لم يحدث أن كتب كاتب في تاريخ التراث الدرامي منذ فجر التاريخ وحتي الآن مسرحية كل شخوصها ( ملائكة ) أو بشراً أخيارًا، لأنها ببساطة تصبح ( لا مسرحية ) عندما ينتفي(عنصر ) صراع ( الأضداد ) وأمامنا التاريخ و ( أحسن القصص ) التي رواها كتاب الله ( القرآن الكريم ) وتعالوا الي سورة ( يوسف ) .
وليس هنالك من مثال أبلغ وأحكم وأعمق من تلك السورة في التدليل علي قيمة ( أحسن القصص ) في تعليم الناس ، واخذ العبر وتشريح اغوار النفس البشرية واضاءة عتمتها (ودعك من مجلدات علم النفس أيضاً ) فلا يعلم خفاياها وأغوارها وتضاريسها مثل الذي (سواها ) وليس هناك مثال اقدر علي الرد ، او علي توضيح قيمة (الصراع الدرامي ) بنقيضيه ( سالبه وموجبه ) في تركيز قيمة ما ينفع الناس من قيم ( خير وحق وجمال ) مثلما يتضح من خلال ( المعمار القرآني ) البديع في تلك القصة المحكمة والبليغة ، بل وليس هناك مثال يستطيع أن يتعلـــم منــه ( أهل الدراما )قوة البناء الدرامي ، وتماسكه وجذالة ودلالة العبارة ، والقدرة علي الايجاز البليغ والتلميح الموحي البديع ورسم الشخصيات ، والحوار القصير المعبر ، والحركة الهائلــــة في (الحدث ) أو ( الفعل ) مثلما في هذه السورة القرآنية المذهلة .
ان الله الذي لا يستحي ( أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ) جعل قطبي الصراع كما هو،ومن واقع الحياة كما حدثت احداثها وهو صراع بين ( أخوة ) استغل الشيطان احساس الغيرة فيهم من حب ابيهم لأخيهم ( يوسف ) حتي ارادوا التخلص منه بأن القوا به في(غياهب الجب). ولم يقل الله سبحانه وتعالي من خلال القصة ان علاقة ( الدم والرحم ) هي ( الحصن الحصين ) من نوازع ( الشر ) وانما اكد علي لسان (سيدنا يعقوب) في تحذيره لابنه من أن (يقص ) لاخوته (قصة الحلم ) بأن الكيد والمكيدة و ( نزغ الشيطان ) وارد ولذلك عليه الحذر من اخوته ، وقد كان ( يعقوب ) ببصيرة ( النبي ) و ( الأب ) الذي يعرف أبناءه يستطيع أن يري ما وراء (الظاهر ) الى ( ظلمات الباطن ) ولنري كيف روي الله سبحانه وتعالي بداية القصة بعد ان خاطب رسوله الكريم قبلها في الآية (3) من سورة ( يوسف ) .
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين) لاحظ التأكيد علي أن الله يقص علي رسوله الكريم ( أحسن القصص ) ثم يبدأ ( مشهد قرآني ) بديع في الآية الرابعة من السورة :- ( اذ قال يوسف لابيه يا أبتي أني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم ساجدين ) ثم تحذير يعقوب لابنه في الآية الخامسة من السورة :- ( قال يا بني لا تقصص رؤياك علي اخوتك فيكيدوا لك كيداًُ أن الشيطان للانسان عدو مبين ) .
بدأت القصة بالرؤية أو الحلم وهو الرمز العميق الذي يفسر كل القصة في النهاية وهو أيضاً يقترن بمعجزة ( سيدنا يوسف ) في القدرة علي تفسير الأحلام أو ( تأويل الأحاديث ) كما ورد علي لسان سيدنا يعقوب في الآية السادسة من السورة .
( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلي آل يعقوب كما أتمها علي أبويك من قبل ابراهيم واسحق أن ربك عليم حكيم ) .
ونقول للذين يرفضون ( قصص الدراما ) لأنها تأتي بشخصيات سلبية أن ( القرآن الكريم) في قصصه البديعة التي نقلها لنا من ( واقع ) حياة أنبياء ورسل كانت تزخر بالصراع الضاري بين الأضداد ولابد من شخصية سالبة في مواجهة نقيضها وقد بدأ ذلك منذ قصة الخلق قبل ان (يهبط آدم وحواء ) الي الأرض ، وكان ذلك الصراع في ذري سامقة ( الجنة ) وبدأ ذلك الصراع بين الانسان ( آدم وحواء ) والشيطان ( ابليس ) وهو صراع لن يتوقف ولن ينتهي كما أكد الله سبحانه وتعالي الي أن يرث الله الارض ومن عليها .
في قصة سيدنا يوسف وأخوته آيات للسائلين .
في سورة ( يوسف ) أخوة أشرار ( وامرأة ) شهوانية تطارد (فتي ) صاعق الوسامة ، وتطلب منه أن يمارس معها ( الجنس ) ولأنه نقيض ( الفحشاء والمنكر ) فانه يرفض وعندما تحاصره وتضيق عليه الخناق ، وتغلق الأبواب . ويوشك أن يضعف من فرط ذلك الحصار الرهيب ، وسحر الترغيب فانه يثتغيث بربه ، فيصرف عنه السوء والفحشاء لانه من (عباده الصالحين )، ويعدو ( يوسف) الي الباب هرباً منها مقاوماً رغبتها ومنتصراً علي ضعفه الانساني ( بعون ربه) فتمزق قميصه من الخلف وهي تحاول الامساك به ، وجره اليها ويتصاعد ايقاع الاحداث كما يقصها ( المعمار القرآني ) الفريد لدرجة تحبس أنفاسك حتي لو قرأت السورة مليون مرة ، ويصل المشهد ذروته عند الباب عندما تري زوجها عنده تماماً وبسرعة بديهة لشخصية ماكرة ، شهوانية ، ابدع الله سبحانه وتعالي في رسمها وتشريح ابعادها وأغوارها ، تقول لزوجها بسرعة بديهة ماكرة ومذهلة ( ما يعكس الصورة تماماً وذلك دائماً هو منطق الشر ) وأنظر الي الآية 25 من نفس السورة ، ففي آية واحدة وايجاز بديع ، وتصوير أخاذ و ( حركة متصاعدة ) ، يصور الله مشهداً تكاد الصورة تقفز من وراء كلماته وتكاد ومن فرط دقة التصوير وروعته أن تري الحدث بأُم عينيك ، وتسمع فحيح امرأة تشتهي رسولاً وسيماً تطارده الي الباب ، وتكاد تسمع صوت تمزيق قميص الرسول بمخالب شهوة تلك المرأة ، وتكادالصورة ( تقطع ) من ( لقطة انسيابية ) تتابع المرأة والرجل في المطاردة الى (ZOOM IN ) سريع علي وجه الزوج خلف الباب ويوسف يفتحه باستماتة وسرعة ، محاولاً الهروب ، انني أكاد أسمع موسيقي ( ربانية ) تتابع المشهد عند ذروته (لدي الباب ) ، ولنستعيد التصوير القرآني المذهل لكل هذا المشهد في آية واحده فقط هي الآية (25) وما أروع سحر البيان .
( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدي الباب قالت ما جزاء من اراد باهلك سواءاً الا أن يسجن أو عذاب اليم ) .
ودعك من بقية القصة فهي راسخة في الأذهان اننا نود أن نقول في النهاية أن الصراع هو جوهر (القصة) و( الدراما) هي قصة نفخ فيها من روح الحركة ، وأن الصراع يتمثل دائماً بين قيمتين، سالبة وموجبة ، والعبرة في الخلاصة النهائية بما ينفع من دروس وعبر في القصة كلها.
في صورة يوسف صراع بين شخصية خيرة ( يوسف ) وأخوة أشرار ، وامرأة شهوانية أدوات سطوتها أنوثتها وشهوتها ، وفي صورة ( يوسف ) كل عناصر الدراما من ( صراع ) و (أحداث ) و ( مشاهد ) و( حوار ) بلغ أكثر من ثمانين جملة حوارية من ( قال وقالوا ، وقالت ، وقلن ) وفي القصة بناء درامي من ( عرض وعقدة وحل ) ولكن يضاف الي الحل عنصر (المناقشة ) اذ لم تكتفي السورة في النهاية باجتماع ( يوسف وأسرته ) وإنما علقت علي القصة في ( الدراما ) واستخلصت العبر ( ولا تقولوا بعد الآن أن الذي أدخل عنصر (المناقشة ) مكن الحل هو هنريك أبسن ) وما أجمل و أروع آية الختام بعد عنصر المناقشة في الآية (111) :-