13 آب بنكهة "الزعتر" والجدران

في مثل هذا اليوم قبل نحو ثلاثة عقود، في 13 آب 1976، أسدلت الستارة على أسطورة صمود مخيم تل الزعتر بمجزرة بشعة ارتكبت ضد سكانه وهم يهجرون إلى خارجه، قبل تدميره ومسحه عن الوجود، لتضاف مأساته إلى مخيمين آخرين جرى تدميرهما في لبنان، هما النبطية وجسر الباشا.



وفي مثل هذا اليوم قبل 44 عاما، في 13 آب 1961، بدأ السوفيات ببناء الجدار الفاصل بين الشطرين الشرقي والغربي من برلين، بعد إغلاق الحدود بين الألمانيتين، ليتحول لاحقا إلى واحد من أبشع الرموز في التاريخ البشري المعاصر، قبل هدمه في مشهد احتفالي عالمي بعد نحو ثلاثة عقود.



مناسبتان في يوم واحد تحملان دلالات في الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني؛ ففي ذكرى مجزرة تل الزعتر، يمر شريط من محطات مأساوية شهدت مجازر متكررة من كفر قاسم إلى صبرا وشاتيلا، وكلها تنطوي على قاسم مشترك في جانب من أهداف ارتكابها ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، يتمثل في تنفيذ مخططات للتطهير العرقي والعنصري والطائفي. وفي ذكرى بناء جدار برلين، يواصل الفلسطينيون مقاومتهم لتكرار المشهد على أرض وطنهم، عبر الجدار الفاصل الذي تواصل حكومة الاحتلال بناءه، وفيه أيضا من الدلالات ما يقدم أمام العالم بأسره صورة أكثر بشاعة من جدار برلين، بل الصورة الأكثر فظاظة في التاريخ المعاصر للتطهير العرقي والعنصرية ضد شعب يعيش على أرض وطنه.



وفي دلالات التهجير والتطهير العرقي والتمييز العنصري، بين كفر قاسم وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا، أمس، وبناء جدار الفصل العنصري والمستوطنات، اليوم، تشابه في النتائج المترتبة على مخططات التهجير والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين في وطنهم، وفي مخيمات وتجمعات اللاجئين في لبنان، وإن انطوت دعاوى منفذي هذه المخططات على مفارقة ذات تناقض ظاهري. ففي فلسطين يتعرض أهل البلاد لمخططات التطهير العرقي عبر الجدار والاستيطان ومصادرة الأراضي بهدف اقتلاعهم من أرض وطنهم، وفي لبنان يتعرض الفلسطينيون لمخططات التطهير العرقي عبر المجازر من هذا الطرف أو ذاك تارة، والحصار والتضييق تارة أخرى، وقوننة التمييز العنصري دائما، ولكن تحت شعار رفض التوطين والتمسك بحق عودة اللاجئين إلى وطنهم!



وفي المحصلة النهائية اليوم، لاجئون مع إشارة (أس تربيع) في لبنان، يطلق عليهم "مهجرو تل الزعتر"، يتوزعون على تجمعات تعاني البؤس والفقر المدقع من أقصى شمال لبنان في طرابلس، مرورا بالبقاع، إلى أقصى الجنوب في صور، وبعضهم هجر من مناطق سكناه البائسة منذ تدمير تل الزعتر مرتين أو ثلاث، وليس انتهاء بلاجئين "مهجرين" في ظروف بائسة في ألمانيا والدنمارك وغيرهما، جاؤوا من "الزعتر" ومن صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة، وغيرها من مخيمات لبنان.



وإذا كان 13 آب قد حكم على المسار الذي اتخذه مصير آلاف اللاجئين الناجين من مجزرة تل الزعتر، فإن السياسة الرسمية اللبنانية التي تقونن التمييز تجاه اللاجئين الفلسطينيين تحت فزاعة خطر التوطين، وحالة التحريض ضد الوجود المدني الفلسطيني في لبنان، اليوم، تحت ستار نزع سلاح المخيمات استجابة لأحد استحقاقات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، تعيدان إلى الأذهان تلك الأجواء البغيضة التي سادت الخطاب الانعزالي الطائفي اللبناني في التحذير التحريضي من "الخطر الفلسطيني" على توازن النظام الطائفي المثير للاشمئزاز أصلا في لبنان، وأفضت على اندلاع الحرب الأهلية، بل وارتماء أصحاب هذا الخطاب في الحضن الإسرائيلي. وهي أجواء تثير قلقا مشروعا اليوم مع قيام أطراف رفعت السلاح يوما في مواجهة المشروع الانعزالي باستعارة مفردات ومزاعم الخطاب الطائفي الانعزالي ذاته في مواجهة الوجود الفلسطيني برمته، المدني والمسلح، والذهاب بعيدا في تشجيع استمرار الحصار المشدد المفروض من الجيش اللبناني حاليا على مخيمات لبنان، خصوصا في الجنوب، بالترافق مع إجراءات تمييزية "على الهوية" عند الحواجز المقامة على مداخل المخيمات مع تسجيل أسماء الداخلين إلى المخيمات، ليلا نهارا!



وفي وقت يعلو فيه صوت المطالبين في لبنان بالعفو "عند المقدرة" عن عملاء إسرائيل الفارين من وطن خانوا قضيته ونكلوا بشعبه، وبعضهم يشتمه جهارا على شاشات التلفزة الإسرائيلية، وقبلهم العفو عن سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، صاحبة الخطاب الطائفي الانعزالي الأكثر تنفيرا، والشريك الأساسي في المجازر والجرائم "على الهوية" ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني على السواء، فإن آذان أصحاب هذه الأصوات لا تقوى على سماع أية مطالبة بإصدار "عفو" عن مسؤول حركة "فتح" والقوى الفلسطينية في لبنان سلطان أبو العينين، المحكوم بالإعدام إبان الفترة الذهبية للوجود السوري على الأراضي اللبنانية، فيما تنتظر منظمة التحرير موافقة الحكومة اللبنانية على إعادة افتتاح مكتبها، ربما الأقل في مستواه التمثيلي في العالم، والمغلق منذ سنوات!  



ويترافق كل ذلك مع تشديد الإجراءات العنصرية الرامية إلى تعميق حالة البؤس والفقر في المخيمات كأسلوب اقتصادي اجتماعي ضاغط لإحداث حالة "طوعية" من التطهير العرقي والطائفي بدفع أكبر عدد ممكن للرحيل عن مساكن الطوب والصفيح والاسبست التي تؤويهم في المخيمات وتجمعات "المهجرين" غير المعترف بها من قبل الدولة اللبنانية ووكالة الغوث، على حد سواء. ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى الموقف اللبناني الرسمي الثابت في منع البناء والتوسع الأفقي أو العمودي في المخيمات، وتشديد هذه الإجراءات منذ توقيع اتفاق الطائف بإصدار تعليمات واضحة لوكالة الغوث تقضي بمنع اعمار وترميم المساكن وتحسين شروط السكن والبنى التحتية في المخيمات، إلا بإذن خاص من السلطة اللبنانية.



وليس هناك من داع لشرح أهداف سياسة تضييق الخناق على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومنعهم من تحصيل قوتهم، لا سيما من حيث تشجيع "الهجرة الطوعية"، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكثافة السكانية في مخيمات لبنان تفوق مثيلتها في مخيمات قطاع غرة، الذي يعتبر من أكثر بقاع العالم كثافة سكانية. ففي حين وصل المتوسط العام للكثافة السكانية في مخيمات القطاع، حسب إحصاءات وكالة الغوث لعام 1995، إلى 8ر61 نسمة في الدونم الواحد، وانخفض إلى 4ر41 نسمة / دونم في مخيمات الأردن، فإن هذا المتوسط قفز إلى 5ر116 نسمة / دونم في مخيمات لبنان، بفضل الإجراءات اللبنانية الرسمية، وبلغ متوسط الكثافة السكانية في مخيم عين الحلوة 6ر91 نسمة / دونم، وارتفع في صبرا وشاتيلا إلى 5ر181 نسمة / دونم، فيما وصل إلى 1200 نسمة / دونم في مخيم برج الشمالي، ويمكن تخيل المستوى الذي باتت تبلغه الكثافة السكانية في مخيمات لبنان بعد مرور عشر سنوات على هذه الأرقام الإحصائية!



ورغم هذه الظروف شديدة البؤس، وخلافا لمرامي مثيري فزاعة التوطين، قدم الفلسطينيون في لبنان طيلة 57 عاما أكثر مما ينبغي من البراهين، المعمدة بدمائهم وتضحياتهم ومعاناتهم المتواصل، على رفضهم لمشاريع التوطين وتمسكهم بهويتهم الوطنية وبحقهم في العودة إلى الديار التي هجروا منها، وهم ليسوا بحاجة إلى 13 آب آخر في عين الحلوة أو غيره من مخيمات لبنان المحاصرة كي يظهر بعض اللبنانيين فلسطينيين أكثر من أبناء في فلسطين في رفض التوطين والتمسك بأرض وطنهم.



أما على أرض فلسطين، فليس شعبها بحاجة إلى تكرار 13 آب "البرليني" في وطنه، بل وعليه ألا ينتظر ثلاثين عاما كما فعل الألمان قبل أن يهدموا جدار برلين. فاليوم، وهم يشهدون اندحار الاحتلال وانهيار مشروعه الاستيطاني في قطاع غزة، هو زمن المواجهة المطلوبة وفق سياسة حازمة تسعى لهدم جدار الفصل العنصري بالمعاول كما بالتحرك السياسي على كافة المستويات الدولية، الرسمية والشعبية، وحتى يشهد العالم في أقرب وقت انهيار آخر جدران التطهير العرقي والعنصرية التي تشيدها إسرائيل في العصر الحديث.



نعم.. ليس الفلسطينيون بحاجة إلى 13 آب جديد بنكهة "الزعتر" والجدران، وبإمكانهم أن يحولوا ذكرياتهم المؤلمة، وفق استراتيجية للعمل الوطني توحد جهودهم في الوطن والشتات، إلى مناسبات للفرح بانتصار بحجم تضحياتهم.    


Author's Notes/Comments: 

بقلم خليل شاهين

View tariqasrawi's Full Portfolio