بين كل عصر وعصر من عصور (مَنْفانتارا) هناك كارثة (طوفان مثلاً) تؤدي إلى هلاك الذرية البشرية السابقة لإفساح المجال لمجيء الذرية البشرية اللاحقة. ويكون الانتقال من ذرية إلى ذرية عبر وسيلة (كالفُلْك والحوت والسمكة…). ويكون بين الذريتين مرحلة موت تؤدي إلى ولادة ذرية جديدة وعهد جديد.
في المنقول الهندوسي، تقوم السمكة المخَلِّصة الـ (مَتْسيا أفاتارا) (وهي الإختُس عند المسيحيين الأوائل) بهذه المهمة.
تجلَّى فيشنو على شكل سمكة (مَتْسيا)، وأمرَ سَتْيافْراتا ببناء الفُلْك لينقل جميع العناصر اللازمة من العصر السابق لبناء العصر اللاحق.
كذلك أمرَ الله سيدنا نوح ببناء الفُلْك، حيث كان الطوفان هو المرحلة الانتقالية بين عصرين من عصور مَنْفانتارا. تقوم سفينة نوح هنا بنفس دور السمكة (مَتْسيا) في المنقول الهندوسي.
في قصة سيدنا يونس أو النبي يونان (صاحب الحوت أو ذي النون)، يقوم الحوت أيضاً بدور سفينة نوح - إلى حد ما –؛ فهو ينقل النبي يونان من حالة روحية إلى حالة روحية أخرى ماراً بمرحلة ظلام (بطن الحوت) أو موت عن الحالة السابقة. خروج يونس من بطن الحوت هو رمز للقيامة أو الولادة الجديدة أو العبور إلى عهد جديد.
إن السمكة المخَلِّصة (المَتْسيا أفاتارا) وسفينة نوح وحُوت يونس كلُّها تقوم بدور المخَلِّص الذي ينقل من عهد سابق قديم إلى عهد لاحق جديد مروراً بمرحلة موت للوصول إلى عهد جديد وولادة جديدة (أو قيامة).
نأتي الآن إلى سيدنا المسيح الذي يقوم بدور المخَلِّص لينقل البشرية من العهد القديم إلى العهد الجديد ماراً بمرحلة موت يعقبها القيامة (الولادة الجديدة). إلا أن مجيء سيدنا المسيح لم يكن بين ذريتين بشريتين، إنما كان بين مرحلتين روحيتين أو عهدين.
إن مهمة سفينة نوح بقيادة النبي نوح وبإشراف الآب السماوي تنحصر، على عظَمها، في مجموعة محدودة من البشر وفي زمن معين انتهى، أي ينحصر دور السفينة في نقلة جزئية للبشرية؛ بينما تكمن عظمة سيدنا المسيح في أنه قام بمهمة السفينة ونوح والآب في آن واحد ولم تنحصر مهمته في مجموعة معينة ولا زمن محدد، بل شملَتْ البشرية جمعاء والأزمنة كلها.
إن النقلات الجزئية في تاريخ البشرية تشير منطقياً إلى حتمية انتظار نقلة كلية شاملة للبشرية (لأن الجزء يشير إلى الكل)؛ وبتعبير آخر، فإن النقلات الجزئية ليست إلا تمهيداً للنقلة الكلية التي سيقوم بها سيدنا المسيح.
لقد قام مخلِّصُنا المسيح بنقل البشرية من حالة روحية أدنى إلى حالة روحية أعلى ومن عهد إلى عهد. لكنه لم ينقل كل فرد. ولهذا يتحتم على كل فرد أن يقوم بالنقلة الروحية الخاصة به. ومن هنا ندرك أهمية المعمودية كتعبير عن هذه النقلة.
نأتي الآن إلى مسألة التثليث والتوحيد والعلاقة بينهما.
العلة الأولى لكل وجود هي اللاشيء الميتافيزيائي (العدم) الذي هو، بحسب ابن عربي، حي ويتمتع بإرادة أكيدة تحثُّه على الكشف عن ذاته في مستويات متسلسلة من الفيض أو الإبداع.
هذا اللاشيء هو، بحسب الفلسفة الفيثاغورسية، العدد الأول الذي يرمز للألوهية، وعنه ينبثق كل شيء. هذا العدم هو الوجود المحض، وهو اللانهاية (التي عبَّرَ عنها ابن عربي بغيب الغيب أو غيب المطْلَق).
وبحسب ابن عربي، لا يصدر عن الواحد إلا الواحد. والواحد لا يصدر عنه شيء البتة. فأول الأعداد هو الاثنان. لكنْ لا يمكن أن يكون عن الاثنين شيء أصلاً ما لم يكن هناك ثالث يربطهما أو يزوِّجهما لينبثق خلق جديد (من هنا نفهم سر الزواج). فالعدد ثلاثة هو أول الأفراد، وهو التعيُّن الأول للوجود كله، وما من شيء يتشكل إلا منه وبه وفيه؛ وهو غير قابل للقسمة. فالاثنان اللذان يجمعهما الإله اللامتجلي بواسطة علاقة مقدَّسة لا يجوز أن يفترقا (لأنهما يصبحان ثلاثة [اثنان + العلاقة بينهما = ثلاثة]؛ والثلاثة عدد غير قابل للقسمة). من هنا نفهم أن الطلاق غير جائز.
بهذا يعترف ابن عربي بأن التثليث توحيد، أي أن هناك علاقة ثلاثية في الوحدة الإلهية؛ فالتثليث في الأقانيم وليس في الإله. يمكننا القول بأن التثليث يكون على مستوى الإله المتجلِّي الخالق وليس على مستوى الإله الأول اللامتجلِّي (الذات).
العدد ثلاثة هو أصل الأعداد الفردية؛ وعنه يصدر الرابوع (عالمنا المادي). فالعدد ثلاثة إذاً يرمز إلى الله المتجلي الخالق. ربما لهذا السبب نجد أن كلمة الله في جميع اللغات القديمة (عدا الإنكليزية والإيطالية، الحديثة طبعاً) تتألف من 4 أحرف (3 [هي رمز الله الخالق المتجلي غير المنقسم الذي خلق الرابوع] + 1 [العالم المخلوق] = 4) : الله، يهْـوَه، حورس، خُداي، Dieu، Zeus، ΘΣόЅ، Gott، … وربما لهذا السبب نفهم لماذا تم اختيار 4 أناجيل فقط من بين عدد كبير من الأناجيل.
بهذا يمكن أن نفهم دور سيدنا المسيح (اللوغوس المتجلي أو الكلمة) كخالق، إذ أنه خلقَ العالَمَ تحت إشراف أبيه السماوي (اللوغوس اللامتجلي).
اللوغوس الأول اللامتجلي
غيب الغيب (غيب المطلق)
(الذات)
↓
اللوغوس اللامتجلي
(الآب)
↓
اللوغوس المتجلي الخالق
الكلمة (الابن)
↓
العالم
الإله الواحد = الآب + الابن + الروح القدس ← العالم.
محمد علي عبد الجليل