قصة قصيرة....... كُليزار أنور
حقيبة سفر
خمس سنوات وحياتي معه أشبه بالمشي على حبلٍ معلقٍ في الهواء! منذ أول لقاءٍ بيننا وأول حوار أخبرني بموضوع السفر.. ومنذ ذلك اللقاء انطبع هاجس شخصيته في فكري يتمثل بحقيبة سفر. هكذا كنت أتخيلهُ أو يتراءى لي. خجلتُ أن أُخبره بالأمر حينها.. حتماً كان سيضحك كثيراً.. ومؤكد سيضحك من كل قلبه حينما يقرأ قصتي هذه.
صورة أول لقاء تترسخ في الذاكرة، لا تبارحها مهما امتدت بنا السنوات. لم نجلس على إحدى المصاطب كما يفعل معظم العشاق.. أصرّ أن نجلس على سور حديقة الجامعة تحت ظل تلك الشجرة التي نكثت علينا يومها كل غبارها و ذوائبها. ووجدَ الحب طريقه إلى قلبينا بسهولة.. حدثني عن أشياء كثيرة في حياته ومن ضمنها ذلك الحلم الذي يراوده دائماً.. حلم السفر إلى البعيد.. والهرب من بلدٍ تحولَ تاريخهُ إلى قافلة حروب!
كنتُ أسمعه بإصغاء و أعطيه الحق فيما يقول ، فلم يعد بلدنا حضناً دافئاً. بأسف نقول: أصبحَ بلدنا حفرة من نار. لكن أينَ أنا من هذا كله.. وكيفَ بمقدورهِ أن يعشق ويفكر بالسفر في نفس الوقت ؟؟! فالحب ثبات واستقرار وشجرة بحاجة إلى الارتواء.
وانسحبت من حياته رغم حبي لهُ وحبه لي ، فلم أرضَ أن أتحول إلى كأس ماءٍ في حياة عابر سبيل! لكن الحب كان قدرنا الأوحد ، فيكفي هاتفٌ صغير منه لأعود راضية حتى بقليله.. راضية بقطرةِ ماء .. قطرة منه كانت كفيلة بإرواء حدائق العمر كله. معهُ عرفت كيف تتلامس الأحاسيس وتتلاقى الأفكار.. انهُ الرجل الوحيد الذي أنا بحاجةٍ إليه.. الرجل الوحيد الذي أشعر بأنهُ يستطيع أن يسند مخاوفي و أنوثتي.
وكبرت شجرة حبنا وكبرنا معها . صادفتنا العواصف وهزت بأرضنا الزلازل وحاصرتنا الأدغال من كل صَوب.. وما ماتت الشجرة ، لأنها _بكل بساطة_ مدت جذورها في أعماقنا!
نفترق دون زَعل لنعود دون أن نذكر حتى أسباب الفراق ، وكأننا نمنح بعضنا استراحة مؤقتة أو إجازة . هكذا مضى بنا العمر وتسربت الأيام _كما الرمال_ من بين أيدينا. وتناسلت الحروب في بلدنا.. وتصورنا جاءنا الخلاص _كما ظننا_ بعد أن انهار التمثال و وقع الصنم الذي صنعته أيدي الظلم والدكتاتورية جاءنا ما هو أقسى من الحرب والظلم والصنم.. جاءنا كابوس الاحتلال ليسحق حتى الرمق الأخير من أحلامنا ، فكلنا يدفع ضريبة عراقيته!
إنَ الحب الحقيقي أثمن من أن نفرط فيه.. وكان ما بيننا حباً حقيقياً.. هكذا كنا نحس به.. والحب إحساس قبل كل شيء . ما عرفَ غيري (كَحب) وما عرفتُ غيره، رغم ان كلينا كان حُلماً في عيون الآخرين . اختصرتُ الرجال والعالم والكون كله في عينيه الشهلاوين. لقاءاتنا نادرة وبعيدة جداً .. لا أدري.. ربما إيماناً منا بأن ما بيننا روحي أكثر من ما هو جسدي.. مبدأ غريب! مع هذا لم نفترق وخاصةً في الفترة الأخيرة .. كُنا نتحدث عبر الانترنيت و الموبايل.. كانت (المسجات) بيننا لا تتوقف طيلة نهارنا (من .. صباحكِ سكر.. إلى.. تصبحين على حب) وكأننا نعيش مع بعضنا. ومازال ذلك الهاجس يراودني ويعاود ذهني باستمرار.. ما زلتُ إلى الآن أتخيلهُ حقيبة سفر! وتصوروا معي حقيبة تمشي على الأرض، تضحك، تتكلم ، تتناقش بغضب.. وتتغزل بي أيضاً!
منذ خمس سنوات وهو يصفعني بكفِ السفر. كان بطبيعته متشائماً جداً وغير ميال إلى التعبير عن عواطفهِ.. لذا أخذت القسوة درباً سهلاً إلى قلبهِ. تناسلت مواعيده كما تناسلت الحرب عندنا (سأُسافر بعد سنة، بعد شهر، بعد أسبوع، بعد رأس السنة، بعد .. .. ، بعد .. ..). وساءت أحوال البلد يوماً بعد آخر.. حتى أني بدأتُ أدعو لهُ بالسفر في كل صلاة لي، على الأقل سأطمئن عليه هناك أكثر من هنا. أستعيد في ذهني رأيه وتعليقه: _ بلدنا أصبح بلد القتلى والسيارات المفخخة!
ليسافر إذاً، فالحب في قلبيّنا لم تمحه الحرب ولا الغياب.. ولا أظن بأن السفر سيمحوه ذات يوم.
وجاء الوقت الذي تحول فيه الهاجس إلى يقين والحلم إلى حقيقة.. كحدِ سكين جاءني صوته بارداً ممتلئاً بالقسوة وهو يخبرني بموعد سفره. صوته يحمل _هذه المرة_ نبرة الإصرار على الفراق. آلمتني لهجته.. يبتلعني فراغٌ لا قرار له.. ينابيع من الحزن تفجرت في أعماقي.. ودَبّ في جسدي الحريق! فالأمل في البقاء تلاشى أمام عاصفة اليأس من العدول عن قرارهِ بالسفر. هل من الممكن أن ينهار كل شيء وينهدم بلحظة واحدة، بطرفةِ عين، بكلمةٍ تصدر منه؟! هل سيضيع الماضي الجميل بيننا في أرجل المستقبل؟!
وسافر دون أن يودعني. وقلت في نفسي .. كُنا نفترق وعندما نلتقي يقول لي مبتسماً: _"ما تخاصمنا كي نتصالح." وأقول اليوم مواسيةً جرحي: _ ما افترقنا كي نودع بعضنا كالغرباء!
أفتح نافذة غرفتي.. الشمس بدأت ترسل أشعتها الذهبية دونَ أن تمنحني الدفء، فشمس كانون واهنة. عمت سكينة باردة.. لحن الفقدان يترنم في مسامعي.. سفره جرح يغور في داخلي.. الشرود والضياع يأخذني إلى بحيرة الذهول.. أعماقي هوّة شاسعة وهواجس طرقات أضاعت دربها.. تنهمر الدموع على خديّ.. أمسحها بأطراف أناملي محدقة بالسماء.. تبدو بلون اللؤلؤ، صافية تحت سحابٍ أبيضٍ شفاف.. ويتحول نظري إلى بؤرة ضوءٍ حاد يتابع بالتماعٍ غريب. طائرة تُحلق بعيداً.. يسقط منها شيء.. أنظر مُبحلقة بسعةِ عينيّ كلها.. شيئاً يكبر كلما اقترب أكثر.. وتوضحت معالم الشيء.. حقيبة.. حقيبة سفر! وقبل أن تسقط _ عندَ خط الأُفق تقريباً_ انفتحت، فتساقط منها ورد أحمر.. بدأت الورود تتساقط ببطء.. ببطء شديد لتتناثر على ثلاثةِ قبور.. قبر لأب، و آخر لأُم.. والقبر الثالث وجدتُ اسمي مكتوباً عليه!!!