انتر نيت

Folder: 
يُحكى أنّ



  يحكى أن               يحكى أن                يحكى أن




http://www.grsites.com/textures/ss_b/ss_b018.jpg " width="68%">



http://www.grsites.com/textures/ss/ss118.jpg " width="90%">



انتر نيت



    



لولا "زعله" لقلتُ له : " أنت مدمنٌ , ومن النوعِ الخطير , رغم أنك لا تتعاطى المخدراتِ , ولا تميل حتى للتدخين ؟؟ "

لكنني أخمن سلفاً كيف ستتسعُ حدقتاه استغراباً , وكيف سيظنني متحاملةً عليه , لأني فقط لا أحب هذا الجهاز الحديث.

وسيسرد دفاعه المستميتَ ليقنعني أني مخطئةٌ , وأن الكمبيوتر غدا حاجةً أساسيةً كالطعام والشراب .

سيحاول أن يبدو هادئاً ما استطاع , ثم سيثورُ في وجهي , وربما نعتني بالجاهلة وقاطعني لأيام .

يا جماعة .. افهموني , والله أنا لست ضدَّ الحضارة , ولا ضدَّ كل ما تفرزه من أجهزةٍ حديثةٍ تسهّل العملَ والتواصلَ, تختزلُ الزمنَ والحركةَ , لكنكم لستم معي لتروا أيَّ حالٍ بات حالنا , وكيف تسيرُ حياتُنا الأسريةُ نحو نهايةٍ بليدة .

حلّفتكم بالله أن تنصفوا , وتقولوا كلمةَ حق فيما أقصّه عليكم .



زوجي يا ناسُ كاتبٌ . ابتدأ مغموراً كأيِّ شابٍ هاوٍ ,يكتبُ القصصَ القصيرةَ  وينشرها هنا وهناك في الصحفِ والمجلات .  ثم كبرتْ الحكايةُ معه بعد أن طبع روايته الأولى , وأخذ ينالُ حظَّه من الشهرةِ , حين راح النقادُ يتناولون عمله بالتحليلِ والنقدِ .

  وهنا أرى ضرورة أن أؤكد إعجابي بأسلوبه في السردِ ,وأفكارهِ المبتكرةِ , وأن اعترفَ  به مبدعاً  أمام كل هذا الركام من الكلماتِ الغثّة , كي لا يظنُّ ظانٌّ أني لا أفهم ما معنى الأدب أو أني غريبة عن عالم الكتابة , أو أنني - لا سمح الله - أغار منه لأن الظروف خدمته أكثر مما فعلت معي .

ابتدأت غربتي عنه منذ سنوات , حين اقترح عليه صديقٌ شراءَ جهازِ كمبيوتر , وبدأ يعدّد له محاسنَ التواصلِ عبر الانترنيت . فما كان منه إلا أن أخذ سلفةً على مرتبه , يتطلب تسديدها عامين . ثم اشترى الجهاز ووصل خط الانترنيت وبدأت القصة .

أحاول أن استحضرَ تفاصيلَ السنوات الأخيرة , وأن أتذكر متى بدأ تعلقه بذاك العالم الذي سرقه منا فيصعبُ عليّ , لكن من المؤكد أن الأمرَ حصلَ بتسارعٍ عجيبٍ وجدت نفسي معه أبتعد أو أُبعدُ  شيئاً فشيئاً, بعد أن كان يشركني حتى في كتابةِ ردوده على رسائلِ الإطراء والثناء .

لا..  ليست غيرةً ما اشتعل في صدري تجاه هذا الجهاز المقيت , ولا مللاً ما راح يتسرب إلى أيامي , بل هو مرارة كانت تقف في حلقي وما أكثر ما تحولت لدموعٍ صامتة , أسفاً على ما ضاع من نعيم الانسجامِ بيني وبينه .

أحدّثه فلا يرد ! وفي أحسن الحالات يجيبُ بإيماءٍ من رأسه , سلبأ أو إيجاباً. وما أكثر ما يعدني بأنها مجردُ عشر دقائق ويتفرغ لي , ثم تمتدُّ الدقائقُ لساعاتٍ .

أهمس راجيةً :

أريد حليباً للصغير !

الولد حرارته مرتفعة !

نحتاج منظفاتٍ للبيت !

ماذا تحب أن تأكل اليوم على الغداء ؟

أمك تسألُ عنك , اشتاقتْ لك , تتصل بك وخطّك مشغولٌ على طول !

منذ زمنٍ لم تجمعنا جلسةُ صفاء !؟

يعلو صوتي :

ارحمْ نفسَك , فقراتُك تئنّ تحت وطأة الانقراص , ونظرك يضعف .

أصرخ :

يا رجل .. نكادُ نختنق ,نحتاج أن نخرجَ معك  لزيارةٍ .. لنزهةٍ .. أو حتى مشوارٍ نشعر فيه أنك معنا .

وفواتيرُ الهاتف خربتْ بيتنا , والحال على ما تعرفُ ؟؟

لاجوابُ غير الصمتِ القاتل , وأعصاب مشدودة إلى تلك الشاشة الصغيرة , تذكرني بتحفز ابني حين يلعبُ الأتاري , ونؤنّبه بأنها لعبةٌ تتلفُ الأعصاب .

سأذيع سراً من أسراره وليسامحني ربي , فأنا ما فعلت ذلك طوال ربعِ قرنٍ ,لكنني وقد طفح الكيل أراني محتاجة  لبئرٍ أودعه كل شجوني :

جميع الناس تشربُ قهوتها صباحاً  على أنغامٍ هادئة , قبل أن تباشر عملها .  أما هو فقهوته انترنيت !!

ويا ويلنا من توترِه إن انقطعتْ الكهرباء أو تعطّل خطُّ الهاتف , حينها يبدو كمدمنٍ حقيقيٍّ انتهت فعاليةُ جرعتِه المهدئة  .

يهرولُ إلى مقاهي الانترنيت ليرسل ويستقبل ما يظن أن تأجيله عرقلةٌ لأعماله .

بالطبع ما من زوجة إلا وتعرف زوجها , وبحكم العشرة تستطيع أن تميزَ تباينَ مشاعره وتواترها

لذلك أجدني أتفرّس في ملامح وجهه من حينٍ لآخر وأسألُ : هل فرح حقيقي هذا الذي يعيشه ؟ إن كان حقاً لما لا أرى بريقاً في عينيه ؟! ولماذا في حركته تثاقل ؟! يجرّ قدميه قسرأ , كأن همَّ الدنيا كله فوق رأسه .

لا ليس العمر ما جعله كذلك فوالدي جاوز السبعين , وما زال ينتشي طرباً إن سمع لحناً جميلاً أو تنشّق عبق زهرة .

يصبح خفيفاً مع قدوم الربيع , ويشعر بطاقة تجعله قادرأ حتى على تسلق الجبال .

أما زوجي العزيزفقد قطع علاقتَه مع الخارج , مكتفيا بما يمنحه له هذا الجهاز من حاجةٍ أو ما يظن أنه إشباع , مع أنه لم يتجاوز الخمسين من عمره .

حقاً قد أكون رومانسية كما يصفني , كلما ذكرته بأيام كنا نقرأ فيها الكتاب باستغراق لذيذ , ونترقب ساعي البريد يأتينا بالرسائل ممن نحب , لنفضّها بلهفةٍ ونشتمّ في تناسقِ الحروف الروح والأنفاس المميزة , لكني أتساءل هل صارت الرومانسية ً عيباً أو وصمة عار نُنعت بها إن حاولنا استحضار رونق الأمس ولمسته الحميمة ؟ أنا لست أقل مرونة منه كما يدّعي في تعاملي مع الجديد , إنما هو عجزه عن فهمي الممازجة بين مستحدث وقديم .

ناشدتكم بالله ..  أليس من حقي أن أدافع عن عشنا الذي كان جميلاً إلى عهد قريب .. وأن أتداركه قبل أن يغدو قشاً تذروه الرياح ؟ ؟

أليس من حقي أن يسمعني لا أن يوهمني بالاستماع حين أبوح له بشفافية لا يتقبلها :

" إن كل من يقرأوك لن يعرفوك مثلي .. فهم يعتمدون على كلماتك فقط , والكلمات قد تكون رغباتنا أو ما نودّ أن يكون , لكنها ليست نحن تماماً , فكم يكبر الشرخ حيناً بيننا ككائنات من لحم ودم , وبين ما نكتب أو نقول .

فأنت واضح لي بكل مثالبك ومزاياك , لكنك بالنسبة للقارئ حلم يراوده ولا يطاله , وخيال يجنح به تحفّزه الكلمات " .



أرجوكم اخبروه فربما أصغى إليكم ,أكثر من إصغائه " لنقّ زوجة "

قولوا له إن كنتم مثلي تعتقدون :

أننا نملك الحضارة ولا تملكنا .

وأننا نسوسها ولا تسوسنا .

وأن الفرح الحقيقي بلحظة إشراق في أحضان الطبيعة أو بمداعبة طفل , يفوق كل ما يسعى لنيله بتواصل انترنيتي حثيث .

وأن علاقات الانترنيت ليست تعويضاً عن العلاقات المباشرة .

وإن إبداعنا الأكبر في أن نحيا كما يجب مع من يشاركوننا الحياة , لا أن نسطر الكتب فقط .

اخبروه إني ما زلت أحبه , وإن غامت عيناه عني .

وأني أنتظر يوماً يستعيد فيه توازنه مع كل ما حوله .

وبأمل ذلك لم أتخذ حتى الآن قرار الرحيل , تاركة إياه مع عالم الكلمات يعوضه عني وعن حناني .



***







*ثناء درويش*












View thanaa's Full Portfolio
د. نور الدين المحقق's picture

العزيزة ثناء
تحية المحبة
أتمنى الا يكون هذا النص القصصي السيرذاتي تلميحا للابتعاد .نريد ان نستمتع بالشعر الروحي العميق الذي يأتي منك صافيا زلالا ،كما هو شعر ابن الفارض و ابن عربي…….
نريد أن نرى نور الشعر الحقيقي ينبثق منك ..
لقد غابت آمال نوار منذ مدة وها أنت تغيبين…
ماذا يبقى في الكون اذا غاب عنه الشعراء؟ لاشيء!
عودة قريبة لك ولاختك في الشعر البهي آمال……
مع المحبة
نورالدين…..

د. نور الدين محقق's picture

العزيزة ثناء
لكأنك استعرت لسان زوجتي
بالله عليك رفقا بنا.غالبا ما أغلق غرفتي علي وأنغمس في بحر الانترنيت .لحظتها أسمع دقات على الباب ،وصوت زوجتي يأتي ضاحكا:
سلم لي على آمال و ثناء و فاطمة والبقية الأخرى.أفتح ضاحكا ،قائلا لها هن يقرئنك السلام ،تعالي لتقرئي آخر أشعارهن ،فتبتسم وتتركني غارقا في بحري.الطعام قد حضر.آه نسيت لقد أكلت مع الشاعرات .ان طبخهن لذيذ.علما يا سيدتي ان زوجتي امرأة مثقفة وتمارس التدريس. كان الله في عون الزوجات، وأطلب السماحة منهن نيابة عن كل الازواج……
دمت رائعة ايها الساردة شعرا ونثرا
نورالدين

أحمد الكبيري's picture

ثناء أيها الطاهرة كما يحلو لي أن أسميك.

في أول عهدي بالأنتيرنيت، ما زلت أذكر أني قرأت في مجلة نسائية لها موقع خاص بالمرأة. يهتم بشؤون حياتها ومشاكلها..قصة حقيقية كانت سيدة قد كتبتها عن علاقة زوجها المهندس في الإعلاميات، بالأنتيرنيت..بعدما اكتشفت بأن زوجها لم يكن يقضي الساعات الطوال أمام شاشة الكومبيتر لأجل إنجاز عمل ما وإنما لأنه كان في علاقة عشق مع سيدة في الولايات المتحدة الأمريكية..ويمكن أن تكون مثل هذه العلاقة دونما حاجة إلى أنتيرنيت..تذكرت هذا، بعدما قرأت نصك الجميل ، والذي تشتم منه دعوة صريحة للإلتفات لما هو أهم وأفضل في حياتنا، ألا وهو عالمنا الأسري الصغير..والتحكم في التعامل مع هذه الوسيلة لا الإستسلام لها والإدمان عليها..
أنا متفق معك ومع القاعدة التي تقول، كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده..لكني في نفس الوقت أتساءل هل هو بإمكاننا الآن سواء كنا كتابا أو من عامة الناس أن نعيش هذا العصر بكل جماليته وقبحه، دون الانخراط فيه…ثم هل الإدمان على الأنتيرنيت، الذي بدأت الصين في تشييد مراكز للعلاج من إدمانه، يختلف عن باقي الأشياء الأخرى التي من الممكن جدا أن نصبح بين عشية وضحاها مدمنين عليها..ألم يكن نجيب محفوظ مدمن كتابة، ألم يكن المتصوفة مدمني زهد وعبادة، ألم يكن الرومانسيون مدمني حلم وخيال؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا الصدد..وفي اعتقادي، وهنا لست متواضعا، الفرد حيثما كان، وكيفما كان، هو مدمن بشكل من الأشكال على شيء معين..لكن مع ذلك لم تتوقف الحياة..وأنا لو خيرت بين أن أعيش سعيدا في بيتي الصغير رومانسيا حالما مع زوجتي وأبنائي وبين هذا التواصل الجميل مع العالم بواسطة الأنتيرنيت لما ترددت لحظة واحدة في اختيار العالم الأكبروالأوسع أما زوجتي وأبنائي فلهم حياتهم ومستقبلهم وإدمانهم..وأنا مع الفكرة التي تغنيها الرائعة فيروز” أبناؤكم ليسوا لكم ، أبناؤكم أولاد الحياة”.وإن كنا حريصين على أسرنا مهوسين بالحفاظ على مستقبلها، فقط لأن دولنا ليس في المستوى لتحمل مسؤليتها الكبرى والأولى في ضمان الحاجيات الأساسية لأبنائها، من تعليم وتطبيب وشغل.. فتصير تبعيتنا للتخلف متوارثة..

دمت متألقة وطاهرة.

نزار جاف's picture

لو طالعت زوجتي مقالتک هذه، لقامت حربا ضروسا بيننا، خصوصا وأ‌نها تقول بکل صراحة”الکومبیوتر مصيبة نزلت على العائلات المتماسکة” وهي تطالبني دوما بوضع “جدول زمني” لمعاقرة الکومبيوتر و الدخول في رحاب الانترنيت، إنها حقا مشکلة عويصة يا حبذا لو طرحت حلا وسطا أوظفه في الصراع الدائر هنا في منزلي، ومع ذلک فقد طرقت موضوعا مهما و حساسا تستحقين الثناء عليه حقا.

د. إياد قحوش's picture

كيف يمكننا النصح ونحن جميعا في “الهوى سوى”..ولولا شك زوجتي بانتصارها على جلسات الكمبيوتر لخيرتني بينهما ..
الكمبيوتر “أملق جليس”..
تحية

اياد

كمال العيادي's picture

الرّائعة ثناء طه,

بلى.
ما قرأت لك اليوم , نصّ قصصيّ مبدع.
قلمك سينير الـ …دروب أيّتها الرّائعة.

هذا النصّ - فصّ من الفصوص -

مودّتي وأكثر

كمال العيادي - ميونيخ