الحياة تأثر وتأثير، فإما أن تكون التأثر وحده، أو التأثر والتأثير معا، والناس يتشكلون في الأصل وفق هذه القاعدة إلى متأثيرين بذواتهم وإلى متأثرين بذوات غيرهم. أما هؤلاء المتأثرين بذوات غيرهم فإنهم مجرد ناقلين حافظين يستمرون في النمو عموديا حتى حدود الدوغمائية والجمود.
لذى كن متأثرا بذاتك أنت.. فالإنسان مفطور على التساؤل، ولكن الجبان حامل الأسفار، هو الذي يختار أجوبة غيره، أما ذلك المؤمن حسيا بعزة ذاته، فإنه يصمت قبل الحكم حتى يوفر كافة المصادر ثم يقرر رأيه الجديد، عبر قدرته العقلية الفطرية في توليد الأراء.
أصمت..
وراجع..
هذا هو الإستقلال العقلي..!
والمرجعية الذاتية جملة مركبة تتكون من مفردتين الأولى تعني الوسيلة الأولية التي يمكن الإعتماد عليها لتمييز المعرفة.. أما الثانية فإنها الذات الكلية، وليست العقل وحده ولاالتفكير وحده، بل إنها كلية الذات عبر قدرات الوعي وقدرات اللاوعي وعلاقتهما بالبدن كذلك (وآتاه بسطة في العلم والجسم) إنها الذات بمجملها حتى بإمكانياتها الغيبية أو الماورائية، والأهم بإمكانياتها الشعورية المفطورة التي تفسر مصطلح القلب السليم.
وإستخدام المرجعية عاطفيا، يبدأ بعزل المشاعر أو العاطفة أو الهوى عن التأثيرات الخارجية، عبر الإستناد على المبدأ الأصلي في التفكير، وهذا المبدأ يجب أن يكون ساميا قابلا على التأثير، وبهذا العزل الذي يتطلب الصمت والإصغاء وتلقي المعطيات، وإستحضار قمة الإيجابية الحسية، يمكنك إستخدام قوة الذكاء العاطفي، والوصول بها إلى العبقرية الوجدانية المستندة على ذلك المبدأ الأسمى. بالمرجعية أنت لاتقرأ لاتنصت إلا لتقرر وحدك، أنت لاتحكم إلا إذا عددت المصادر، أنت لا تتحدث إلا إذا وصلت إلى القرار.
يجب أن يكون حكمك مرتبط من بعيد أو قريب بهذا الحق، حكمك العقلي هو حكمك الخالص، ليس حكم الغزالي مثلا، ليس حكم إبن تيمية، ليس حكم أحمد بن حنبل، إذا أدركت ذلك تصور كيف سيكون حكمك على من هم أوطأ إبداعا..؟! يجب أن يكون عقلك المرجع الأول، ليس بالعقلانية الفلسفية عبر تصفيف الظنون، إنما بالمزواجة بين النقل والتفكير، أي نقل المعلومات وتحليلها ومقارنتها وتركيبها وإصدار الحكم. أنت تقرر دائما، (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره). لذى فأنت مسؤول عن ذاتك، يجب أن تدرك هذا المفهوم جيدا، فالثقافة المحلية تلغي ذلك كليا. الأولوية دائما إلى مرجعيتك الذاتية، قبل القرآن الكريم، وقبل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبل أحاديث الناس ومواقفهم، أنت المرجع الأول في تمييز المعرفة. يقول القرآن العظيم : ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)) لم يقل وأنتم تعلمون! يجب أن تعلم بنفسك أنت، لاباطنية في الإيمان ولافي العلم، كل من هو قادر على فعله أنت قادر أن تفعله بنفس الطريقة، هذه قاعدة تربوية عظيمة. أما الإمكانيات فدائما مكتسبة، لأن الإرادة أعظم قدرة وهبها الخالق للإنسان.. فهذه إحدى صفات عدله، ولايكلف الله نفسا إلا وسعها. قوة المنطق السهل متوفرة لكافة البشر، إنها في التجرد العقلي، أي الحكم بعدل، وبإستقلال عن الهوى والتأثيرات الخارجية، لذى فمرجعيتك الذاتية هي هبة الوصول إلى الحق. المرجعية الذاتية هي الإعتماد على النفس أولا، والله لم يخلق الإنسان ليكون مسيرا فقط، وإلا لأستبدله بخلق جديد، والإعتماد على النفس ليس لفظا منهيا عنه كما يعتقد البعض، بل إن في جوهره الإيمان بالله، والسبب في ذلك هو عامل الإرادة. ماكان الله ليحب عبدا مسيرا..!!
يقول العقاد: (أحسن الظن بالناس وكأنهم كلهم خير، واعتمد على نفسك وكأن لاخير في الناس). العقاد ذاته يمثل نموذج إيجابي للمرجعية الذاتية فكان راسخ المبدأ يتجه عموديا في علمه، فلم تؤثر سلبيات الأفكار الإلحادية والغربية على تفكيره، بعكس ما حدث لطه حسين بإعتراف الأخير بنفسه، حينما ذاب في المعتقدات الغربية حتى النخاع فأرجف بقوله (يجب أن نأخذ من الحضارة الغربية كل شيء فيها، بخيرها وشرها).
يجب أن تكون ثابتا على مبدأ واحد. الثقة بالنفس أو تقدير الذات، أهم عامل يحقق المرجعية الذاتية، الفرق بين الثقة والتقدير أن الأولى لغة تأتي من الوثاق، أي ربط ذاتك بأمر ما، أما التقدير فإنها تأتي من قدْر(بتسكين الدال)، وكلا اللفظين يرتبطان بمعنى واحد، هو تقدير شمول الذات، وربطها بقوة مطلقة ثابتة، وذلك من الناحيتين العقلية والجسدية في تلازب واحد. والثقة أو التقدير عاطفة وليست فكرة عقلية، مؤدية إلى ربط الذات بالله عز وجل ففي حالة إستقلال الثقة عن الله، فإنها معرضة بإستمرار للتمزق الذي سبقى بين عيني صاحبه، مثلما حدث لنيتشة حينما جن، بعد أن حاول أن يلغي مفهوم حاجة الـ SuperMan لذلك الإله المسكين..! بل إنها في حالة فهمها لواقع الحياة المتجرد عن التصرف، فإنها معرضة للإنفلات والتيه مالم ترتبط بالله عز وجل، إرتباطا تصوريا كليا لايتجزأ.
كرم الله الإنسان بأن (خلقه فسواه فعدله) لتكون ثقتنا بالله وبأنفسنا بلا حدود نهائية. إنها القوة المطلقة في وجهها الرباني التي يفتقدها جميع البشر، إلا المسلمين وحدهم بكافة تصوراتها الكلية. إن مجتمعنا الكبير يرزح تحت وطأة هذه المؤثرات الخارجية التي تتصف بأبعد حدود الرذالة والجاهلية والتدجين، حتى إفتقد معظم العباد صفة الإرادة، والشعور بالحرية، فالإعلام أحد أهم التأثيرات الخارجية، بل إنه أصبح بديلا للتأثيرات الأخرى في حالة فقدان تلك التأثيرات للإيجابية المرجوة. فأصبح الإنسان يبحث عن تأثيرات يختارها بنفسه (إراديا ولا إراديا)، حتى يشعر بسبيل للحرية، فلا حرية في العالم سوى في الشعور بها، إنها مجرد حالة نسبية، كما يفسر آينشتاين نظريته في السلوك، فحرية الديمقراطية أيضا نسبية، وحرية الإشتراكية نسبية، وكل الحريات الإنسانية بمقتضيات العقل المعيشي تفشل بعد ذاك في معضلة التنفيذ، لاحرية إلا في شريعة رب العباد، فلاحاكم إلا الله، الذي يعتمد عليه كل فرد في كيان مستقل ثم منسجم مع الجماعة، وفي إدراك الحرية المطلقة الممتدة في الأبد وليس في دايلكتيك الزمن.
لذى فحتى قدرة الإختيار للمؤثرات مسلوبة عند الشخص نتيجة تأثره الواعي واللاواعي بفحوى تأثير الإعلام الذي لم يتشكل في الغالب لحاجاته الفردية والجماعية.. فقد أصبح الإعلام كما قال عبدالوهاب المسيري : (يخاطب أخس مافي الإنسان)، بل إنه تحول تخيليا بموصلات عصبية مرتبطة بآلة اللاوعي، تجبره على التنفيذ.
إننا نعيش أشد العصور إظلاما بهذا الإعلام، لذى فالتأثر بالمرجعية الذاتية وتكثيف تأثيرها أصبح عملية لازمة للإدراك، فأولئك الذين تجرأوا في محاولة الفهم العادل والتعلم الصادق، يجب أن يكونوا أهلا لهذا الجهاد المعرفي، بأن يجتهدوا كثيرا في الحكم الخاص، المعتمد على البحث والدراسة والإستمرار النشط والأبدي في التعلم، فرغما عنك وعني سنتأثر بالآخرين، لسنا أقوى من ذلك بالمطلق، إنما مايجب أن نفعله هو أن نحافظ على قدرتنا الفطرية التي سببت لنا الحروب والجور والظلم حتى تنتزع منا، إنها الإرادة دائما، وحروبنا من أجلها أشرف من حروب نخوضها لأجل إحتمالات حقماء يقررها أصحابها.
إن المرجعية الذاتية تجعلنا قادرين على كشف الحقائق من حولنا دون خوف من الإنعزال عن العالم، ودون شعور بالصراع الخاسر مع المحيط أيضا، فليس الصراع بالإرهاب ولا بالعسكر، بل بالإرادة الكاملة، هذه الإرادة هي التي توجد العسكرة، والعسكرة توجد لتلغيها. أحمد بن حنبل هو النموذج الأكثر تجسيدا في التاريخ لهذه المرجعية، فقد كان في عصر المأمون أول خليفة مسلم ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، يعتبر حالة أشبه بالجنون عبر الوعي الجمعي، عندما تكون أنت وحدك دونا عن الخليفة وعلمائه وعامته تقرر رأيا تخالف فيه الجميع، بخواص القوم وعوامهم. أنت وحدك في سجن مظلم من أربعة جدران مصمتة تشعر بالحرية وكأنك تملك سر العالم، لقد أنتصر أبن حنبل على جماعته.. هنا تدرك لماذا إنطوى فيك العالم الأكبر.
ديكارت حول المنهج الغزالي في الشك إلى نموذج تجريبي، ولكنه إختار قناع الشك ليتجه إلى حقيقة الكنيسة في هدوء، وتناغم في الخطوات معها، ديكارت بدأ بالمرجعية الذاتية (أنا أفكر أنا موجود) ولكنه إستسلم في آخر المطاف إلى المسلمات المتعارف عليها في واقعه، وكانت إجاباته تفتقد التجرد. كن مرجع ذاتك دائما..!! ولاتخشى، فقد يصيبك بعض الخوف أو الجزع أو هي رعشة من الحيرة والجهل الكامن، تشبه عطسة آدم في أول الخلق، عندما تستكشف الحقائق بنفسك، لأنه هواء نقي يتسلل إلى أورادك للمرة الأولى، بعد أن تتجرد من جديد وبصورة مستمرة ودائمة، في فهم الواقع المأساوي الذي نعيشه.
إن المرجعية الذاتية تمثل أعلى درجات الإيجابية، فهي القدرة على بناء أفراد قادرين على تغيير العالم من حولهم والتحكم بالسلبيات التي يعيشونها، لتحويلها في صالحهم، هذه طبيعة الكون، نحن لانخالفها، إنما نستمد منها حريتنا. وهناك خيط دقيق بين "العقلية الإصطفائية" التي تنفي تجسيد معنى (وخلقناكم أمما وشعوبا وقبائل لتعارفوا) وبين"العقلية المركزية" التي تجسد المعنى دون خوف ولا وجل من الفكر الإنساني بكل تأثيراته (يا أيها الناس) إنها حرية المبدأ، وليست مبدأ الحرية..!! ومن عبرة الليل والنهار ليكن قلبك السليم مرجعك الخالص الغير قابل على التأثير الخارجي، الراسخ في المبدأ، عمودي الإتجاه، وعقلك متأهب في يقظة دائمة لكافة التأثيرات الأفقية. فالإدراك بالحواس الخمس وحدها صفة حيوانية، لكنه إمتحان الكبرياء يحول طاقة العبادة إلى العقل وليس إلى التفكير المؤدي فكرا وسلوكا لعبادة خالق السبب.
نقل المقال بتصرف من:
http://www.bafree.net/forum/archive/-37288.htm