خواطر في الشعر الشعبي

 

خواطر في الشعر الشعبي
بقلم: مريم العموري

كان الشعر الشعبي ولا يزال انعكاساً لواقع المجتمع الفلسطيني وأحلامه وطموحاته، ولا تزال تُسمع أصداؤه العذبة بكل ناحية درجت فيها نفس شاعرة، لا تمرّر حادثة ولا ذكرى ولا حتى دفقة قلب، دون أن ترسل في إثرها شاعريّة موشاة بسجية هي الأنقى. حتى لكأنها قطعة النسيم وقد هفت إلى الأرواح من تحت دالية خليلية، أو شجرة زيتون قدسية، أو بيارة برتقال يافاوية..
هي بعض إرثنا الحميم الذي يستروح العمر في أفيائه، ويضمه عميقاً بين ضلوعه خشية أن تستبد به ريح الضياع في غمرة المنفى، والسنين الطويلة، وأجيال النسيان.
وعلى الرغم من كل ما مر بنا، بقينا الأوفياء للأرض بما نحمل من ((ريحتها)) الطيبة. نبثها ونتنسّمها في جلسات سمرنا وحلقات أعراسنا. فما زال للحرف أصالته، وللحن نكهته، وللصوت غنّته التي ترد الروح في الروح.
ومع اختلاف ظروف الإنسان الفلسطيني بعد أن التهمت أرضَهُ جيوش الظلام، لم تعد ((جفرا)) و((دلعونا)) تلكما المحبوبتين اللتين لوّعتا قلوب عشاقهما من الشعراء، أيام كان البال لا يشغله سوى رتابة اليوم، من ملء للجِرار وإعداد للزوّادة، وزرع وحصاد، وسمر مع الأحباب في أول الليل، في حوش الدار أو ديوان المختار..
أصبحت الأشعار ذات معان جديدة لا تفتأ تؤرّخ لكل حدث وواقع عصيب، وإن كانت تحمل ذات المبنى القديم الذي إنما يدلل على عمق جذورنا الضاربة في تاريخ طويل.
فهذا ((عوض)) –ولا يعرف من اسمه إلا ((عوض))- المحكوم عليه بالإعدام أيام الانتداب البريطاني، يخط على حيطان زنزانته في ليلته الأخيرة، قصيدة زجلية تفطر القلب وتهز الوجدان:
يا ليل خلّ الأسير تيكمّل نواحو
رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحُو
تيمرجح المشنوق في هبّة رياحو

يا ليل وقّف تاقضي كل حسراتي
يمكن نسيت مين أنا ونسيت آهاتي
ياحيف كيف انقضت بيديك ساعاتي
شمل الحبايب ضاع وتكسّّروا اقداحو

لا تظن دمعي خوف دمعي ع أوطاني
و عكمشة زغاليل في البيت جوعاني
مين راح يطعمها بعدي، وإخواني
شباب اثنين قبلي ع المشنقة راحوا
..

وهذا الشاعر فرحات سلام يندد بوعد بلفور الأثيم أمام مجلس الجامعة العربية، عندما كان عبد الرحمن عزام باشا أميناً عاماً لها، بزجل صار يُغنى في الأعراس:
إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان
إحنا بأرواحنا نفدي أراضينا
نبيع أرواحنا بأبخس الأثمان
حقاً على الله ينصر المؤمنينا
يا مسجد الأقصى افرح لا تكن حزنان
لبيك لبيك هذا الزمان نادينا
حولك تلاقي بواسل بالحرب شجعان
نسقي إلى الأعداء زقوماً وغسلينا

وتتردد في سماء البطولة قصائد الجهاد والشهادة، تستحث خطى الثوار وتغنيهم بما يليق ومقامهم الأرفع.
يا زريف الطول وارسم يا رسّام
صورة لفلسطين وصورة للقسام
وعيون الثوار والله ما بتنام
نصر يا استشهاد هذا شعارنا

هكذا كانت فرقة العاشقين حين أبدعت لنا في أصالة التراث، أغاني هنّ من عيون الشعر الشعبي الجهادي:
كنا انغني في الأعراس جفرا، عتابا ودحيّة
واليوم انغني برصاص عالجهادية الجهادية
ولا زالت فرق مثل ((الغرباء)) و((الاعتصام)) وغيرهما من داخل فلسطين، تحفر في ذاكرة التاريخ بأزجالها الرائعة، مواقف الشرفاء الذين أنفوا سبيل المتخاذلين، وشدوا على يد المقاومة الأبية.

ثم على جناح الحنين، تأتي فرقة الروابي تحمل ذات الهم الكبير مطعّماً بوجع الغربة وأمل العودة، وبمفردات حميمة هي من صميم الأرض وجناها:
الثوب اجديد لكن القلب ذايب
فرحة العيد لما انشوف الحبايب
بالله يا طير هاتلي منهم هدية
ضمة شومر وشويّة ميرمية
أو خبز اشعير أو حتى نقطة مية
وأنا قلبي صغير على فراق الحبايب

فصار الوطن حديث الفؤاد العاشق ونجيّ أحلامه، وأصبحت الديار والأهل والذكريات، مباعث الشوق والحنين في الأوف والعتابا والدلعونا والمعنّى والشروقي والمقسوم وحتى الزغاريد.
جمعنا الدين بالدنيا أُلمنا
ولغير الله ما بنشكي ألمنا
ومهما انعيش مرجعنا إلى امنا
أرضنا الغالية أمّ النسب

ويبقى الشعر الشعبي بأنواعه، جذوراً فنية تربطنا إلى الأرض الفلسطينية، مهما زاد البعد عنها


 

View nasheed's Full Portfolio