلال.. وكان أن هجرت الفتاة السودانية (طول الرقاد يوم أن قامت تنادي الاتحاد).. نشيد الاتحاد النسائي الوليد، الذي صدح به الفنان أحمد المصطفى بنادي الخريجين بالأبيض لأول مرة. كانت تلك رمزيةٌ ذات معنى عظيم، وتعبيرٌ عن الروية المستقبلية المستنيرة لدور المرأة في السودان الجديد.
من العوامل ذات التأثير العميق في تشكيل الخلفيات الثقافية لجيلنا، جيل محمد المكي إبراهيم، ونحن في سنوات الصبا الباكر، (منظومة كردفان)، تلك المؤسسة التنويرية الشاملة، التي تضم (جريدة كردفان)، و(مطبعة كردفان)، و(صالون كردفان الأدبي)؛ لمؤسسها الدكتور الفاتح النور، الذي هو نفسه نتاج بيئة مدينة الأبيض المحفزة على البذل والعطاء والتفوق.
إلى جانب (مكتبة كردفان) التي كانت تغذي المدينة بالصحف والمجلات من مصر وبيروت، أسهمت (مكتبة الجماهير) أيضاً في إثراء مجتمع المدينة بالكتب والمطبوعات من الاتحاد السوفيتي والصين، مما أتاح للقراء والمهتمين بقضايا الفكر والسياسة التهام أدبيات الماركسية، والثورة الثقافية في الصين الجديدة؛ كما وفَرت للمعنيين بقضايا الأدب والثقافة، الوصول بيسر وسعر زهيد، إلى مؤلفات أدباء وشعراء روسيا الكلاسيكيين من أمثال توليستوي وديستيوفسكي وجوركي وبوشكين وغيرهم.
تلك هي البيئة الاجتماعية والثقافية الثرية، والمناخات المترعة بكل ما هو ملهم وجميل، التي نشأ وسطها، وتأثر بها محمد المكي إبراهيم، وتشبع بكل ما ذخرت به من بهاء ورحابة.
عايش أبناء جيلنا آنذاك، ونحن لما نزل في سنوات العمر الباكرة، أجواء ما قبل الاستقلال، وقد بدأت تلوح في مجتمع المدينة ملامح رؤى فكرية حداثية، ومفاهيم جديدة، يحمل رايتها شباب من جيل ما بعد مؤتمر الخريجين. انخرطوا بِهمَةٍ ورغبة في العمل الثقافي والاجتماعي، وشاركناهم بتنظيم وتنفيذ حملات محو الأمية، والمسرحيات والندوات، وغيرها من الأنشطة التوعوية الهادفة، التي كان يضطلع بها اتحاد طلاب كردفان، انطلاقاً من (نادي الأعمال الحرة).
نحن ممتنون بالكثير لمدينتنا الحبيبة، أرض ميعادنا ومحبتنا، من غرست في نفوسنا بذرة الوطنية والعزة والانتماء. والزهد والتواضع والسماحة والصفاء.. من أورثتنا الوعي الذي به (تحيا خلايا الدهر والأشياء).. ومن فَجَرَت بوجداننا (نبع الحياة ومجدها الأبدي).
سوف ندع السلام (يدشن الشُرَفَ الجديدة)، وسنرفع الرؤوس ونُبارِك فَرحَ الحياة.
محمد المكي إبراهيم.. مدينته وجيله (2–2)
سوف أقتصر الإضاءات التي أود تقديمها عن (جيل محمد المكي إبراهيم)، على تأثيرات مراحل الدراسة المختلفة، على تكوين شخصيته كمثقف وطني، وبلورة رؤاه الفكرية، وإثراء مقومات عطائه الأدبي.
بدأت بذرة تميز المكي تتفتق منذ المرحلة الوسطى، مُبشِرةً بما ينتظر ذلك التلميذ الواعد من دور أدبي في المستقبل. لعل مرد ذلك إلى الخلفيات الثقافية والاجتماعية الثرية لمجتمع مدينة الأبيض، التي سلفت الإشارة إليها؛ وإلى التشجيع الذي كان يجده من أساتذته الذين أعجبوا بسلامة لغته، وبأفقه العريض الذي يفوق عمره.
كانت الأميرية الوسطى آنذاك هي المدرسة الحكومية الوحيدة في كل غرب السودان، وتضم طلاباً من مختلف ربوع مديريتي كردفان الكبرى ودارفور الكبرى. ساعد ذلك التمازج والتنوع على تأسيس صداقات باقية بين الطلاب، وإثراء وجدانهم وخلفياتهم الثقافية بالإبداعات والفنون الأصيلة، والفولكلور الغني الذي تحفل به تلك الديار الحبيبة.
انتقل بعدها الصديق محمد المكي إبراهيم إلى ثانوية خورطقت الفيحاء، وكانت تلك السنوات هي الأكثر تأثيراً في تكوين شخصيته، حيث حفلت (الفيحاء) بفضاءات رحبة وموحية، وبالعديد من العوامل المحفزة على التفوق والإبداع. يأتي على رأس تلك المحفزات:
مناخ الحرية، والإحساس العالي بالمسؤولية الوطنية في سنوات الاستقلال الوليد آنذاك، وروح التسامح الناتجة من الممارسة السليمة للديمقراطية في الجمعيات واتحاد الطلبة، والإبداع الناتج من العناية التي كانت توجه للفنون والمسرح.
هذا إلى جانب خضرة ريف كردفان اليانعة، وخريفها المعطر بالدعاش المنعش، وجبالها الرواسي، الداجو وكرباج، التي تُعمِقُ في النفس الإحساس بالرسوخ والشموخ. لا بد أن يكون لجمال الطبيعة ذاك قد لعب دوراً في إثراء خيالات مكي وزملائه شعراء (الفيحاء)؛ ولقد كان شعراء مثل (كيتس) و(كولريدج)، يستمدون الإلهام من جمال الريف الإنجليزي، ومنطقة البحيرات بأسكوتلندا.
تلك هي البيئة التي ألهمت شعراء خورطقت الشباب، حمزة حسين العبادي، وصافي الدين حامد البشير، وعبد الرحيم أبو ذكرى، ومحمد المكي إبراهيم؛ وهنا أستعير هذه العبارة الزاهية من إحدى رسائل صديقي العزيز مكي: “الشباب هو عمر الشعر الرائع العميق الذي ينبغي انتهازه لاقتناص وردة الشعر وتعبئة الروح بسحرها الفريد”.
كانت الحركة الطلابية بخورطقت تتفاعل وتتجاوب مع الأحداث الوطنية والقومية الهامة التي شهدتها تلك السنوات؛ مثل الاستقلال، والعدوان الثلاثي، ومأساة عنبر جودة، وحلايب، وقانون الطوارئ. كان رئيس اتحاد الطلبة، لأكثر من دورة، الأديب والشاعر صافي الدين حامد البشير، والذي ظل يقود ويوجه العمل الطلابي والوطني بمسئولية، تسمو فوق الصراعات.
إلى جانب قضايا العمل الوطني، كان صافي الدين، بكاريزميته العالية، وأفقه الفكري العريض، يرعى الحركة الأدبية بالمدرسة، ويحفز كل من تظهر لديه بشريات الإبداع، دون تقيد بما هو توجهه الفكري، وذلك استلهاماً لشعار الثورة الثقافية في الصين (دعوا مائة زهرة تتفتح). كان الأدباء الشباب سعيدين بتلك الرابطة، وذلك التمازج والتلاقح، الذي يساعدهم على تبادل تجاربهم، والتحاور حولها بودٍ وصفاء، إلى جانب مناقشة لموضوعات الثقافية العامة.
كان محمد المكي إبراهيم من بين أولئك المبدعين الواعدين، وكان لصيقاً بصافي الدين، حيث جمعهما السكن في (داخلية علي دينار).
من منارات الثقافة بخورطقت أيضاً، الصحف الجدارية، ومن بينها صحيفة (آراء) التي كانت هي المنبر الذي ساعد على التعريف بالإشراقات المبكرة للكثيرين من الكتاب الشباب. عرفت (آراء) بالمستوى الرفيع من الكتابات ذات الجودة والعمق، وبتغطيتها للموضوعات والأحداث الثقافية والوطنية.
في ظل تلك البيئة الطبيعية والثقافية المواتية، كان انفتاح أبناء الجيل على الفكر الإنساني الجديد، والتشبع بقيم الحق والخير والجمال والاشتراكية والعدل الاجتماعي، التي كانت من العوامل ذات التأثير الفعال في إنتاج ذلك الشعر الحداثي البديع لمحمد المكي إبراهيم وزملائه من أدباء وشعراء تلك الفترة، الذين كتبوا باكراً شعراً نابضاً بحب الوطن، وشعراً أممياً وإنسانياً رفيعاً.
من أمثلة ذلك، الشعر الذي تدفق تضامناً مع (لوسي) الطالبة بجامعة ألباما، التي حرمها العنصريون في الجنوب الأمريكي من مواصلة دراستها؛ وتعاطفاً مع ضحايا المكارثية في أمريكا، ومناصرةً لشعب فلسطين، ولم تكن قد مضت على (النكبة) آنذاك سوى أعوام ثمانية. غنينا (للسلام والحب والأمل)، وكان قد مضى آنذاك عقد واحد على نهاية الحرب الكونية المدمرة. كنا مزودين بثقة عظيمة في أن (قوة الشباب ستصنع المحال).
في إحدى رسائله لي، استعاد الصديق محمد المكي قبساً من ذكريات تلك السنوات النواضر، حيث خاطبني: ” تذكر بكل تأكيد فورة الحماس والغناء الجميل التي ملأت أرواحنا عشية استقلال بلادنا منتصف الخمسينات واستمرت معنا عبر أكتوبر المجيد.. ثم انطفأت الجذوة، وبدا الكفر الأصلع يطل برأسه في كل الأنحاء”.
ثم كان الانتقال إلى جامعة الخرطوم، في عهدها الزاهر، الحافل بالحيوية، والخصوبة الفكرية والأدبية، والأحداث الوطنية والقومية، التي أذكر من معالمها البارزة: مقاومة الحكم العسكري الأول، والعمل الدؤوب لاستعادة الحريات الديمقراطية، الذي تتوج بثورة أكتوبر الخالدة، والتي ترسخت في وجدان الوطن بالأناشيد البديعة والباقية للصديق العزيز محمد المكي إبراهيم، الذي ارتبط اسمه بأكتوبر ارتباطاً لا ينفصم.
إلى جانب ذلك، كان التضامن مع أهالي حلفا، ومساندة الثورة الجزائرية، وحركات التحرر الوطني في الكونغو وأنجولا، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومناهضة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. كان الجميع يشاركون بحيوية في ذلك الفيض الدافق من الأنشطة؛ حيث لا مكان للعزلة والتقوقع والانزواء.
كذلك كان الحوار يدور بحيوية حول قضايا الفكر والأدب والسياسة؛ وكان له دوره المؤثر في تشكيل الخلفيات الثقافية لمحمد المكي إبراهيم وجيله.
الإشعاع المنبعث من كلية الآداب، ومن فيض علم اساتذتها الأعلام، لم يكن نفعه يقتصر على طلابها، بل يمتد إلى خارج أسوار الجامعة، وصولاً إلى المجتمع الثقافي السوداني العريض. كانت مناهج الكلية تبحر بالطلاب عبر كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، مثل مسرحيات شكسبير، ومؤلفات تشارلز ديكنز، وأميلي وشارلي برونتي، وأشعار كوليردج، وبايرون، وإليوت، وشاعر سكوتلاند الكبير روبرت بيرنز.
كانت (العلوم السياسية) تُدرَس في كليات الاقتصاد والآداب والقانون، مما أتاح لطلاب تلك الكليات المشاركة والتحاور حول قضابا الفكر السياسي والقانوني والفقه الدستوري الأوروبي، والنظريات السياسية وتطورها عبر القرون، والإلمام بموضوعات مثل الماقنا كارتا (الميثاق العظيم)، وتطور فكرة العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو، ورؤية جون لوك للقيم الأخلاقية، ورؤية مونتسكيو للفصل بين السلطات.
خارج المدرجات، وبعيداً عن المناهج الرسمية للكليات، كانت تورق بساتين يانعة أخرى تتفتق في دار الاتحاد، وعلى منابر أركان النقاش في الجمعيات و(قهوة النشاط)، ومن على صفحات الصحف الجدارية (مساء الخير) و(آخر لحظة) اللتين تصدران كل مساء لتغطية الأحداث الساخنة. كانت هناك أيضاً الصحف المعنية بالشأن الثقافي، منها (الغد) التي كان يحررها علي المك والحسين الحسن، وهي تغطي موضوعات عميقة، مثل الحضارات السودانية التاريخية، وفكر (نكروما) عن الوحدة الإفريقية، وإلهام (فانون) لحركة التحرر الوطني، وعن شعر الشرقاوي والجواهري والبياتي؛ وصحيفة (الوجود) التي كان يقدم فيها النور عثمان أبكر إضاءات عن فكر (سارتر، وسيمون ديبفوار، وألبير كامو. كذلك ازدهرت في تلك الفترة الحوارات الخصبة حول قضايا الهوية الثقافية، وتحديث الشعر السوداني، التي كانت لمحمد المكي إبراهيم ورفاقه، علي عبد القيوم ومحمد عبد الحي والنور عثمان أبكر، أدوارٌ بارزة في بلورتها وإثرائها بأشعارهم البديعة، التي أسهمت في تعزيز تلك الهوية، ومنحتها أيقونتها (الغابة والصحراء).
في قمة مأساة وطننا العزيز، لنتزود يا أصدقاء بالثقة، وبهذا التفاؤل المنبعث من كلمات شاعرنا (محمد المكي) المفعمة بالبهاء والإشراق؛ ولنثق بأننا سوف (نمد بساط الزهر، ونحتطب النخيل، وننحر للقادمين ذبائح البهج الخفي، ونفرق العيد والبشرى وأمجاد القطاف وموسم الحب). وأننا، في أعلى قمم الشمس (سنفرش للأضياف موائدنا، ونُركِز في أحشاء الأرض بيارقنا وندق طبول التمجيد لأمتنا ونغني للشعب، على قيثارة السادة والفرسان، ملاحم العزة والحرية).
دعواتنا للراحل العزيز بالرحمة والمغفرة