كفر قاسم

جالت الصحافية ريم عبيدو بين قرى وبلدات فلسطين المحتلة ولملمت حكايات الأسى والمجازر، سمعت أحدهم يصرخ"تكسور اتام" أي أحصدوهم وانهمر الرصاص من كل جانب. ذهبنا إلى قرية كفر قاسم لنبحث عما تبقى في ذاكرة أهلها عن احتلال القرية عام 1948 والمذبحة التي تلته عام 1956 ، فوجدنا كبارها يمتلكون كل الذاكرة والصغار يرددونها.



وبمجرد وصولنا إلى القرية عن طريق اللد، اصطحبنا أطفال القرية إلى ساحة الشهداء، وإذا بها في مركز المدينة على مفترق طرق، يقف على أحد زواياها نصب تذكاري يحمل أسماء 49 شهيدا من أبناء القرية سقطوا في ذلك اليوم " الأسود" ، كما وصفه أحدهم، 29 شهر تشرين الأول عام 1956، اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر. بعضهم كان عائدا من العمل في المحاجر، وبعضهم الآخر من الحقول، وغيرهم وجدوا مصادفة في تلك البقعة التي تفوح منها رائحة الموت.



وروى لنا الشباب ما سمعوه من آبائهم عن كيفية سقوط القرية في يد الصهاينة قبل نصف قرن من الزمن. وكيف سمع أهل القرية عن المجازر التي ترتكبها قوات الصهاينة في القرى الفلسطينية الأخرى، ففكروا في الهرب، ولكنهم راجعوا أنفسهم، وبقوا. ورفعوا الرايات البيضاء وانتظروا. انسحب منها الجيش الأردني وتسلمتها العصابات الصهيونية.



تنبهت الأخيرة عام 56 إلى أن أهل القرية العربية الواقعة في أقصى جنوب المثلث العربي والقرى المجاورة لم ينزحوا. فخططت لمجزرة تكون عبرة لمن لم يعتبر. كان ذلك اليوم يوما عاديا بالنسبة إلى صالح خليل عيسى (أبو الوليد) ابن التاسعة عشرة في حينه. كعادته خرج مبكرا هو وابنا عمه أسعد وعبد ليقطفوا البرتقال من بيارات مستوطنة مجاورة اسمها "بيتح تكفا"، استقل الثلاثة دراجاتهم وبدأوا يومهم من دون أن يكون لديهم أدنى توقع لما سيحدث بعد يوم شاق في المستوطنة الصهيونية .



جلس أبو الوليد معنا في مقهى يشرف على النصب التذكاري وبدأ يسترجع الذكريات. ذاكرته لم تخنه بعد، على رغم مرور عشرات الأعوام على تلك اللحظات العصيبة. يسترجع الذكريات وكأنه يتلوها عن ظهر كتاب دونه ليحتفظ بالشهادة لنفسه وللعالم ليذكر ويتذكر. وروى:



" كنا عائدين على دراجاتنا، أنا وأبناء عمي، كل شيء على ما يرام. لم أشعر بأي شيء غريب. الساعة كانت الرابعة مساء والشمس قاربت على المغيب، وحدة حرس الحدود كانت مرابطة على مدخل القرية. اقترب منا أحد الجنود وقال:"ضعوا دراجاتكم هنا والحقوني". ثم سألنا من أين نحن. فأجبنا: من كفر قاسم. هنا بدأت أشعر أن شيئا غريبا يحدث، لكني لم أتخيل أنه قد يصل إلى حد القتل. ظننت أنهم سيضربوننا ويهينوننا كما اعتادوا في السابق، خاصة لمن لم يكن معه تصريح من الحاكم العسكري". وكان أبو الوليد يتقن اللغة العبرية. وأخرج التصريح من جيبه وأوضح لهم أنه يحمل تصريحا. لم يكترثوا. وقال : أوقفونا في طابور طويل، وسمعت أحدهم يأمر الجنود : "تكسور اتام". فهمت في الحال ماذا يقول "أحصدوهم" ! شعرت وكان السماء أطبقت علي، لم أقدر على الحركة، أحسست بلساني يثقل وأنني أعجز حتى عن التفكير. فقط شيء واحد راودني: لا شك أنهم قتلوا جميع أبناء القرية".



توقف أبو الوليد عن الحديث و تنهد واستطرد:"بدأت زخات الرصاص تنهمر من كل حدب وصوب . لحظات وكأنها الدهر". كتم أنفاسه. وحين بدأ الجنود جمع الجثث كتم أنفاسه أكثر. سحبوه من رجليه وألقوا به على حافة الشارع فوق زملائه وأبناء قريته، أصابته كانت خفيفة في يده ورجله.



في ذلك اليوم كان إسماعيل بدير عائدا من عمله في قطف الزيتون على عربة من عجلتين يجرها بغل، لا يعلم شيئا عن منع التجول الساري الذي كانت حكومة الكيان فرضته على القرية. وإلى جانب العربة أو خلفها سار رجلان يحملان الخضروات. استوقفتهم دورية صهيونية مدججة بالسلاح. أمروهم بالنزول من العربة. شاهد إسماعيل جثث بعض القتلى على الأرض وشعر بما سيؤول إليه مصيره. توجه إليهم قائلا :" دخيلكم ! لماذا تنوون قتلنا ؟" فأجابه القائد:"إخرس". والتفت إلى جنوده آمرا إياهم بالعبرية "تكسور اتام".



ارتمى إسماعيل تحت الجثتين مصابا في فخذه وخاصرته مدعيا الموت. حمله الجنود مع الجثتين ورموه خلف السور، سحب رجله الدامية وتسلق أول شجرة زيتون صادفته . وشاهد أهل قريته وهم يحصدون أمامه، وروى وهو يشير بإصبعه إلى الأسماء المكتوبة على نصب تذكاري في ساحة الشهداء وسط القرية تارة وإلى المواقع التي حصدوا فيها وشجرة ذكرياته الأليمة تارة أخرى:



"انتفض كالدجاجة "المذبوحة":



كان الألم يقطع أوصالي. وكانت الدماء تسيل إلى أسفل الشجرة. خفت أن ينكشف أمري. مزقت قميصي وربطت مكان النزف. فإذ بالعقدة تغوص في اللحم. مزقت قطعة أخرى وربطتها على الفخذ. ومن فوق الشجرة شاهدت عثمان عيسى راعي الأغنام ومعه ابنه يقتربان من فسحة بالقرب من مفترق الطرق هنا: و أشار بإصبعه إلى مكان يعج بالبيوت والدكاكين، وقال :"كانت المنطقة غير مأهولة. كدت أن أصرخ لأنبههم، ولكني اكتشفت أنه ليس لي صوت. وما هي إلا دقائق حتى بدأ الرصاص ينهال عليهما، سقطا على الأرض مع مجموعة من الأغنام، بينما هرب بقية القطيع إلى داخل المدرسة". وأشار بأصبعه إلى مدرسة تحمل اسم "مدرسة الغزالي".



أخذت انتفض كالدجاجة المذبوحة والعرق يتصبب من كل جسدي. الناس على الأرض، بعضهم أقربائي ، وبعضهم أصدقائي. حاولت أن أغمض عيني كي لا أرى، فسمعت صوت عربة قادمة من الطرف الآخر لمفترق الطرق. ازداد خفقان قلبي، لأن هذا يعني مزيدا من القتلى. توقفت العربة وحين اقتربت تحققت أن فيها صديقي محمود ريان و آخرون. توجه أحد الجنود إليهم وأمرهم باستئناف السير. وفور اجتياز السيارة مفترق الطرق، أطلق الجنود النار عليهم من الخلف، انحرفت السيارة وانقلبت، وشاهدتهم فيما بعد ينقلون من فيها ويكومونهم فوق الجثث.



"ازداد الألم، وشعرت بالدوار. وضعت يدي على وجهي وإذا به منتفخ كالبالون". وبعد وقت قصير، وأنا بين الإغماء والصحو، وصلت إلى مفترق الطرق عربة من أربع عجلات مربوطة ببغل عليها إسماعيل عاقب وابن عمه توفيق. أمرهم أحد الجنود بالوقوف إلى جانب العربة. ثم وصلت مجموعة من راكبي الدراجات إلى المكان، وكان أولئك عمال في طريق عودتهم من عملهم، وكانت مصابيح دراجاتهم مضاءة، لأن الشمس كانت قد غابت. أمرهم الجنود بوضع دراجاتهم إلى جانب العربة والوقوف في صف واحد مع ركاب العربة وبقية راكبي الدراجات، فصار عددهم نحو 14 شخصا بينهم ابن عمي أحمد بشير بدير، وقف في آخر الصف، فصرخ في وجهه الجنود:"يا كلب قف في منتصف الصف"، فانتقل المرحوم إلى منتصف الصف.



… وعندما لم ير الجنود في الأفق مصابيح لدراجات أخرى، سأل الجندي الواقفين في الصف من أين هم وكان جوابهم جميعا أنهم من كفر قاسم. وفي هذه اللحظة خطا الجندي خطوة إلى الوراء، وأمر جنديين كانا يقفان في خط عكسي لصف الضحايا :" تكسور اتام". وفور ذلك أطلق وابل من الرصاص على صف الرجال، فسقطوا جميعا ما عدا مصطفى جينجي الذي قفز من فوق الجدار دفعة واحدة. وشاهدته يزحف مع الغنم . أما ابن عمي، فعفط لثوان من حلاوة الروح ثم همد. حملوهم وكوموهم إلى جانب الشارع. كان بعضهم على قيد الحياة.



3 أيام فوق الشجرة :



… ثم شاهدت سيارة شحن قادمة من شارع عمر بن عبد العزيز (أحد الشوارع المتفرعة من المفترق) . سمعت البنات وهن يغنين في داخلها ودخلت السيارة المفترق دون أن تتوقف، فركض أحد الجنود خلف السيارة وصاح "قف" لكنها واصلت طريقها، ودخلت إلى طريق المدرسة، فاجتاز الجندي الشارعين، وصرخ مرة أخرى : قف، قف، وهو ينادي جنديين آخرين موجودين في المكان. توقفت السيارة في النهاية على طريق المدرسة. وأمر جندي الركاب بالنزول من السيارة . نصب السائق السلم على حافة صندوق السيارة، وتوجه إلى النساء قائلا : "يا إخواتي إنزلن، وأعرضن بطاقات هوياتكن". ولكن يبدو أن النساء لاحظن وجود الجثث في مفترق الطرق، وتوسلن أمام الجندي أن يرحمهن ويبقيهن على قيد الحياة دون جدوى، قتلهن جميعهن، وأشار بأصبعه إلى أسماء 14 امرأة وثلاثة رجال. ولكن أهل القرية قالوا إن امرأة واحدة نجت هي حنة سليمان عامر.



"حمل الجنود القتلى إلى شاحنات. أردت النزول من على الشجرة فلم أستطع. سمعت مكبر الصوت يعلن استمرار منع التجول، فعرفت أن هناك أناسا ما زالوا على قيد الحياة في القرية. مكثت فوق الشجرة ثلاثة أيام. انتفخ وجهي أكثر وأكثر. شاهدت الدود يخرج من رجلي. انتهى منع التجول وعثر علي ابن عمي تحت الشجرة. ولم أع ما حولي إلا في المستشفى ورجلي مقطوعة".



ومنذ ارتكاب المجزرة وحكومة الكيان الصهيوني تتملص من المسؤولية. حاكمت جنودها وحكمت عليهم بدفع غرامة مقداره ليرة صهيونية واحدة وغسلت يدها من دماء الشهداء والجرحى. وعلى رغم المجزرة، فإن سكان كفر قاسم لم يغادروا القرية وإلى الآن لم تستطع حكومة الكيان زرع أي صهيوني بينهم، وإن صادرت أراضيهم الزراعية وأقامت منطقة صناعية عليها تسمى (ماركتوم) وقال إسماعيل "فهمنا أن هدف المجزرة الصهيونية هو دفعنا إلى ترك البلد، الناس قالت نموت هنا أفضل، خصوصا حين سمعنا ماذا حصل للذين هاجروا عام 1948.



ويدرج اسم كفر قاسم من جديد في كل مقال وخطاب لدى اقتراف الديان الصهيوني أعمالا دموية رهيبة في حق الفلسطينيين وغيرهم، مثل صبرا وشاتيلا والأقصى والحرم الإبراهيمي وقانا.



ولمن يريد أن يقف على أبعاد هذه المجزرة فلا بد له من إدراك أهمية موقع كفر قاسم، فهي قرية حدودية تفصل بين الأراضي التي احتلتها القوات الصهيونية عام 48 والضفة الغربية. ضمت إلى الكيان مع بقية قرى المثلث بحكم اتفاق الهدنة بين المملكة الهاشمية والحكومة الصهيونية ، والتي قضت بتجزئة فلسطين بين الطرفين. وتم ذلك بعدما وضعت حرب عام 1948 أوزارها. "ولكن أحدا لم يسأل أهل قرى المثلث عن رغبتهم في الانضمام إلى الكيان ، كما قال إسماعيل .



وكفر قاسم التي اكتوت بنار المجزرة لا تزال تعاني سياسة هذه الدولة وخصوصا في موضوع مصادرة الأراضي في منطقة "رأس العين" حيث أقيمت المنطقة الصناعية. والقرية التي كان عدد سكانها لا يتعدى ألف شخص ، كبرت وصارت كالمدينة وتكاثر سكانها فوصل عددهم إلى 14 الف نسمة، معظمهم من بدو النقب طردتهم القوات الصهيونية إليها بعدما صادرت بيوتهم وأراضيهم.



أطفال القرية وكبارها يتقنون العبرية كما يتقنون العربية، إما بحكم عملهم في المصانع الصهيونية وإما من خلال مناهج التدريس، غير أن أجواءها عربية، لا تختلف عن قرى الضفة الغربية وغزة. ولم نشاهد صهيونيا واحدا يجول في شوارعها. ولكن مركز الشرطة غير البعيد عن ساحة الشهداء ، لا بد منه.

Author's Notes/Comments: 

بقلم ريم عبيدو

View tariqasrawi's Full Portfolio