كتب العقاد عن الحب



ما ليس بالحب أسهل في التعريف مما هو الحب ، وهكذا الشأن في كل تعريف لمعنى من المعاني أو كائن من الكائنات . فنحن نستطيع في لمحة عين أن نعرف أن زيداً ليس بعمرو ، ولكننا لا نستطيع في هذه الصورة أن نذكر تعريف عمرو وزيد ونحيط بأوصاف هذا أو ذاك ، ولو كنا من أعرف العارفين بالاثنين ..

وعلى هذا القياس نعرف الحب من طريق النفي قبل تعريفه من طريق الإيجاب ..

فليس الحب بالغريزة الجنسية ، لأن الغريزة الجنسية تعم الذكور والإناث ، ولا يكون الحب بغير تخصيص وتمييز .

وليس الحب بالشهوة ، لأن الإنسان قد يشتهي ولا يحب ، وقد يحب وتقضي الشهوة على حبه .

وليس الحب بالصداقة ، لأن الصداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد ، والحب أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين .

وليس بالانتقاء والاختيار ، لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه أحب ، وقبل أن يلتفت إلى الانتقاء والاختيار .

وليس الحب بالرحمة ، لأن المحب قد يعذب حبيبه عامداً أو غير عامداً ، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق ..

والحب كذلك يعرف جزءاً جزءاً قبل أن يعرف كاملاً شاملاً مستجمعاً لكل ما ينطوي عليه .

ففي الحب شيء من العادة ، لأن المحب يهون عليه ترك حبيبه إذا كان تركه لا يغير عاداته ومألوفاته ، وأقوى ما يكون الحب إذا طال امتزاجه بالعادات والمألوفات .

وفي الحب شيء من الخداع ، لأن المرأة الواحدة قد تكون أفضل المخلوقات في عين هذا الرجل ، وتكون شيئاً مهملاً لا يستحق الالتفات في عين ذاك .

وفي الحب شيء من العداوة ، لأن المحب مكره على البقاء في أسر الحب ، عاجز عن الإفلات من قيوده ، ويقترن الشعور بالإكراه والعجز دائماً بشعور النقمة والعداء .

وفي الحب شيء من الأنانية ولو أقدم صاحبه على التضحية ، لأنه لا يترك محبوبه لغيره ولو كان في ذلك إسعاده ورضاه ، ولكنه قد يضحي بنفسه إذا اعتقد أن محبوبه لا يصير إلى سواه .

وفي الحب شيء من الغرور ، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنساناً آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصه وحده بتفضيله وإيثاره .

وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد ، وهو الاهتمام .. فصدق إن قيل لك أن حبيباً يبغض حبيبه ويؤذيه ، وصدق إن قيل لك أن حبيباً يتقبل من حبيبه البغض والإيذاء ، وصدق إن قيل لك أن الحب والإزدراء يجتمعان ، وصدق إن قيل لك أن الحب يخون أو يقبل الخيانة من المحبوب ، فأما إن قيل لك أن حباً يبقى في النفس بغير اهتمام ، فذلك هو المحال الذي لا يقبل التصديق .

وفي الحب شيء من القضاء والقدر ، كما يعبرون عنه في لغة الحواديت والتحقيقات لأنه من أطوار الحياة التي لا يملكها الإنسان ، ولا يحسب أنه سيطر عليها حتى يرى أنها هي مسيطرة عليه ..



قد تعمى الأبصار عن الحب كما تعمى عن الأقدار، وربما خطر للفريسة المخدوعة أنها تهرب وتمعن في الهرب وهي تقترب في كل خطوة من الشرك المنصوب في الخفاء، وربما أنكر المحب أنه محب كما ينكر السكران أنه سكران، بل لعله يشتد في الإنكار كلما اشتد به الدوار ولا يدري أنه قد سكر حقاً إلا حين يأخذ في الإفاقة ويقوى بعض القوة على فتح عينيه وتحريك قدميه.

وأوجز ما يقال أن الحب قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان، يحسب العاشق وهو يتهالك على معشوقته .. يحسب أنه هو الذي يريد ما يصيبه ولا يزال على حسبانه حتى يحاول ألا يريد فلا يستطيع..



وخلاصة القول أن الحب عواطف كثيرة وليس بعاطفة واحدة، ومن هنا كان أقوى وأعنف من العواطف التي تواجه النفس على انفراد.. ففيه من حنان الأبوة ومن مودة الصديق ويقظة الساهر وضلال الحالم، ومن الصدق والوهم ومن الأثرة والإيثار، والمشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، واللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد والزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدد والنوع الإنساني الخالد على مدى الإجيال.

والذي يعجب لذلك يعجب في الحقيقة من أقرب الأشياء إلى المألوف وأبعدها من العجب والغرابة، وكيف يكون الحب شعوراً يستولي على نفسين كاملتين ثم يخلو من كل ما يخامر النفوس في مختلف الأوقات والأحوال!

وكيف يكون الحب مشتملاً على جسدين ثم لا يضطرب فيه النزاع بين الجسدين والنفسين كما يضطرب الجسد الواحد في منازعة النفس الواحدة، ثم يزيد على هذا الاضطراب!

وكيف يكون الحب ترجماناً لإرادة النوع ثم لا ينطق بكل عاطفة يتسع لها كيان الإنسان..

يسألونك عن الحب قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح .. ويسألونك عن الروح فماذا تقول؟ قل هي من أمر ربي .. خالق الأرواح!



لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب تكثر العجائب في العلاقات بين المحبين فيجمع الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان.. ويتكرر الحب في حياة الإنسان الواحد حتى ليكون المحبوب اليوم على نقيض المحبوب بالأمس في معظم المزايا ومعظم الصفات.

ويتقارب البعيدان ويتباعد القريبان، ويتجدد القلبان بين آونة وأخرى كأنها من طبيعة الجان، والواقع أن العاطفة حرارة ونار، ولا فرق بين طبيعة الجان وطبيعة النيران..



وخلاصة التجارب كلها في الحب إنك لا تحب حين تختار ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت، لأن الحياة وتجديد الحياة وفقد الحياة هي أطوار العمر التي تملك الإنسان ولا يملكها الإنسان..

وقد تسألني في خاتمة المطاف: هل الحب إذن أمنية نشتهيها؟ أو هي مصيبة نتقيها!

ولي أن أقول: إنه مصيبة حين تحمل به نفساً ثانية مع نفسك وأنت تريدها ولا تريدك، وأنه أمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان..

وليس بالمصيبة، ولا يكفي فيه أن يوصف بالأمنية، حين لا عبء ولا تخفيف، بل تنطلق النفسان محمولتين معاً على كاهل "النوع" كله أو على أجنحة الخلود التي تسبح في أنوار عليين .. وما من محبين إلا اتفقت لهما هذه الرحلة السماوية في سهوة من سهوات الأيام



معظم المقال

View wnature's Full Portfolio