قصة قصيرة....... كُليزار أنور
النصف بالنصف*
بعض الأصدقاء يسقطون في الطريق، وينتهون من حياتنا كفقاعة.. إلاّ هي.. بقيت معي وفية، مخلصة. شيرين صديقتي منذ أيام الطفولة.. رغم اختلاف طباعنا.. لكننا قريبتان جداً من بعضنا.. فغالباً ما يتجاوب النقيضان.. ويتنافر الشبيهان.. انهُ قانون الطبيعة!.. فالذي فيها ليسَ فيّ والذي فيّ ليسَ فيها.. لم يصادف أن تخاصمنا يوماً.. ولم نفترق.. حتى في الجامعة.. مجموعها أدخلها قسم الترجمة/ كلية الآداب البعيدة عن كليتي. ما أن تكمل محاضراتها حتى أجدها في انتظاري أمام باب الكلية أو في الكافيتريا. كان تعلقها بي لهُ شكل غريب.. غموض جميل يغلف وجودها معي!
الصداقة تأخذ أكثر الأمكنة الدافئة في القلب الأمين.. في عينيها يسكن فيض من الصدق والحب والوفاء النادر، فتعمقت علاقتنا يوماً بعد آخر.. وكأنَ روحاً واحدة تقاسمناها في جسدينا.. كنتُ أُحبها كثيراً، وكانت جديرة بهذا الحب.. فهي إنسانة رقيقة، طيبة القلب، مرهفة الشعور.. عندما تكلمها تشعر بها كنسمة ندية، كابتسامة طفل، كشذا زهر.. كم تبدو رائعة بصفاتها.. إلاّ الفضول الذي يسكنها وتدخلها في كل شيء يخصني.. كانت في بعض الأحيان حينَ تجدني شاردة تريد أن تعرف _ حتى _ بماذا أُفكر.. أقول لها: لماذا؟ فترد بجدية: لأُشارككِ في التفكير. وشيئاً آخر.. كنتُ أجد _ دائماً _ أشيائي ناقصة بالرغم من أنها ليست بحاجة.. كونها من أسرة ميسورة الحال وكل ماتريدهُ متوفر بينَ يديها.. فكم من مرةٍ اكتشفتُ اختفاء أشيائي.. أقلامي.. أوراقي.. حتى أحمر شفاهي! ولم أكن أهتم لهذهِ السرقات البريئة لأني واثقة بأنها لا تتصرف هكذا بدافع السرقة.. بل بدافع المشاركة.. وعندما ترى الدهشة في وجهي من تصرفها.. تلوح على شفتيها ابتسامة هادئة وتجيبني:
_ (( fifty _ fifty )).
وتخرجنا.. وشيء طبيعي أن تعمل شيرين كمترجمة.
عندما تغيب الزرقة الصافية عن السماء.. تعرف بأن الخريف قد جاء وتبدأ الرياح بالإحماء استعداداً لهُ فتصول وتجول حاملةً معها أوراق الشجر وذكريات صيفٍ انتهى.. حينَ هبت نسمات باردة بعثرت خصلات شعرنا.. كُنا نجلس في الحديقة فقلتُ لها:
_ لماذا لا ندخل ؟
نظرت إليّ مبتسمة.. ابتسامة لا تنم عن شيء.. ابتسامة لم تكن جادة أو ساخرة، ولا رقيقة ولا قاسية.. لكنها في نفس الوقت.. مدركة، عاقلة! وهزت رأسها وخاطبتني بعينين ساهمتين:
_ أُريد أن أُترجم لكِ.
ولم تنتظر جوابي وأردفت فوراً:
_ قصتكِ "القصر الفضي"!
_ لماذا تلك.. إنها مملة، فالوصف فيها كثير؟!
_ أنتِ تقولين هذا.. إنكِ أنتِ مَن كتبها؟!
_ صحيح إننا ننشر أكثر قصصنا.. ونكون مقتنعين بها عند كتابتها ونشرها.. لكن بعدَ النشر نتمنى لو كنا تريثنا ولتمنينا لو أن المحرر لم ينشرها.. رغم اقتناعنا الكامل بها ساعة كتابتها.. وهو أمر عادي ويحدث لكل الكتّاب في كل عصر وأي عصر!
_ لكني أُريدها بالذات وأن تكون أول عمل أُترجمهُ لكِ.
لم أرد.. فقط أغمضتُ عينيّ إيماءة الموافقة.
قدمتُها لها بعد أيام.. كانت سعيدة بها، فقد قرأتها سابقاً.. حتى قبل نشرها، فأصدقاؤنا هم أول قراؤنا!
ومرت أشهر وإذا بها يوماً تفاجئني بنشرها في إحدى الصحف الأجنبية.. وسعدتُ كثيراً لنشاط صديقتي.. وإن لم تكن مترجمة متفوقة لما ترجمتها ونشرتها بهذهِ السرعة. وأخذتها معي وقرأتها لأعرف بأي إحساسٍ فني قد ترجمتها.
لابد أن يكون منطلق الترجمة هو التذوق والحس.. فلم تكن الترجمة حرفية كما يفعل معظم المترجمين.. بل أبدت براعة لغوية في ترجمتها وتعاملت مع قصتي باسلوب تعامل الشاعر مع قصيدته، وقد شاركت أبطالي أحاسيسهم ومشاعرهم.. فكل جملة مترجمة لها دور مجازي في خلق المعنى الذي أردتُ أن أصل إليه.
قصتي _ باختصار _ تتحدث عن حادثٍ معين يحدث لعائلةٍ معينة في قصرٍ واسعٍ جداً في ضواحي مدينةٍ ما.. ومن سياق أحداثها أن أسترسل في وصف القصر وما يحويه. صحيح أن أحداث القصة مترجمة بشكل دقيق وواضح وفيها روح جديدة أضافت لها ولم تنقصها، فالمترجم الناجح يكتب العمل ثانيةً!
وكانت المفاجأة!
فقد وجدتُ أمراً مثيراً للعجب وباعثاً للحزن أيضاً! فكل الأرقام التي ذكرتها لأصف القصر من عدد الغرف والنوافذ والثريات وموائد الطعام والكراسي واللوحات والتحفيات.. كل شيء فيه "عد" قد تقلص إلى النصف بالضبط!
لم أطق الصبر لليوم التالي، فهاتفتها في الحال. وتسلل رنين صوتها الدافئ في أُذني.. ودونَ أن أقول لها _ حتى _ مرحباً.. قلت بغضب:
_ ماذا فعلتِ بقصتي؟!
سمعتُ صوت ضحكتها الهادئة.. وردت بجدية:
_ كيفَ تمتلكين هذا القصر الواسع لوحدكِ.. (( fifty _ fifty )).
*"النصف بالنصف" فازت بجائزة مسابقة الشباب الأدبية عام 1999.
www.postpoems.com/members/gulizaranwar