امرأة صحراوية
بقلم
جمال السائح
( 1 )
عندما لحظته يقلب الطرف من حوله شعرت ان شيئا ما حدث للسيارة التي كانت تقلها وهي تقتعد كرسيها الامامي الى جانبه . . كان صوت المحرك ينتقد حالة ، اغاضته . . ولذا فان السائق لم ينتظر احدا يلفت نظره الى ضرورة الاصغاء ولو للحظات قلائل الى ما يفوه به محرك عجلته ، فاوقفها الرجل، وترجل منها بينما كانت نظراتها المتسائلة والخائفة تنوء بريبة وحذر من طاريء ربما انتاب جزء من اجزاء السيارة . . ولم يفت من بال احدهما ان الطريق محفوفة بالمخاطر لانها طريق خارجي ، وما حولهما ها هنا لا يكاد يعدو صحراء وبراري قفار ، وها هو المساء على الابواب يطرق الاجفان ، وان لم يكن قد رحل قرص الشمس النائي بعد ، والذي كان يشارف على الرحيل دون استئذان . .
انحدرت هي الاخري الى خارج السيارة ، بعد ان وجدته منهمكا في النظر في ماكنة السيارة التي كان رفع غطاءها الامامي الى اعلي من دون ان يرجع اليها ويخبرها ماالذي حصل . . شعرت ببرودة المساء الصحراوية . . ها هي الفلاة ترسل اليها بنسيمها ومن قبل ان تسرح اليها الطرف ، كانت لسعات البرد تخالسها التطفل والتغزل بجسدها الذي بدأ يستاء من المكان ووحشته . . فلملمت ذراعيها حول كتفيها تنازع البقاء خارج العربة التي تأكدت من دفئها الان حقا .
ـ ما الذي حصل ؟
تساءلت ببرود . اجابها :
ـ لا شيء ، عطب بسيط ساهتم باصلاحه.
ثم لما وجدها ما تزال تهم بالسؤال . . بدرها قائلا :
ـ يمكنك ان تريحي جسدك هناك . . (رفع رأسه الى جانب الطريق وكأنه وجد ضالته) ثمة مثابة هناك ربما اسعدك الجلوس عليها ، وان كان يمكنك البقاء في داخل العربة .
وبشيء من الطرب والدلال سارت اليها وجلست فوقها ، بعد ان نفخت شيئا من التراب الذي كان يغطيها ، اخذت تستمتع بلحظات ربما لا يجود بها الزمن مرارا ، وهي تختلس النظر اليه،كيف يصلح السيارة ، ومن دون ان يحتاج الى بطارية يدوية !
سرت في جسدها قشعريرة لم تعلم سببها ، لكنه تأكد لديها انه يردد ناظريه ما بينها وبين ماكنته حتي استثقلت ذلك ، وهي في هذا الظرف الذي ربما يباغتهم فيه وفي اي لحظة ، ذئب طريد ، او وحش مفترس ، او انسان ضائع، او حتى مجنون تائه ، او صعلوك من الصعاليك وربما سارق من السراق ، لكنه كان يصر ان يثبت نظره عليها بين الحين والاخر وبنوبات متكررة . .
غير انها وفي لحظة واحدة ألفته حقا يتخلى عن معالجة عربته المريضة ، ليلتفت اليها ، ويقترب منها . بيد انه عاد ثانية الى محله ، وهكذا فعل في المرة الثالثة ، والرابعة . . اذ كان وفي جميعها يتعمد ان يقصدها ، ثم يتوخى العودة الى اصلاح سيارته . . غير انها تمالكت نفسها ، ومن دون ان تنبس ببنت شفه، او أن تطلق عقيرتها عند الطريق وفي وسط تلك الفلاة متسائلة عما يجبره على القيام بمثل ذلك! وفي وسط مثل هذه الازمة العملية ؟
لكنه فجأة تخلى عن الماكنة واتجه اليها ، جلس الى جانبها . بعد ان ازاح شيئا من الغبار والرمال المتراكم في المكان . حاولت التطلع اليه، فلم تفعل ، لكنه كان يفعل ، ويردد من خلال نظراته المتلفتة اليها جملة من شكوكه المحيرة، والتي ما كانت تخفى عليها ، بعد ان وجدتها مشوبة بأمارات من القلق وعدم الاطمئنان . اذ لم يتوان في ارسالها عبر ناظريه حتى خالت انه يرى شخصها ولأول وهلة ، فكان قد اعجب بها اشد الاعجاب ، بعد ان وقعت من قلبه احسن موقعا! مما اضطر بصرها الى التطلع ثانية فارتد حسيرا دون فوز باي جواب مقنع .
غير ان التفاتة كانت حانت منه ، توجه بها الى جانبه ، فاشتغل عنها للحظات بنفخ وابعاد الغبار مجددا من فوق المكان الذي اراد ان يشاركها الجلوس فيه ، ثم استرسل في غفلة متأنية، كما لو كان يعاين نصبا ، او يقرأ في شاهد منحوتة من منحوتات الاثار ، او مسلة ملقاة على ظهرها . . مما اثار استغرابها ، لكنها لم تعره اهتماما او انتباها من لدنها !
بينما استفاقت في عينيه تساؤلات عجيبة ، ومع ان كل ذلك ما كان ليستثيرها ، الا انها سرعان ما تميزت دهشته غير المعهودة ، لكنها مع تسابق طلائع المساء واطلالات الخوف والرهبة من المكان بأسره ، والتي كانت تستحوذ على قلبها تباعا ، فضلا عن برودة الجو القارصة والتي ما عادت تحتملها.. فكان لها ان تتخلى عن سؤاله ، والاستفسار منه عما كان يشغله ثمة ، مما كان اضطره للانصراف اليه عن مجاذبتها اطراف الحديث . . بعد ان كانت نبذت كل فكرة من شأنها أن تعكس ردود فعلها ازاء ما يرى او يصنع . فشجبت لسانها عن التحرك في هذا السياق ، وانساقت مع مشاعرها المحتدة ، تغالب احاسيسها المدهشة والتي كانت انتابتها حالئذ ، وكانت تراكمت في غضون الدقائق القليلات تلك ! اثر اختزالها لما يعتمر في رأسها من كبرياء وتكابر . . وذلك حيال تصرفاته التي رأتها متعبة تثير الارهاق في نفوس الاخرين ، وان كان من عادتها ان تجاذبه اطراف الحديث ، وتسائله عن اسراره التي اخذت تطرأ عليه الان تباعا . . من تغير منظره ، واختلاف بصره اليها وقت كان يصلح المحرك. فضلا عن تردد خطوه ما بين المقود والمحرك، يغمزه هناك ليعود خلف المقود ، يوخزه في مكان آخر . . لكنها لم تفعل ولم تتوجه اليه بالسؤال . . لان امرا اخر كان يستثير افكارها ذلك انها كانت توجست الريبة منه، خوف ان يطالبها بممارسة الحب في مثل هذه الارجاء، او ان يغتصبها في هذا المكان ، او يراودها عن نفسها قسرا او طوعا ! كما لو كانت تعتقد ان السماء كانت اوحت اليه بجمالية صنع مثل هذا الفعل ، تحت سوادها المكشوف، وفي ظل سكينة ليل بهيم وطريق مقطوعة . . فانكمشت على نفسها ،كما لو كانت توعز اليه بغرابة توجهاته ونظره ، أو توحي له بضرورة عدم السماح لنفسه باستيلاد مفاجئ لمثل هذه الميول النارية المشتعلة فيه ، والتي شعرت انها تبين في تصرفاته واضحة وبصورة مطلقة . . حتى ولو كان لها ان تعتمد سبيل المداعبة ، أو أن تقتصر على طابع التغزل . . لانها كانت تمقتها جميعا ، وتضجر من فعل الحب بكل اشكاله! فكانت تشعر ، ولا تزال تحس بان ممارسة مثل ذلك يمثل لديها خطيئة لا تغتفر ، ولا تحتملها امرأة ناضجة مثلها! فما كان عليها الا ان تكبح جماح رجلها، وتروضه على عدم مقاربتها الا في فترات متباعدة، خوف ان يعتاد مراودتها ، ومقارفة رياضة جنسية لا توحي لها الا بمشاعر التقزز والانفعال . . فما كان يسعها الا ان تفوت عليه فرصة المكث والبقاء هاهنا ولاكثر من هذا الوقت ، وان تحتمل كل غرابة تعاقبت عليها في مثل هذه الدقائق القصار ومن دون اي تعليق ، فسارعت الى الاستفسار بعد ان احتملت منه عملا مريبا وغريبا اخر ، حينما احست به يتخلى عن مجالستها ، متوجها الي السيارة ، ليعود منها حاملا معه بطارية صغيرة ، يسلط حزمة ضوئها فوق المكان الذي كان يجلس عليه بجانبها . . جعل يفحصه مرارا ، يطرد بقية ما علق فيه من تراب ، ويعالج بكفه ما قصرت في المرة الاولى عن فحصه او الوصول اليه . . وهي تتبعه بجانب بصرها الذي حملها على مراقبته وبحيرة مشككة ، فلم تتمكن من استكشاف او استطلاع كل ما كانت تدور عليه حزمة الضوء تلك . غير انها لم تتنازل ، ولا حتى في هذه المرة ايضا، عن علياء كبريائها وغيرتها الانثوية ، لتلح عليه في السؤال وتلحف ، الا من خلال جملة مقتضبة :
ـ هل انتهيت من اصلاح السيارة ؟
وبهدوء مريب ، بعد ان فقدت رباطة جأشها وتخلت عن تعاليها :
ـ ماذا وجدت هناك . . هيا اخبرني ؟
ـ لا لم اجد شيئا يستحق الذكر . .
اجابها وبسرعة بعد ان تخلى عن النظر في المكان التي كان أعمل فيها كفه ، ولقد كان غاب عن فكره الاهتمام بما تقول او حتى النظر اليها ، فاذا به تكرر عليه الكلام :
ـ ارى المكان قد شغلك وبأسره . . هل تعد سريرا متواضعا ، تمتحن امكانية القيام فيه بمضاجعة حرة ، نستلقي في خلالها جنبا الى جنب، فوق هذه المصطبة الحجرية . .
ـ اجل . .
ـ حقا ما تقول ؟ !
باسما :
ـ اقصد ، اجل . . قد انتهيت من اصلاح السيارة .
ـ وعليه ، فلماذا تجلس . . هيا لنذهب اذن !
ولما لم يجبها . عادت تهمس في اذنيه ، وهي تجده شارد الذهن اكثر من اي وقت رأته فيه هذا اليوم :
ـ اخالك معجبا بالمكان ، وما اراك الا قد استهواك ، واستهوتك ذكريات الحب الذي كان.
ـ اتتطلع اليك من البعد فلا اجدك انت ! بل اجد اخرى تحدق في النظر . . ولكني كلما اقتربت منك اجدك تعودين الى نفس صورتك وهيئتك الاصليتين .
التفتت اليه هذه المرة مدهوشة . . لكنه اجابها ومن قبل ان تبتدره :
ـ يبدو الامر مثيرا حقا . . هذا ما ادهشني انا الاخر !
فقالت وبتهكم مسرور :
ـ هل المكان مسحور ام آهل بالجن . . انك تغيظني. . هل تسخر مني ام تحاول اخافتي يا هذا ؟!
ـ لا هذا ولا هذا ، بل . .
ثم ضاحكة مسترسلة :
ـ الفاك تقرض الشعر وترسل قصائدك في ساعة السحر . . أهي البرية التي اوحت لك بهذا، فجعلتك ترن بما يسحر الالباب ويوقع في القلب كل ريبة وخوف .
ـ لا . . ولكن . . النسيم جميل هنا .
ـ سأبرد حتى تكمل شطر البيت فان لم تعثر عليه ستتركني اجمد واموت مقرورة .
ـ اذن ، هيا بنا نذهب .
( 2 )
بعد ان اطبق غطاء السيارة وسار بها كانت ثمة افكار تنازعه ، ربما هو الوهم بعينه . . ربما هي لحظات صحراوية او حنين الى ماض معين ، او الى وجه اخر . . لماذا كان يرقبها من جانب السيارة . . هل كان يجد فيها وجها اخر وشكلا اخر ، وهل كان يراها هي أم اخرى . . لا يكاد ينازعه القلق بقدر ما كان ينازعه الشك فيما رأى . . وحينما كان يقترب منها ليتأكد من انها هي نفسها ، كان يجدها ما تزال تحتفظ بقسماتها ومسحة وجهها . . عينه ! واذن ربما كانت اوهام ليل وشكوك غروب . . انه شبح ليل ليس الا . ووهم امسية لم يتسن لهما وفي خلالها متابعة قرص شمسها الذائبة في عتمة المحال والافق القصي .
لكنه كان يعاود النظر اليها وهي تلقي برأسها الى خلف الكرسي ،كما لو كانت ترسل به الى اعماق افكارها بل افكاره . . لقد بات الاهتمام بها يشغله اكثر من اي شيء اخر ، كما لو كان شعر بخطر احتمال تعرضه الى فقدانها . . ولماذا يساوره مثل هذا الشعور والوطن آمن ، والخير يحيا في كل مكان.. حتى ولو كانت تقدر وتقتر عليه في ممارسة الحب. لانها وفعل الحب ، لو وضعا في الميزان ، لرجح حبها لديه ، لان وجودها لديه اثمن ، وغرامها اغلى واحلى.، ولا يحب ان يفرط بها ، لاجل حب الجسد ! لان بامكانه ان يسلو عن جسدها ، ويمتهن حربه في وهاد جسد اخر ، لكن خيالها وحقيقتها الكائنة امامه ، ما كان ولا حتى ليتصور احتمال مفارقته له ، حتى ولو على سبيل الظن والوهم . . ولكن هل يساوره الخوف من اشياء اخرى ، هل ثمة من ينافسه على حب زوجته . . ام هو القدر يلوح له ، ام انها رغبات الاخرين الشاذة . . هل يمكن ان يحلم اخر بزوجته وحبيبته التي ظل موفقا في الوفاء لها ، والثبات على حبها ، ما استطاع الى ذلك سبيلا . .
وفجأة كان لها هي الاخرى ، ان تشعر بنظراته تتردد حثيثا ، فالتفتت اليه :
ـ أمغرم بي الى هذا الحد . . تذكرت عندما جلست هناك . . كنت شعرت ان شيئا ما يتحرك في داخلي . . واذا بك تستفزني بنظراتك المتكررة مرارا ، فنسيت ما كان يشغلني.
ـ انك تمزحين .
ـ لا . . لا . . لا امزح .
ولما لم تجد منه اذنا صاغية . . عادت الى القول مؤكدة:
ـ صدقني لا امزح . . ربما كان الشعور ما يزال يراودني ، لكن احساسا كان تملكني في لحظة واحدة اجفلني ، وكنت اظن ان الخوف من المكان قد تسبب لي بمثل هذه الحالة . . لكن معاودته لي اثارتني، حتى كانت نظراتك في وقتها تغالبني حتى أنستني كل شيء غير ان احساسا اخر تلبسني ، بانك ترى شيئا يتحرك الى ورائي لا ابصره ، وتخاف ان تشعرني به فتثير خوفي ، فكنت تتردد في اعلامي، او كنت ظننتك ربما تتوهم وجود حركة غريبة خلفي . .
ـ والان ؟
ـ اراك تراودني عن نفسي ، وتتعدى حدود الكرم، لتنافسني في التحكم بمقاليد جسدي .
ـ جميل . .
ـ انه ليس بجميل . . انه احساس عقيم .
وفي تساؤل محموم :
ـ حقا تشعرين بذلك . .
ـ اوقف السيارة . .
ـ ماذا حصل . . لماذا ؟
وبعد ان اوقفها وجدها تهرع الي خارج السيارة . . كمن تبحث لها عن مكان تلد فيها.. لكنها توقفت فجأة ، وهو ما كان يسعه الا ان يلحق بها . . لكنه وفي غمرة هذا كله ، انتبه مجددا الى وجهها ، وجده يختلف عن وجهها السابق .. انها امرأة اخري . . حقا هي امرأة اخرى ، وليست زوجته التي عرفها واحبها ولم يكن ليتميز وقتها ايهما كانت احلى هي ام هذه ولو انه لا يبالغ ان اقر باحساس جنسي ازاء هذه المرأة التي لم يرها من قبل كان يخادعه لان هذا كله كان يوحي له باطلالة جسد جديد ذو رائحة جديدة!
في حين انها كانت منشغلة عنه في شغل شاغل ، لا يعلمه احد سواها ، وما فتئت في مكانها لا تتحرك عنه قيد انملة ، تنظر حولها ، ثم ركزت بصرها في الارض ، كما لو كانت تنتظر ان تري سقطها ينحدر من بين فخذيها . . او وليدها يتعلق تحتها نصفه في العراء ونصفه الاخر في احشائها. . الا انها سرعان ما هدأت ، وعادت الى رشدها ، واستتب امرها . فالتفتت اليه ، وكان في اوج غليانه حتى غمرته بالمفاجأة ، حينما تأكد لديه ما يرى امامه من امرأة غير امرأته ، لكنه امسك بها منفعلا لا يحير صنعا ، فارتجفت واجفة من هزة ذراعيه وتراجعت القهقرى ، بعد ان تخلصت منهما، فنكصت عنه، وانتهت الى بعد امتار منه ، متوقفة تنتظر ما يحصل لها ، كما لوكانت بعد هي تحت تأثير صدمة معينة ، او كانت استسلمت لقدر مجهول، لا يسعها معه الا انتظار ما ينكشف عنه ، فانحنت راكعة الى الارض ، وأسندت راحتيها الى الركبتين ، ثم لما احست به يقصدها ، قامت ثانية واعتدلت باستقامة ، كما لو كانت تعلن له عن انفراج في الازمة ، وهو الذي لم يكد يفق بعد من وحشة التطلع اليها، كما لو كان يتطلع الى اخرى غريبة عنه في كل شيء ، ولا يمكنه التعرف عليها ابدا . . جعل يرى فيها الآن نفس امرأته ونفس خليلته ، بوجهها وملامحها وقسماتها التي لا تضيع ، ولا يشك فيها ابدا . . كانت تعود ثانية الي جسدها الذي كانت انسلخت عنه قبل قليل . . بعد ان ظن كل الظن ان الليل حقا ، جعل يخاتله ، ان لم يكن اصر على اصابته بعاهة تلم به اثر صدمة الخوف التي تعتريه ، او الرعب الذي يشتمله لِما وجد عليه امرأته ، وهي تنقلب في شكل امرأة اخرى ، تتفجر انوثة واغراء.
( 3 )
عادا الى الطريق ثانية . . لم يكن سواه امام ناظريهما.. كانت السيارة تنهب الطريق . ترددت قليلا ثم تساءلت بحيرة وقلق :
ـ ما الذي حدث لي ؟ ما الذي يحصل لي الان ؟ ارى جسدي يلتهب . . اشعر بحرارة تصهره . . احس به يتوق الى الحب . . الى فعله.. الي كل شيء يتعلق بامتحان انوثتي . . لعله يشوق الى اختبار قدرته الجنسية ، ولقد اصبت بضعف ثقة به ، او خيبة امل بامكاناتي. .
كان لا يصدق ما يسمع :
ـ أءنت تفوهين بهذا . . ربما كانت حالة نفسية مؤقتة .
ـ ربما . .
وبعد هنيهات :
ـ الم تفتعلي ما قمت به . . فان صدقتني القول ، سأصدقك القول انا الاخر .
ابتسمت من دون ان تشعر ، كما لو كانت تفعل شيئا رغم ارادتها . . خالها معه انها تمازحه ، فقال :
ـ لقد كنت جالسة فوق قبر . .
صارخة :
ـ قبر ! أي قبر ؟
ـ قبر امرأة ماتت منذ زمن ليس ببعيد . . هكذا اشعرني تاريخ وفاتها المسجل فوقه .
ـ اي قبر واي تأريخ ، واين ؟
ـ اراك تمزحين من جديد . . هناك حيث تعطلت السيارة وجلست .
وفجأة صاحت به :
ـ توقف . . توقف رجاء !
ولما توقف محرك السيارة عن الحركة . التفتت اليه :
ـ عد بنا الى حيث كنا . .
ـ انك لا تتوقفين عن المزاح هذه الليلة .
ـ افعل كما آمرك .
ـ سمعا وطاعة ، ولكن لماذا ؟
ـ لاتأكد مما تقول .
ـ لا اصدق انك تضحين بالوقت في سبيل التعرف على قبر .
غير انه سرعان ما استدار بسيارته ، ليتجه بها صوب نفس المكان الذي كانا تركاه وراء همها، قبل دقائق قلائل.
( 4 )
ظلت تتساءل وتعيد جملة استفهاماتها ، وبحيرة مترددة:
ـ قبر ! قبر في وسط الصحراء ؟! أي قبر هذا . . ولِمَ لَم تخبرني . . الهذا السبب كنت تراقبني ، وتتطلع الي ، كما لو كنت تراني اول مرة . .
ـ لا . . ان ذاك كان يتعلق بأمر اخر . . لقد كنت شعرت انكِ تغيرتِ ، وانقلبتْ حاسة النظر لدي ، تراكِ كما لو كنت في صورة وهيئة أخريين ، بل في شكل آخر غير الشكل الذي كنت فيه !
ـ جميل . . هذا ايضا يتمم ما لدينا من أوهام وتقليعات . . فأمسيتنا هذه الليلة سعيدة انشاء الله !
ـ اظنها كذلك . . اذ غدت حافلة بالمفاجآت .
ثم استدركت :
ـ ما اسمها . . ما كان اسمها ومتى توفيت.. ومن اي بلدة هي ؟
ولكنه اخذ يقلب طرفه متحيرا كما لو كان يشكك بكل اشكال الحياة من حوله وكافة حقائق الكون المحيطة به. . وبسرعة :
ـ لا ادري ما الذي يحصل . . كنت قرأت كل ما تسألين عنه الان . . ولكن لو اخبرتك والله ما كنت تصدقين افاداتي . . ولكن ثقي بكل من اعبد ، فاني كنت قرأت شاهد القبر ولكني اجدني الان فاقدا لكل ما كنت اختزنته في ذاكرت فيما يتعلق بهذا الامر . .
ـ نسيت كل شيء ! فقدت ذاكرتك ؟
ـ هذا ما اريد ان اصرح به وبكل اسف ، وبدون اية مبالغة .
ـ اتنوي ان تهتم بشطف مخي قبل ان اثب انا لغسل درن نواياك العالقة في أخيلة ليلك المريب (كان غيرك اشطر) !
ـ لكن . .
ـ لماذا لم تشعرني بكشفك الاثري هذا ، حينما كانت اصابعك تتلاعب بالبطارية ؟
ـ لم انو اخافتك . لذا لم امتلك شجاعة اخبارك بانك ما كنت مقتعدة الا قبر امرأة ماتت في عز شبابها الاخاذ . .
فاستدركت قوله :
ـ في عز شبابها الاخاذ ، وغمرة جهودها المثمرة . .
هاتفا بها :
ـ والله هذا نص ما قرأت ثمة ! انك معجزة حقا . . قولي لي كيف استطعت التوصل الى معرفة بقية الجملة . . هل كنت قرأتها من قبل. .
وباستهانة ، بعد ان وجدته يطرف النظر اليها كثيرا ولا يعني بالتحديق امامه في الطريق :
ـ رجاء . . انتبه امامك ودعك مما اقول وأفوه به .
مع ان دهشته لم تزايله كانت دقائق ذهنه تكابد لوعة الانصهار مما لا تقوى على محاكاته او الخروج من وهدته بجواب مقنع . . هل بدأت زوجته تذوب في شخصية صاحبة القبر ومن دون ان تعلم ؟ هل اتخذت قوانين الاعجاز الكوني من امرأته ساحة تغرس فيها كل انواع الحياة التي تحيط بكل علوم الحياة وافانينها وبمختلف مجالاتها. . لو كان لي الان متسع من الوقت لكنت امتحنت فيها كل العلوم وما كنت سأكون مخطئا لو وجدتها تأخذ مائة على مائة !
( 5 )
كان يسابق الريح بسيارته ، حتى اذا ما شعر انه قطع مسافة ميتة ، خارجة عن نطاق بحثهما ، ومن قبل ان يدخل في المجال الذي ينبغي ان يجري التفتيش في نطاقه ، كان خفف من الضغط على عتلة السرعة ، وانتفض بصره واياها، وتواثبت لحاظهما تطاردان كل اثر لقبر واخر ، من دون ان يصطدم بصرهما بأي اثر لعمارة قبر ، او عمارة حياة ! فظلا معا يرقبان كل جانب للطريق ، هناك حيث كان لهما وقفة فيه . . او أي بقعة لا يشكان معها انهما كانا توقفا عندها . ومن دون اي جدوى ! فلم يعثرا على المكان . . بل لم يتبينا اي طلل له.. سأم الحال ، هي الاخرى انتابها الملل ، بعد ان استبدت بها غرابة من وحي خيال . . كان الظلام دامسا، واشباح ممعنة في التداخل تتسابق في الفضاء بأسره . كل شيء حولهما كان يعبث بالابصار ، ويبعث على السأم والملل.. اذ لا يتلمس المرء في خلاله ، سوى تعب الامعان في عتمة بعيدة المدى ، لا يمكن بلوغ نهاياتها . وما كان ليخالهما الشك ان اعظم حدأة ، هي لتقصر بحدقتيها عن الاحاطة بمثل تلك المديات المهووسة بلون العتمة والظلام . . وما كان ليتسنى لها كذلك أن تخترق وببصرها حجب هذه الالوان الغارقة في حنادس ليلها المارق !
كما ان القبر نفسه ، ولو أنه كان يحاذي الطريق ، وربما أشرف عليه . . الا انهما لم يتبينا له أيما أثر ، ولم يجدا له اية باقية ! وتأكد لديه في الوقت نفسه انه كان استقصى كل المكان بأسره، مما كان يمكنه ان يجول فيه ويبحث ، او مما يمكن ان يقع فيه موردا واخر لكل شك وظن يتناوبهما! غير ان جهودهما كانت باءت بالفشل.
ولقد خاب فألها حقا ! اذ كانت تتوق لرؤية ذلك القبر ثانية ، بعد ان علمت انه ربما كان يمثل اي شيء الا القبر ! فلم يخطر ببالها مثل هذا الحدس ، على الرغم من انه كان بامكانها ـ لو اعملت اهتمامها في وقتها وتقصت واقع الحال ـ ان تكتشف حقيقة القضية . . ولكن احساسا اخر كان يتلاعب بانفاسها ويثير غرائب دخيلتها ، ويستفزها . . للتعرف وبنفسها على هذا القبر وبعينه . . لكنها ما كانت تعلم سر هذا الواعز الذي كان يلح عليها في البحث ، ومن دون ان تمتلك من المشاعر ما يمكنها من ثنيها عن التفكير بكل هذا ، او أن يحيد بشريط خيالها عنه !
تساءلت من جديد :
ـ هل يمكن ان تكون ليلتنا هذه كلها خيالية ؟!
فقال لها :
ـ ان لم تكن رزحت تحت ستار من الوهم.. سنعود.. ليس من السهل ان نجد في الليل ، ما اضعناه عند الغروب . . لان الصورة ربما لم تتكامل لدينا ، بسبب من عدم تركيزنا على المكان ، او عدم امعاننا في كل اطرافه وجزئياته .
عندئذ اكدت ما قاله ، من دون ان تشعر انها وبذلك، كانت تعلن عن افلاسها ، هي الاخرى :
ـ حتى لو كنا امعنا النظر ، فما كان بصرنا ، ليصطدم الا باطياف مغبرة من الظلمات المتداخلة في اخيلة من الصور المتماوجة . .
فقال مؤمنا على كلامها ، وبسرعة :
ـ كما انه ليس من البساطة التي يمكن تصورها . .
ـ اجل ! ان من الصعوبة بمكان ، ان نعثر الان ، وفي ظل من حنادس الليل القاهرة . . على ما اعربنا عن فقدانه ، قبل قلائل من الوقت. .
بينما وثب لسانها فجأة ، يناطح رأيه وتكاسله ، فهتفت به :
ـ عليك ان تعود بي في الغد الى نفس المكان ، ونفتش عن القبر . ليس عليك ان تنسى مكانه ومحله. . فلي معه اكثر من حكاية .
ـ غدا . . وحكاية . . دعكِ من كل هذا. لقد اخذتِ المسألة بجدية اكثر مما ينبغي .
ـ ولكن . . يا هذا ان شعورا بالحب وطموح جنسي يعاودني . . انه يشدد قبضته علي . . لنمارس الحب..
ـ ما الذي جرى لك . . لا اصدق ما اسمع . . انت تفكرين بالجنس . . انت ابعد الناس عنه . . ايحزنك مثل هذا القول . .
ـ انه يثير في نفسي احساسا بالارهاق !
ـ حقا تقولين هذا . . كنتِ الان تبحثين عن قبر ، والان تطلبين مني فعل الحب .. وهنا. . هنا في محاذاة الطريق الخارجي .
ـ اجل فلنمارسه ،كيفما شئنا . . بربك أوقف السيارة . .
أوقفها ، وقالت له :
ـ هيت لك . .
واذا بهما يستفيقان بعد دقائق فوق نفس القبر الذي كانا يبحثان عنه طويلا . . وما كان منه الا ان يمعن النظر في وجه امرأته ، لكنه لم يتبين منه الا ملامح ، لا تكاد تفي بالغرض . فاقامها علي وركيه كالمعلقة ، ومشى بها هكذا نحو سيارته ، ليقف بها أمام مصباحي الضوء ، فما كاد يتفرس في طلعتها حتى استكان ، وقال لها :
ـ انتِ ما زلتِ انتِ ! انتِ نفسِك !
وعندما استقلا السيارة من جديد سمع صوتا غريبا كان انحدر الى اذنيه من داخل السيارة ، فاذا به يقلب بناظريه حواليه ، يجول بهما في كل ما يحيط به ، التفت الى ورائه ، ليرى من كان استبقهما ، واحتل مقعده في الخلف بعد ان استقل العربة ومن دون ان يطلب الاذن منهما . . ولم يكن ذلك الشخص الا امرءا كان يرقبهما ويتطلع اليهما كل هذه المدة التي كانا يمارسان فيها الحب . . لا يمكن ان يخطيء ظنه في هذا الامر . . ولكن الصوت كان يحمل اليه مفاجأة اخرى سارعت الى ذهنه لتنسل عجلى دون اي استئذان هي الاخرى . . اذ كان صوتا انثويا ، كان له ان يخفف من عظم وقع الصدمة التي ما زال يشعر انه سوف لا يحتمل مواجهتها او التعرف على ملابسات مداخلها . .
كل هذا جرى في ثوان معدودات . . كان ذهنه يجري عملياته الحسابية بأسرع مما كان يتوقعه هو نفسه . . لكنه بوغت مأخوذا بدهشته التي تفاقمت عليه تباعا وبقوة مريعة ، حينما اصبح وجها لوجه امام المفاجأة التي تركته ممزقا ، مشتت البال ، ولوهلة يتيمة كان استرقها الزمن من اوقاته ليتركه وقفا على تجرع الخوف والحيرة معا وفي آن واحد . . اذ وجد نفسه تلقاء زوجته ذاتها ، وما كان احد غيرها يلقي اليه بالكلام ، ولقد جعلت تمد اليه بلحن الحديث المصحوب برنة عذوبة انثوية واثارة جنسية تقوم مقام كل دواعي الفتنة والدلال . كانت تحدثه بصوت ، ما كان ألف صدوره من فيها ابدا ، ولا كان اعتاد انبعاثه من ثغرها من قبل ولا للحظة واحدة قط . . لم يستمع اليها تحادثه ، ولا في اي سنة من سني عمره التي كان قضاها معها ، بمثل ذلك اللحن الدافيء من العذوبة والاسترسال المفعم بكل آيات الحب وحنين الدعوة لاختلاس اجمل ساعات العمر ، واقتناص احلى الاوقات الممتعة، التي لها ان تتخطى كل اشجان الزمن ، الذي كان ولما يزل يتعالى على رغباته وتطلعاته . . وذلك كله كان يحصل له في عداد تلك الدفقات من الحروف والكلمات التي كانت تترى عليه ، مسترسلة من حنجرتها ذات الاوتار الذهبية . اذ ما كذب الفؤاد لديه ما سمع، حتى خال الامر مزحة من السماء ، بعد ان ابتعثت حدثا من حور جنانها الحسان ، تغازله ، وتماحله ، في ظل اجواء ملتهبة بالعذوبة والاثارة التي لا بد وان يخشي عليه منها ! خوف ان يغط فجأة في غيبوبة ، لا قيام له منها.. أبدا !
( 6 )
وبمرور الزمان كان يشعر ان وجهها بدا يتغير من جديد ، ليكتسي نفس تلك الملامح المخالفة لملامحها الاصلية تلك ، والتي كانت حلّت محلها من قبل ، اذ كان له ان يستسلم لمعايشة امرأة ، تحمل في وجهها تقاطيع وقسمات نفس تلك الصورة التي كان ابصر زوجته عليها ، في تلك الليلة التي كانا قضياها معا في الطريق الخارجي ! . . ما كان ليؤمن بتناسخ الارواح ، ولكنه كان يشعر انه امام حالة هي ارفع مما يطلق عليه بالتناسخ !
ولقد كان اعتاد بعدئذ ملامحها الجديدة تلك، والاصغاء الى صوتها الجديد ، والتطبع على عاداتها التقليدية وطبيعة التعامل وصيغ التعايش معها . . لا عن كره بالرغم من ان هذه الجديدة اجمل وابهى ، وكأن جذورها تضرب في ارض الحسن والدلال فضلا عن ان هذه مهما اختلفت عن صاحبته الاولى فعلى اقل التقادير هي ما تزال تحمل اسباب زوجته القديمة وكينونتها الاولية اذ لم تحل هذه ضيفة عليه الا من خلال جسد حبيبته الاولى ، ولذا كان عليه ان يحسب الف حساب للحفاظ على الالفة والمودة، لان المرء ان كان يحفظ في ولده فالزوجة ينبغي ان تحفظ في قرينتها التي انطلقت من جسدها وانبثقت في اعماقها ولو انه كان يجد الثانية محتلة ان لم يجدها غاصبة لارض حببيته مستثمرة لامكانياتها لكنه كان يتنازل عن هذه الافتراضات بعد ان يجد نفسه بين المطرقة والسندان لا يقوى على تحقيق ما يريد فيرضخ لواقع الحال باستكانة واعياء . .
ولكن ان بدر منه ما يشبه الامتعاض والحنق والسأم ، فلأنه كان فقد وجه حبيبته التي كان اعتاد ان يصبح ويمسي على طلعتها ، في كل يوم وليلة. وامتثل لارادة القدر رغما عنه حتى ان زوجته نفسها، لم تكن تستغرب تلك القسمات الجديدة التي طرأت على وجهها ، وكأنها هي صاحبة ذلك الوجه منذ ان ولدتها امها . . لا واحدة اخرى من النساء ! كما ان الصور التي كانوا التقطوها من قبل ، كان لها هي الاخرى ان ترضخ لمسيرة الواقع الغريب ، اذ جعلت تنطق بكل ما يمكن ان توحي به هذه الحقيقة من مصاديق ثابتة ، لا غير ! هذا ، اضافة الى ان كل من كان يحوطهما من الاهل والاقارب ، كانوا هم كذلك جميعا يستفهمون منها كيف ان زوجها يرتاب في هيئتها وملامحها . . ويلحون عليها في بيان السبب من وراء كل هذه التهيؤات التي تعتري رجلها وهم الذين ما اعتادوا منه مثل هذه البوادر غير المسئولة . بينما اعتاد هو الاخر ومن جانبه الاصغاء الى جملة تندراتهم التي ظلت تطرق اسماعه لمدة طويلة وفي ضمن فترات متناوبة :
ـ اكنت يا هذه ، تملكين وجها اجمل من هذا ، أم صورة أخرى . . هيا اخبرينا . . اين خبأتيها ؟
في حين انه لم يتلق من زوجته اي طلب مجدد في البحث عن القبر ثانية ، ولا أي رجاء في الخروج معا ومن جديد لاستقصاء محله او للتفتيش عنه . . بعد تلك الليلة . . ولقد ساورته نفسه فخرج في بعض المرات يبحث عن اثر لذلك القبر ، فلم يجده . . ولم يعثر عليه قط ! مع ان حنينه الى مرأى صورة زوجته الاول ، والتطلع الى وجهها الذي كان يشعر انه حمل معه ذكريات عمر كامل ورحل ، او حتى شوقه الى الاستماع أو الاصغاء الى لحن صوتها الحقيقي ، لم يكن ليخمد أو تنطفيء جذوته قط ! لانه ظل حلما يراود مخيلته الطرية طيلة بقية عمره !
تمت بعون الله تعالى
مع تحيات جمال السائح
Almawed2003@yahoo.com