الموصل / مكتب المدى / نوزت شمدين
كان شارع النجفي والى زمن قريب واحداً من أهم الرموز الثقافية لمدينة الموصل ومعلماً مهماً من معالمها ، حيث اشتهر هذا الشارع الذي يربط باب الطوب بسوقي الشعارين والسرجخانة ، ومنذ بدايات القرن الماضي كسوق متخصصة في بيع الكتب وإعارتها وتصحيفها ، يلتقي فيه المثقفون من أدباء وصحفيين وباحثين وفنانين ، فيجتمعون في مكتباته الكثيرة أو يتحلقون حول ( بسطيات ) الكتب في مدخل السوق خصوصاً في أيام الجمع والعطل فيبدو الأمر وكانه مهرجان أو احتفالية ثقافية بدعوة عامة . اليوم والنجفي يقترب من مئويته لا يمكن العثور بسهولة على ملامحه القديمة التي تغيرت بفعل الحصارات والحروب ، وهجرة الكتب لرفوفها بعد أن تخلى المثقفون لضيق ذات اليد عن إدمانهم العتيق في اقتناء الكتب . فتحولت مكتبات الشارع إلى محال للصاغة والعطور والقرطاسية والكرزات والحلويات واللحم بعجين !؟ .
( شارع النجفي بين الحاضر والماضي )
كان لابد لنا من مرشد نستعين بذاكرته أو رؤيته في مسح الغبار عن صورة شارع النجفي القديمة ، فوجدنا في قيصرية ( الشبخون ) ضالتنا وهو الأستاذ الكاتب ( شريف هزاع شريف ) صاحب مكتب الرواق للاستنساخ ، سألناه عن سر تسمية ( النجفي ) التي أكتسبها هذا الشارع ، وأسباب تحوله إلى نشاط بعيد كل البعد عما عرف به في السابق ؟ .
- سمي الشارع باسم النجفي نسبة إلى عائلة ال ( أنجيفي ) التي كانت تملكه ومازالت تحتفظ بملكية الكثير من محاله ، وهي عائلة موصلية عريقة ذكر لي والدي أنها كانت تعمل في بيع نوع من الخيوط يطلق عليه ( النجيفيات ) وهكذا فهي قد استمدت أسمها من مهنتها شأنها في ذلك شأن العديد من العائلات الموصلية العريقة كعوائل ( البزاز ، والصابونجي ، والديوجي ) وغيرها . ثم وبمرور الأيام تحول أسم العائلة والشارع إلى النجفي وليست بينهما وبين مدينة النجف الأشرف أية صلة .
كبار السن يتذكرون شارع النجفي سوقاً عامرة بالمكتبات ، ونحن من بعدهم وجدناه كذلك ولغاية التسعينيات من القرن الماضي ، أما في هذه الأيام فلم يبق سوى عدد قليل جدا من المكتبات وهي تلك التي قاومت الظروف والمتغيرات وظلت صامدة في الأزقة الفرعية لأن الكساد الذي أصاب الكتاب وارتفاع بدلات الإيجار دفعت البقية في الشارع الرئيسي إلى تبديل نشاطها من بيع الكتب إلى بضائع أخرى أكثر فائدة في الأقل بالنسبة لأصحابها . وكما ترى مكتبي الصغير هذا فلقد كان قبل عام 1999 مكتبة الرواق وكنت أبيع فيها الكتب واقوم بتصحيفها وكان أصدقائي من الكتاب والأدباء يترددون هنا ويملئون المكان صخبا وهم يتبادلون حواراتهم الثقافية ، أما اليوم وبسبب من الأوضاع الاقتصادية وأسباب أخرى عديدة فهاأنذا وحيد وأمامي جهاز ( استنساخ ) جامد لا يحس بشيء !!؟ .
( عصافير إلكترونية )
بمصاحبة الأستاذ شريف بدأنا جولتنا في مدخل السوق من جهته الشرقية حيث باعة الرصيف الذين ظلوا أوفياء لمهنة بيع الكتب وان اختلفت نوعية البعض منها عما كانوا يبيعونه قبل سنين ، التقينا بالسيد عبد الكريم وهو من قدامى بائعي الكتب في النجفي وسألناه عن الكتاب أو المطبوع الرائج هذه الأيام ؟ ؟
- أكثر مبيعاتنا هذه الأيام هي من المطبوعات المتعلقة بالأجهزة التي غزت حياتنا بعد أحداث 2003 ، ومنها كتيبات الموبايل أو ما تعرف بالعصافير الإلكترونية ، تحتوي على معلومات عن هذه الأجهزة من نغمات أو ما شابه ، والأخرى كراسات أو كتيبات الستلايت وتحوي هذه معلومات تفصيلية عن القنوات والأقمار وأرقام شفراتها السرية ، ماعدا ذلك فأن الكتاب الديني بطبعاته الحديثة هو الرائج وبالرغم من جمالية أغلفته لكن نوعية الورق المستخدمة بداخله رديئة ، ومع ذلك فأن زيادة الطلب عليه من قبل الناس يدفع التجار إلى استيراده بكميات كبيرة . أما الكتاب المتخصص في الأدب أو باقي الفروع فإننا نلاقي صعوبة كبيرة في بيعه لقلة الطلب عليه .
· هل من موسم محدد لبيع الكتب ؟
- للكتاب كأي سلعة تجارية أخرى موسم يكثر فيه بيعه . ففي شهر رمضان المبارك مثلاً يزداد الطلب على الكتب الدينية ، أما الموسم العام فهو الشتاء لأن الطلبة يرتادون السوق باحثين عن الكتب كمصادر لتقاريرهم ، ولا يتوقف الأمر على طلبة الجامعات وحسب وإنما على تلاميذ المدارس أيضاً ، وكان توجيه مديرية تربية نينوى إلى المدارس في العام الماضي بإعادة إحياء مكتباتها أثراً فاعلا في تحريك سوق الكتاب إذ تعين على الطلاب رفد تلك المكتبات بكتاب أو أثنين ومع أن اقتناء الكتب من قبل الطلاب بمثل هذه الحالة كان كيفياً ولم يستند إلى معيار محدد لكنه عموما كان خطوة إيجابية في طريق أحياء الثقافة ! .
( عودة إلى ثقافة الاستنساخ )
ونحن في طريقنا للدخول إلى شارع النجفي أخبرت صاحبي شريف أنني انتبهت إلى وجود كتب مستنسخة في ( بسطة ) محاورنا عبد الكريم وسألته إن كانت هذه عودة إلى ثقافة الاستنساخ التي سادت في فترة التسعينيات ؟
· الكتب المستنسخة هي في الغالب عن كتب غالية الثمن أو قديمة أو نادرة ، وخذ مثلا فان بعضا من عناوين الكتب كانت تباع في السابق بالدينار العراقي أما الآن فهي تباع بالدولار ، ولقد شاهدت بأم عيني كتباً تباع بأكثر من 300 دولار وأخرى بمائة أو أقل حسب أهميته ، ومقتنيها في أكثر الأحيان كانوا من المتخصصين كأطباء الجراحة العامة أو العيون أو المهتمين بأجهزة الكومبيوتر وغيرهم ، ولذلك يلجا بعض الباعة هنا إلى استنساخ مثل هذه النوعيات من الكتب لكي تصبح أقل كلفة بالنسبة للمشتري . ولقد حدث قبل سنوات أن قام صاحب إحدى المكتبات باستنساخ 2000 نسخة من كتاب المورد الذي كان سعر طبعته الأصلية في حينه يتراوح بين 40 إلى 45 ألف دينار وكان صعبا على الطلبة شرائه . فقام ببيعه بسعر 12000 ألف دينار مقدماً بذلك خدمة كبيرة لشريحة واسعة من أبناء المدينة .
· ولكن أين حقوق الطبع ، أليس هذا مخالفاً للقانون ؟
- قد تكون هذه مخالفة قانونية أو حتى أخلاقية وأنا لست معها تماما ، لكن مع مثالنا السابق فأن الاستنساخ كان هو الحل الوحيد لتمكين أكبر عدد من الطلاب من الحصول على الكتاب ، وربما يكون صاحب الفكرة قد حصل على ربح وفير لكن مع ذلك فأن الطالب أيضاً قد حصل على مبتغاه ، وإن لم تكن الطبعة البيروتية نفسها لكنها نفس المادة .
-
( الثقافة المستهلكة )
في زقاق قصير يؤدي إلى شارع خالد بن الوليد ، توقفنا عند مكتبة صغيرة عرضت في واجهتها كتب كانت ممنوعة عن التداول قبل سنوات قليلة ، وعدداً كبيراً من الصحف والمجلات القديمة والحديثة بعضها لم يكن يصل بسبب الرقابة في الماضي والأخرى ظهرت بعد التغيرات التي طرأت على البلاد مؤخراً ، سألت شريف وأنا أشير إلى كتاب ( حرب الخليج ) هل من محددات جديدة تقف في طريق تداول الكتاب الآن ؟ وهل للانفتاح الحاصل الآن في العراق تأثير على الثقافة عموماً ؟
· الحرية مطلقة الآن في تداول الكتاب ولم تعد هنالك محاذير أو خوف من شراء هذا الكتاب أو ذاك المطبوع أو الصحيفة ولا أعرف ماذا سيحدث بهذا الشأن في القريب العاجل ، أما عن الانفتاح فأن البعض يعده على أنه أكبر انفتاح في العالم ، فلقد داهمت وعلى حين غرة وسائل الاتصال والقنوات الفضائية والصحف الحرة حياة الإنسان العراقي ، وبان تأثير ذلك جلياً في الصحافة خصوصاً في الفترة ما بين عامي 2003 ونهاية عام 2004 ففي الموصل لوحدها صدرت أكثر من خمسين صحيفة ، إضافة إلى الأخرى التي تصدر في أماكن أخرى من العراق وكانت تصل الى الموصل فيتلقفها الناس لأنهم كانوا تواقين لسد النقص الثقافي لديهم بعد أن كانت عقولهم محصورة في زاوية محددة من قبل توجه أو فكر بعينه . فسادت موجة أعتقد البعض خطأً أنها صحوة ثقافية في حين أنها كانت مجرد مرحلة استنفذت بعد أن قامت الصحف ومعها القنوات الفضائية التي كانت مصائبنا شغلها الشاغل بسد النقص الحاصل في ذاكرة الناس وعرضت عليهم كل ما خفي عنهم في العقود الماضية من أسرار الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت مدعمة بالوثائق والاعترافات وغيرها من الأمور التي كانوا يجهلونها ، وبعد مرور عام من ذلك وبعد أن أشبعت المنظومة الفكرية للناس عادت حليمة إلى عادتها القديمة وأصبحت الصحيفة أو الكتاب بالنسبة لعدد كبير من المواطنين مجرد سلعة كمالية ، باستثناء البعض الذي حافظ على مرانه في اقتناء الصحف للقبض على معلومات تخص الرواتب أو الحصة التموينية أو الكهرباء والوقود أو التي تهم مستقبل البلد من تشكيل حكومة أو وضع دستور إلى آخره ، ولقد اكتشفت عددا من الصحف هذا الأمر فأصبحت تضخ مثل هذه الأمور للمحافظة على بقائها لا غير ، وباتت تطرح ما يسمى بالثقافة المستهلكة التي لا تحتاج من قرائها إلى سعة من التفكير أو مستوى معيناً من الثقافة ، أما الكتاب فبقي على حاله وأمسى الطلب عليه محصوراً بعدد قليل من المثقفين الذين مازالوا يكافحون من اجل النهوض بواقعهم .
· من هو القارئ الحالي إذن ؟ وهل يعني اختفاء الكتاب عن شارع النجفي تراجعا للثقافة الموصلية ؟
هم نفس القراء القدامى لم يزد عددهم إلا في حدود ضيقة جدا . ومرتادي السوق الباحثين عن الكتب هم نفسهم الذين كنا نلتقي بهم هنا في الثمانينيات أوالتسعينيات من القرن الماضي .
وبالتأكيد عندما تقل سلعة ما في السوق مع القدرة على توفيرها فذاك يعني بأن الطلب عليها قد قل بالمقابل ، وهذا مؤشر خطير يدل بشكل واضح على تراجع كبير لثقافتنا بمعنى آخر هو دليل على تخلفنا .
( انقراض مهنة تصحيف الكتب )
دخلنا في قيصرية الشبخون مجدداً حيث والمكتبات المتخصصة في بيع الكتب الدينية ومكاتب الاستنساخ روائح العطور تملئ المكان . لكنني لم أجد أثرا لمكاتب تصحيف الكتب التي كانت تعج بها القيصرية من قبل فعلل لي صديقي بحكم تجربته الطويلة سبب ذلك إلى اختفاء الكتاب القديم من التداول بالبيع والشراء أو بالإعارة ، وساد بدلاً عنه الكتاب الحديث بطبعته ، فظل القديم في مكتبات البيوت التي لم تفرط به خصوصاً بعد ارتفاع المستوى المعيشي للموظفين أو التعليميين وهم الشريحة الكبيرة من المثقفين ، باستثناء حالات قليلة كأن لا يكون لصاحبها مورد ثابت يكفيه فيضطر مرغما إلى بيع كتبه ، أو في حالة وفاته تقوم عائلته غير المعنية بالثقافة ببيع مكتبته ، في هاتين الحالتين يعاود الكتاب القديم ظهوره في شارع النجفي فقط ، وبذلك فان عدم التداول بالكتاب القديم وبقائه مركوناً على الرفوف يقلل بالنتيجة من استهلاكه أو إتلافه وبالتالي لن يكون هناك عمل يقوم به المصحفون ولذلك فهم أبدلوا نشاطهم أو غادروا السوق تماماً .
( دعوة لإحياء الثقافة )
في ختام جولتنا القصيرة في النجفي عدنا إلى مكتب شريف فوجدنا هناك عددا من الأدباء ينتظرون للاستعانة بخبرة شريف المدربة للعثور على كتب في النقد والرواية ، فوجدتها فرصة في مواصلة الحديث عن هموم الكتاب وبادرت لسؤال الكاتب موفق العساف عن الذي يمكن فعله من اجل إعادة البريق إلى سوق الكتاب في شارع النجفي ؟
_ في البداية عليك أن تذهب إلى صاحب المكتبة الذي حولها إلى محل لبيع الحلويات أو القرطاسية وتطلب منه إعادة المكان إلى سابق عهده . ومن المؤكد فأنه سيقول لك وهو محق في ذلك أن هناك جملة من الأمور ستقف في طريقه منها ( أن تجارة بيع الكتب لن يوفر علي حتى إيجار الدكان ، وذلك بسبب عزوف الناس عن شراء الكتب وغياب القوانين التي تحمي المستأجر من جشع المؤجر الذي يرتفع دائما بإيجاره وفي كل الظروف ) .
أما إذا تجاوزنا هذا الأمر فلا بد من حملة كبيرة في المجتمع من اجل بناء جيل واعي يهتم بتثقيف نفسه ولا ضير أن يستمد ثقافته بالإضافة إلى الكتب من الانترنيت أو من سواها من الوسائل الأخرى ومن ثم بضخ كتب متنوعة وبأعداد كبيرة في السوق لكي يخرج الشارع من الطابع الذي أنغلق عليه من سنوات ، فهو يعتبر الآن ولدى كثير من الناس شارعاً دينياً لآن أكثر من يرتاده في الوقت الحالي هم من شيوخ المدارس الدينية أو الجوامع أو المهتمين بالجانب الديني وإن كان هذا الأمر إيجابيا لكن المطالبة تبقى بتوفر الكتاب الأدبي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي لكي تتنوع مصادر الثقافة .