يُقال للمواطن الليبي أن مشاكل مجتمعنا تندرج تحت ثلاث خانات . خانة للفقر وخانة للمرض وخانة للجهل ، ويُقال له أيضاً أنك ما دمت قد عرفت مشاكلك إلى هذا الحد وعرفت مخبأها السري فلم تعد ثمة ما تحتاج إليه سوى أن تضع لها قليلا من سم الفئران .
أنا هنا لا أريد أن أقول للمواطن الليبي أن لعبة الخانات الثلاث قد لا تعني شيئا في الواقع سوى أننا لا نعرف مشاكلنا ، أعني لقد حدث ذلك من قبل في حكاية العميان الذين جمعهم المهراجا في غرفة واحدة لكي يتعرفوا على فيله ، فتعرفوا على كلّ شيء فيه إلا أنه فيل . وإذا كان النقاش العاجي لم يستطع قط أن يضمن إقناع مواطننا بأية حقائق جديدة فإنه أيضا لن يزيد اقتناعه بأخطائه الحالية . إن المغامرة خالية من الخطر تقريباً .
المشكلة تبدأ – كالعادة – من كلمة ( الجهل ) .فالموطن عندنا لا يسيء فهم هذه الكلمة المعقدة فحسب بل إنه في الواقع لم يفهمها قط في أي يوم من الأيام ، لقد دخل الاصطلاح إلى قاموسنا المعاصر بمثابة ترجمة لكلمة ( الأميّة ) في لغات أخرى ورسخ في ذهن مواطننا بهذا المعنى الضيق وحده حتى أنه لم يعد يرى ثمة ما يدعوه إلى مراجعة هذا الخطأ .لكن الجهل ليس هو الأمية.. هذه بديهية غير مفاجئة جداً في الدراسات المعاصرة ، إنه لا يتمثل في الأمية إلا بقدر ما يتمثل مرض السل في قليل من السعال ، وإذا قيل لك أن المرء قد يسعل لألف سبب آخر غير إصابته بالسل ، فسوف ترى أن تشخيصك للمرض يبدو ساذجا إلى حد لا يليق بك..إن المنهج الحديث في دراسة المشكلة يسلك طريقا مختلفا ويوصي بتخطي لعبة الخانات الغامضة لإيجاد زاوية الرؤية الصحيحة من مكان آخر ، والرؤية الصحيحة بسيطة إلى حد لا يصدق !
إن الجهل ليس وحشا مختلفا عن الفقر أو المرض بل انه في الواقع ( الترجمة الوحيدة الممكنة ) لمعنى هاتين الكلمتين معا . كل ما في الأمر أن الجهل ( فقر من الداخل ) .وإذا اتفقنا هنا على أن ( الفقر ) لا ينتهي بمجرد حصولك على كيس من أوراق العملة ، بل ينتهي فقط إذا كانت أوراق العملة مقبولة في السوق وإذا اتفقنا على أن ( الثراء ) لا يقاس بما يملكه المرء بل بقيمة ما يملكه المرء..وإذا كنت لا تحب العناد لوجه الله فسوف ترى بنفسك أن الجهل أيضاً لا ينتهي بمجرد قدرتك على القراءة في كتب المعرفة بل ينتهي فقط إذا عرفت حقاً ، سواء عن طريق القراءة أو عن طريق المعايشة .والمشكلة بالضبط أن كل مخلوق يعتقد حازماً أنه ( يعرف ) . أعني هذه طبيعة النكتة المريعة . فالجهل لا يملك سوى علاج واحد اسمع المعرفة ، ولكن العارفين في أغلب الأحيان هم بالذات السادة الجهلاء .لقد قرر الإمام الغزالي هذه الحقيقة بصورة أفضل عندما قال منذ ألف عام ( ما قارعت عالماً إلا غلبته وما قارعت جاهلاً إلا غلبني ) لكن الظاهرة غير المعقولة قادت في نهاية المطاف إلى إيجاد التفسير الصحيح لمشكلة الجهل بأسرها .
حدث ذلك بعد أن بدأت الدراسات المعاصرة تشير باطراد إلى أن أمراض الجهل – التي تدعى عادة باسم التخلف الحضاري – لا تختلف في الواقع عن أية أمراض ( عقلية ) أخرى بل إنها في الغالب لا تقل عنها ضرراً أيضاً . فالجهل حالة غيبوبة تشبه إلى حد بعيد حالة الخدر الجزئي التي يعايشها المرء عندما يقع تحت طائلة العقار . إنها لا تبدو له غير طبيعية أو خاطئة ولكنها تبدو كذلك لمن يراقبه من النافذة .هذا الفرض الشجاع أدى في نهاية المطاف إلى اعتبار الجهل مرضاً عادياً لا يختلف كثيرا – ولا يقل أيضاً – عن معظم أمراض سوء التغذية ، انه نتيجة عادية لما يناله المواطن في بيئته ، ليس من حيث كمية الطعام فقط بل من حيث قيمته الغذائية بالذات .وهنا بدأت سلسلة مشوقة من المفاجآت ، فقد استغرق العلماء وقتاً قصيراً جداً قبل أن يتضح لهم أن تفسيرهم لمشكلة الجهل باعتبارها مرضاً عادياً لم يكن التفسير الصحيح فحسب بل كان أيضاً التفسير الصحيح الوحيد الذي يستطيع أن يشرح سلوك المصاب وثقته في جهله وإصراره على ادعاء المعرفة وتعلقه بحلوله المريضة إلى آخر رمق من حياته .
إن ( المصاب ) لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر لخمسة أسباب كاملة :السبب الأول أن الجهل – مثل جميع الأمراض العقلية – مرض لا يستطيع المصاب أن يحدس أنه مصاب به إلا بقدر ما يحدس النائم أنه نائم حقاً
.السبب الثاني أن الجهل – مثل جميع الأمراض العقلية أيضاً – منطق ذاتي يأتي من الداخل عن اقتناع كامل ويوفر بذلك حالة من ( السلام النفسي ) التي لا تبدو مزيفة إلا لمن ينظر إليها من الخارج ، لذا فإن عناد الجاهل ليس شيئا في الواقع سوى نوع من الدفاع عن ( سلامة النفس ) إنه لا يرفض حقائقك لأنه يكره الحق لحساب الشيطان بل لأنه لا يستطيع أن يترك عالمه ينهار فوق رأسه لحساب حقائقك ، إن ذلك يبدو بالنسبة له مجرد دعوة للمشي في جنازته
.السبب الثالث أن الجهل – مثل جميع الأمراض العقلية – لا يسبب ألماً للمصاب نفسه بقدر ما يسبب آلاماً كثيرة لمن يحبونه أو يحيطون به . لذا فإن إقناع (المريض ) بالبحث عن علاج ما يبدو دائماً عملاًً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً . إنه لا يحس بحاجته إلى علاج من أي نوع ما دام أصلاً لا يحس بالألم ، لكن المشكلة لم تبق قط بدون حل . لقد تكفلت الكوارث الاجتماعية دائما بفرض العلاج على المريض إذا التزم جانب العناد أطول مما ينبغي .
السبب الرابع أن الجهل – مثل جميع الأمراض العقلية – يحقق رابطة متينة بين الفئات المصابة به بغض النظر عن اختلافاتها الاجتماعية ويرصها جميعاً صفاً واحداً ضد الأعداء وراء الجدار ،في حالة استعداد دائمة للبدء في القتال . فإذا كانت الفئات صغيرة الحجم مثل الحزب النازي في بداية نشأته فإنها غالباً لا تستطيع أن تلحق ضرراً ملموساً بمن يحيط بها وإذا أتيحت لها فرصة النمو مثل الحزب النازي أيضاً بحيث صار في وسعها أن تضم القطاع الأعظم من القوة الكلية فإنها تثبت أقدامها في الأرض وتنمو بلا حساب في تربة غنية من الإقطاع الفكري الأسود ويصبح دمارها أمراً مستحيلاً بدون وقوع الكارثة الاجتماعية . ولكن الدمار لابد منه في نهاية المطاف . لقد أدى هذا الإقطاع الفكري ذات مرة إلى صلب المسيح بأيدي اليهود ، وأدى في مرة أخرى إلى وضع ادولف هتلر في مصاف المنقذين الكبار غير أن نتائجه كانت دائماً خاطئة وكان التاريخ يصحح له هذه الأخطاء بقلم مغموس في الدم .
السبب الخامس أن الجهل – مثل جميع الأمراض العقلية – لا يمكن علاجه من الخارج تحت أية ظروف ، لأن أول مشاكل المريض أنه لا يعترف بوجود شيء مجد في الخارج . فالمرء يذهب إلى طبيب الأسنان عندما يؤلمه ضرسه لأنه يؤمن مقدما بأن ذلك الطبيب يعرف أكثر منه فيما يخص الأسنان وأنه يستطيع أن يحرره من الوجع عن طريق استعمال ( الوصفة الصحيحة ) لكن اللعبة مختلفة كلياً بالنسبة للمواطن الذي لا يؤلمه ضرسه بل يؤلمه عقله الخرافي وحده ، إنه في الدرجة الأولى لا يحس بالوجع وفي الدرجة الثانية لا يرى ثمة حاجة إلى أن يزور معلم الجغرافيا لكي يثبت له أن الأرض كروية مادام يعرف أنها ليست كروية على أي حال بل مسطحة ومحمولة على قرن ثور ، إن المشكلة هنا تخص نوع المعرفة غير العملية التي لا يستطيع المصاب أن يعترف لنفسه بأنه يحتاج إليها ، فالمرء لا يسقط على رأسه في الفضاء إذا أصر على الاعتقاد بأن الأرض طبق يحمله الثور إلى الكوشة . ومادام المرء لا يسقط على رأسه ، بل يمشي مثلك على قدميه الجاهلتين فمن الصعب أن يخطر له ذات مرة أن ( يصحح ) معلوماته لمجرد الرغبة في( المعرفة المجردة ) لذاتها إنه مرتبط عقليا بالنتائج العملية للمعرفة ، وليس مما يجديك نفعا أن تحاول إقناعه بأن قبول كروية الأرض سوف يساعده على إحراز نتائج عملية أكثر مما ينتظر .
فالمشكلة بالنسبة له تقف دائماً عند هذا السؤال البسيط : ما دمنا مستريحين على الأرض ، ومادامت نظرية الطبق والثور لا تجعلنا نسقط على رؤوسنا في الفضاء فما الذي يدعوك إلى تشويش أفكارنا بالأوهام النظرية ؟إذ ذاك عليك أن تلتزم الصمت أو تخنقه بأصابعك أو تذهب إلى القمر وترسل له صورة أمه الأرض خالية من صورة والده الثور . إن العلم لا يعرف علاجا آخر حتى الآن .هذه التحديدات الخمسة لم تؤد بالطبع إلى القضاء على الجهل في أي مكان ولكنها أدت إلى فهمه فهماً مرضياً وتشخيصه باعتباره مرضاً عادياً يأتي من البيئة المحيطة بالفرد كما تأتي بقية الأمراض ، ويمكن مقارنته في يسر بأمراض سوء التغذية التي تنجم عن نقص في قيمة الغذاء وكميته معاً ، لكن الفرق الحاسم بين المواطن المصاب ( بنقص المعرفة ) والمواطن المصاب ( بنقص التغذية ) أن أحدهما يسعل طوال الليل ويعاني من فقر الدم والسل ، والآخر يركض مثل الحصان ويحمل عصاه معه لكي يكسر رأسك إذا قررت أن تلعب معه دور الطبيب ، إنه المصارع السخيف الذي خدعنا منذ ألف عام بدعايته المغرضة عندما أقنعنا بأن العقل السليم في الجسم السليم . فالواقع أنه لو صدقنا هذه الخرافة لطالبنا غدا بأن يوضع مصير العالم في أيدي الحمالين.. لكننا لا نصدقها لحسن الحظ لأننا نعرف أن الجسم السليم مجرد نتيجة مرضية واحدة من ألف نتيجة أخرى للعقل السليم ولأن ( المصارعة ) في العالم ليست مجرد مباراة مسلية بين رجل سمين ورجل سمين آخر بل سباقاً مرهقاً بين العقول الواعية القادرة على احتمال الصراع .
وأسوأ ما في الأمر أنه سباق خال من الروح الرياضية وأن المنتصر لا يكتفي بإلقاء خصمه على الأرض بل يفضل دائماً أن يسلخ فروة رأسه ويسرق امرأته ويمحو أثره بالممحاة . إنه صراع البقاء الذي يعتقد معظم الناس أنهم يعرفون عنه كلّ شيء ، وهم يجهلون في الغالب أبسط أسلحته . ذلك الخطأ المميت الذي يرتكبه الجاهل مرتين إذا لم يفقد رأسه في المرة الأولى