الوسادة الغالية كاملة

 

 

الوسادة الغالية


"1"

وجدُتها


الحاجة أمّ الاختراع، و قد صارت حاجتي ملحّة للتخلّص من ثرثراتي، ولو انتهكت المحرّمات و سلكت الدروب الملتوية.

هداني تفكيري و تمحيصي لتطبيق طريقة المكافحة الحيوية، فرحت أصوّب نحو كلّ فكرة فكرةً مضادّة.

لكنّ أفكاري لم تكن حشراتٍ ضارّة ونافعة، ففي كلّ مرّة كانت تظهر فكرة جديدة عبر التضادّ والاختلاف و أزداد تورّطاً.

أما فكرة البئر والثرثرة في فوهته فطبعاً كانت فكرة غبيّة بجدارة لأن الماء حافظ رهيب للذبذبات والتراب ناقل ممتاز لها، وسيفضحني هسيس السنابل يوماً و طيب الورود. 

فكّرت بحرقها، فقادت لي الصدفةُ المقصودة من يخبرني اكتشاف العلماء لحقيقة أن الرماد المطمور يعود للتوهّج بعد قرون فسدّ هذا الخبر باباً جديداً للخلاص. 

أخيراً صحت كأرخميدس : "وجدُتها..  وجدُتها"

وبدون أيّ تأجيل أفرغت وسادتي من قطنها و بدأت أحشوها بالكلمات.

أراكم تضحكون و تستسهلون الأمر كعادة المتفرّج الواقف على الشط و الناس غرقى.

ما علينا.. اضحكوا..  اضحكوا فالدنيا للضاحكين. 

كان أمامي مهمّة شبه مستحيلة 

أن أجمع كل ما قلت و كتبت عبر خمسين عاماً.

ان أقتصّ من الأثير صوتي و أنزع عن الحيطان ومقاعد الدراسة طفولة خربشاتي.

ان أهكّر الصفحات الأدبية لأسرقني منها.

ان أستردّ أنفاسي التي وزّعتها بالمجّان.

أن..  و أن..

لأحشو وسادتي بها وأنام ملء جفوني بعد سنين الأرق.


"2"

حيوات في وسادتي


قضيت وقتاً أخيط الوسادة على ما استودعته فيها.

حدّثت نفسي فيما طفت ابتسامة أغمض من ابتسامة الجوكندا على صفحة وجهي :

هكذا..  حتى الجنّ الأزرق لن يهتدي لأدبياتي، و إن خطر للصّ فتق وسادتي سيصاب بالخيبة، حين لن يجد ذهباً ولا فضةً فيها، بل يراعات تضيء و تنطفئ في عتمة الليل، لا تشبع نهمه للنجوم.   فنادق سبعة نجوم..  مطاعم ألف نجمة..  نساء مليون و أكثر. 

و كانت ليلة ليلاء لا أنساها.

ما أن وضعت رأسي لأنام على وسادتي صنيعة يدي و عقلي، حتى أحسست بضجيج الأكوان برأسي.

ما أكذبهم..  و ما أكبر غفلتي حين صدقتهم.

كانوا يقولون عن كلماتي أنها قويّة و ناعمة كالحرير، فواعدت نفسي بأن أريح رأسي على وسادة أخفّ من ريش النعام، و أسدل الستار للأبد على هوس الكتابة و طاحون الأفكار. 

و ما كان بحسباني أنّ ما استودعته وسادتي كان حيوات..  حيوات..  منذ الأزل و إلى أبد الآبدين. 


"3"

وللصوت لون


كثيراً ما تأخذنا الحياة بعيداً عمّا نتمناه أو ما خططنا له. 

فإن كنّا من أهل الإيمان بالغيبيات، وجدنا في ذلك إشارة و رضينا بما نراه قد قُسم لنا منذ الأزل. 

و إن كنّا من أهل العناد و التصميم، كرّرنا المحاولة ذاتها و لو قرمشت عمرنا كلّه تكّة تكّة.. ولم نقبل المساومة على هدفنا بهدف آخر. 

و إن كنّا من أهل .... "لا أجد مسمّى يليق بهم" تساوى بأعيننا ما يأتي و ما يروح، و لنا في كلّ هدف بديل نعتاش منه في رحاب اللحظة ونمصّ ضرع المضارع بلا أطلال أو سين تسويف. 

المهم..... 

أنني حين حشوت وسادتي بترّهاتي، كان ظنّي أنّي أحقق غايتين... 

أولهما أن أفرغ رأسي و حياتي من القيل و القال و أشكال الأدب وفنون الكلام، وأنعم براحة البال. 

و ثانيهما الاحتفاظ بها لاستعادتها لحظة ملل أو حنين، أو تركها لأحد أبنائي إن صادف أنه مصاب بلوثة الكتابة مثلي ليستوحي من هذيانها أفكاراً جديدة بدون نسخ و رسخ و فسخ. 

لم يخطر ببالي أبداً أن ما أريد غير ما تريد..  و أقصد الحياة. 

فما أن وضعت رأسي على الوسادة حتى تناهى لسمعي أنين مكتوم.

أنين عتيق أسودُ من تلك الليلة الكالحة. 

أسود؟!

وهل للأصوات ألوان ؟؟؟!!

حتماً فالأصوات لها اشتقاقات ألوان قوس قزح مضافاً لها الأسود الفرد و الأبيض المركّب..  وصوت شفّاف كالروح من أمر ربّي.

أخذ الأنين المكتوم يعلو و يعلو حتى كأنه لم يبق سواه في الكون.

تغابيت عن معرفتي به، وصممت أذني عن سماعه بوضع الوسادة فوق رأسي، فصار الأنين استغاثة و نجدة. 

هذه القصيدة أعرفها أكثر من جلدي، كممت فاهها قبل أن يكتموه لأنه كان الحقيقة السوداء السافرة. 

هي ذاتها المرأة العتيقة المجعدة التي أطلقت سراحها في رؤية قديمة من دورة المياه..  أيام اهتمامي بالرؤى. 

ظننتني أعدتها لحبسها و استرحت، فأبت إلا الأنين. 

و كأن الدهر ما كان سوى عرّابها لتظلّ حيّة في العالمين. 


"4"

القصيدة الطفلة

 

خالطَ الأنين المكتوم بكاء طفل بطريقة تقطّع نياط القلب،  وعهدي أن الطفل لا يبكي إلا من جوع أو موجوعاً كما كانت أمي تردّد على مسمعي أثناء تربيتي لأطفالي. 

كان البكاء لقصيدة طفلة، لا أدري أأنجبتها بلحظة نزق أم حبّ، ثم نسيتها في زحمة التناسل الأدبيّ و نسيت حتى أن أطلق عليها اسماً لسهولة التمييز. 

أيّ سماء تغفر لأمّ تنجب أطفالاً ثمّ تركنهم في زوايا الإهمال دون اهتمام بأكلهم و نومهم وصحّتهم و هندامهم، ثم لو حشر واحد منهم مع ألف طفل لعرفته وقالت هذا الطفل من رحمي، و أبت عليها أمومتها أن ينسب لسواها. 

خطر لي أن أفتق الوسادة قليلاً و أنسل منها القصيدة الطفلة، أن أضمها لصدري و أحنو على غربتها في فوضى المقالات و الروايات والمعلّقات علّي أغفر لنفسي لا مبالاتي، لكن الصوت خفت فجأة و علّلت نفسي أنها تصطنع الدهشة مع أقرانها من قصائد الهايكو، وما أكثر ما أعلّل نفسي ليستمر الهروب. 

قصيدتي الطفلة، أقسم أيضاً أنها أتتني عبر الرؤيا حيث كانت موؤودة في التراب و تجاهد في رفع رأسها لتلتقط الهواء بشهقات متتالية، وقد جئت بها لأمّي بشعرها الأسود وعينيها السوداوين البراقتين، فقالت دون حتى أن تلتفت : "أعيديها من حيث أتت ماذا سيقول الناس عنّا "، لكني بكيت وقلت : "والله حاولت لكنها تصرّ على الحياة". 

ستقولون أني أعمد لأسلوب التشويق لأمسك القصّة من نواصيها، و أنا لي صبر الجمال على ما تقولون، وسترون يوماً من أكون إذا "ثنيت لي الوسادة".


"5"

حالة عصيان


قصتي القصيرة جداً التي فازت بالمرتبة الأولى في المرّة الوحيدة التي شاركت بها بماراثون السباق، أعلنت حالة تمرّد و عصيان. 

قصة قصيرة جداً لقصرها لا تكاد تُرى، تحقّق مقولة سخيفة أن كل قصير لا يخلو من فتنة، إلا إذا فسّرنا الفتنة على أنها السحر و الجمال، لا إثارة البلبلة. 

و رغم ضآلتها بالأبعاد الثلاثة المحسوسة فإنها تحرّض سجناء وسادتي ضدّي، كأن كلّ أبعاد الكون اللا مرئية و كلّ شياطين  وادي عبقر يدعمونها. 

من كان يصدّق ؟؟!!

هكذا تأتيك الضربة القاصمة من حيث لا تدري، لتبعثر حساباتك الرياضية و حنكتك الاختباراتية هباء منثورا. 

تقول نفسي أن الغرور أصابها بعد الفوز، فتبتسم نفسي الأخرى في سخرية و تؤثر الصمت. 

إما نفسي الثالثة فتصغي للهتافات داخل الوسادة علّها تلتقط شتيمة أو لفظاً مريباً، فلا تسمع إلا تلاطم بحور الشعر و ارتفاع منسوب المد و الجزر حتى كأنها ليلة اكتمال القمر. 

نفسي الرابعة أكثر واقعيّة توبّخني قائلة: "هل تظنين أن الخلاص يكون بحشر أفكارك مهما كانت قوالبها بزنزانة وسادتك..  كوني على حذر فالوسائد كطناجر البخار". 

يسود الصمت، بعد فرقعة و قرقعة و قعقعة. 

يرتجف قلبي هلعاً.

لا أظن هذه المجنونة فعلتها حين عجزت عن قطع الخيطان بأن فجّرت نفسها وكل مساجين وسادتي ليكون موتهم علامة فارقة لحياة الكلمة الحرّة .


"6"

انسلاخ


من كان يصدّق أن وسادتي ستستوعب كلّ هذا الاكتظاظ السكانيّ من كلّ عرق ولون.

أعراق نخبويّة صافية وأخرى خلاسيّة هجينة..  ولا عرق بينها يباهي بأزرقه أو يلعن سواده.  

ثم بدت لي بلحظة مثل USB .. أو كملفّ مضغوط اختزل داخله آلاف الصور و الحكايا. 

وبلمحة خاطفة رأيتها مدارات و أفلاكاً..  ملائكة و شياطين..  ثم ثقباً هائلاً أسود  يبتلع كغول كلّ هذه الأوهام من هبائها حتى مجرّاتها. 

وشوشت الوسادة و قاطنيها :

 "أنا ربّكم الأعلى..  أقداركم و مصائركم بيدي..  إن شئت أنهيكم أو شئت أبعثكم خلقاً جديداً آخر". 

لكن الذي حصل أن ربوبيّتي ظلّت قلقانة و ما زادتها السيادة إلا رقّا و عبودية، وصرت أحسد حشو الوسادة على سكينته مقابل زلزالي الليلي الذي لا تبدو له نهاية. 

ثم كأنّ جفني غمض لبرهة فتجلّت لي قصيدة كالعروس كنت كتبتها في زمن مضى و انقضى، و عاتبتني دامعة :

كيف طاوعك قلبك أن تتنكري لقديمك بما استجدّ.

حاولت أن أبرّر تقلّباتي وتغير رؤاي و آرائي و أن سنّة الكون التغيّر و أني لا أنكرها و إنما هي وحي مرحلة ولكل مرحلة إيحاءاتها. 

فما كان إلا أن تلاشت كبخار، و انتفضت مذعورة من محاكمة غير عادلة لا أدري من فينا الظالم فيها ومن المظلوم.


"7"

حوار الغيوم


و لمّا طال الليل و عزّ النوم، رميتُ الوسادة أرضاً فسمعتُ طقطقة عظام، و شفّ القماش عن عيون دامعة لكنها تفيض محبّة.

كنّ يرقبن أرقي بحنوٍّ، فأدمعن عيني، ومن أنجبتهن صرن أمهاتي آن ضعفي. 

ليس في طبع ثرثراتي الشماتة التي قد تعتريني كأيّ كائن بشري خالطت باؤه الشرّ،

لأنهن ببساطة فطرة الحياة التي لا تسعى لمجد ولا تبتغي أجراً ولا تنافس لتعتلي عروش الأدب. 

قصائدي كريمات الأصل مهذّبات نهلن من أصفى المشارب و رضعن لبان الحياة غير المغشوش .

لذلك أشفقن لحالي ولبثن منتظرات بالصبر موقنات بالفرج نادمات على هيجان حرّضته إحداهن بنوبة انحباس قهريّ.

وأنا وقد اعتدلت في سريري و أوشك الفجر أن ينبلج، تسلّل شبحي إلى الورق يبتغي التدوين كعادته طوال عمري، فنهرته و أجلسته قبالتي نضيّع الوقت بحوار وليد لحظته.. 

اصطنع الشبح دور المحاور الأديب المتأدّب وراح يصيغ الأسئلة التي أشتهيها ولم يسألني إياها أحد، و كنت أفيض أجوبة كساقية ضلّت هداها فقادها الضلال إلى أناها. 

لا لم تكن أسئلة.. 

كانت رقصة تهتزّ لها الأرض و تتنزل السماوات..

كانت عناق غيوم.. 

كانت وِرداً صوفيّاً.. 

لم يكن في الحوار إلانا وقد غاب الأغيار فكأن المقصود منه أنا لا القارئ، فغمرتني نشوة الخلق للحظة وغبت عن الوجود، و رغبة وحيدة تتملكني 

لماذا لا يكون الجميع أشباحاً؟!

الأشباح لا تخيف والظلال أكثر مصداقية و تحرّراً.

الملامح و التفاصيل قيود و احتراف و صنعة. 

أما الأشباح فهيولى وبرزخ بين المادة و الروح، و طوبى لمن لاقى شبحه في بهرج الأضواء والألوان.


"8"

قسم


قلت لنفسي و الفجر يشهد قسمي و سقمي :

بعد اليوم لن أقرأ، القراءة تحرّض الكتابة. 

بعد اليوم سأمحو الحبّ بممحاة النسيان، فالحبّ أقوى أسباب الكتابة. 

بعد اليوم لن يزعجني خذلان أو تفرحني الألوان أو أتعاطف مع ظلم الإنسان.

بعد اليوم سيجد شياطين الشعر ضحيّة غيري، فالأرض لا تخلو من السذّج من أهل الإدمان و التدوين. 

سأحيا ما بقي لي من عمر في صمت الشاهد المحايد. 

سأستبدل هذه الوسادة بوسادة أخرى رغم صعوبة هذا الأمر.. وأنام قريرة العين. 

ليست المرة الأولى التي أقسم بها على الهجران ليلاً، ثم تشرق الشمس فأنسى أَيْماني وحلفاني،

وكل مرّة أدّعي أن هذه المرّة لن أحنث بالقسم و سترون يا كلّ سكّان رأسي الثرثارين. 

حسناً..  ماذا ستفعلين بدل الكتابة، فحواسك كلها تتآمر ضدّك و تبتكر من كل إحساس فكرة تختار لها قالباً لتولد نثراً أو شعراً أو مقالاً أو قصة...... 

سأفتح حانوتاً يعتاش منه الخلق

الفمّ الثرثار لا يحيا دون وقود، و بيع الطعام أشرف من توزيع الكلام الفارغ بالمجّان.

حانوت؟!

تئنّ مفاصل ظهري سلفاً وتعترض أنوثتي بألف لافتة استنكار

وتنهض سنواتي الكثيرة في وجهي 

وتختال في ترف شاعريتي 

وتسخر مني شهادتي الجامعية الصفراء المركونة في خزانتي منذ سنين الشباب. 

لكني أصمّ الأذن عنها جميعاً

و أعاود التقلّب على وسادتي وأنا أتململ :

متى سيطلع الصباح ؟


"9"

ولادة

 

أنا لا أقصف عمر وسادتي بهذا الفصل التاسع أو الشهر التاسع كما تحسبون، و لأني وليّة أمرها أنهي حياتها كما تتخيلون.

لكني بعد أن طلع الصباح علي  ولم أنم  شعرت بآلام مخاض ردّتني ثلاثين عام  للوراء ووجدتني أطلق سراح سباياي كأن الفاعل آخر ليس أنا. 

فتقت الوسادة ومددت يدي لأطلقهن حرائراً كما أتين للدنيا

فلم أقبض إلا على الريش.

زغب يتطاير و أرياش من كلّ الأحجام ملأت سريري ثم غرفتي فبيتي فبيوت الجيران فالمدينة بأسرها. 

لكني لم أجد لحيواتي في وسادتي أي أثر. 

أصابني الهلع حين تذكرت قول أبي أن قبور الأولياء فارغة.. ووسادتي كانت قبر تجلّياتي.

ووجدتني ألوذ كجنين بحضن خرافة عمري : أولياء الله لا يطّلع علي ولادتهم ولا على موتهم أحد. 

أعدت القطن بهدوء لوسادتي و نهضت من سريري أسند فقرات ظهري المنقرصة بباطن كفي، وأستعين بالزهايمر على سنين ما بعد الستين. 


تمّت..  حتى ولادة جديدة من محاق.



View thana-darwish's Full Portfolio