لأجل أن أشم خفايا حرفكِ البضّة
فإنني مستعد أن أهديك أذني
كما فعل ''فان كوخ''
وأن أبكيكِ العمر كله
محاطا بالنسور والصقور والثعالب
كما فعل غويا
وأن أترك الحوت يبتلعني
كما فعل ذو النون
وأن أضيّع قائد جندي الى الأبد
كما فعل داود·
اخترت هذا المقطع من قصيدة للشاعر العراقي أديب كمال الدين؛ لأقدم بها وجه رحلتنا هذه، وجه لطالما أثار الكثير من التساؤلات والحيرة، وبات من أشهر مجانين الفن في العالم، إنه الرسام الهولندي ''فان كوخ'' الذي سنرحل مع حياته في محاولة لاستقصاء بعض من
تفاصيلها، وتقديمها للقراء بصورة بسيطة خالية من التعقيد·
ولد ''فنسنت فان كوخ'' في بلدة ''زونديت'' الهولندية عام 1853م، كان أبوه قسيساً حاول أن يغرس في أعماق ابنه مثلاً عليا، وكان لهذا الأمر ردة فعل عكسية على حياة ''كوخ'' في مستقبله الغامض، حيث كانت تلك المُثل تصطدم بالواقع في جميع محطات حياته،
حين بلغ السادسة عشرة اصطحبه عمه إلى ''لاهاي''، حيث كان يدير هناك قاعة لبيع الأعمال الفنية، فتعرّف ''كوخ'' هناك على أعمال الفنانين الكبار، وتأثر بلوحات ''رامبرانت'' وجماعة ''الباربيزون'' الفنية، ونجح في عمله التجاري الذي يقوم على بيع
وشراء الأعمال الفنية، إلى أن سقط في بئر الحب المأساوي، حين أحب فتاة تدعى ''أرسيولا''، حيث صدته بخشونة وصلف وهزأت به حين طلب يدها للزواج·
تدهورت حالته النفسية بعد تلك الحادثة مع ''أرسيولا''، فاعتزمت الشركة التي تمتلك قاعة الفن التي يعمل بها؛ نقله إلى باريس، إلا أنه استقال واعتكف تحت ظل الكآبة، موطداً العزم على تكريس حياته للخدمة الدينية، اتجه بعد ذلك إلى لندن لتدريس اللغة الفرنسية،
ولكن عاصمة الضباب زادت كآبته حدة، مُذكّرة إياه بجرحه العاطفي، فعاد إلى هولندا ليلتحق بمعهد لاهوتي، وبعد مرور ستة أشهر انهار نفسياً مرة أخرى، ليقرر العمل كواعظ ومبشر في قرى بلجيكا، وهناك أظهر من الشعور الإنساني ما لا يمكن وصفه، فقد عايش الفقراء الذين
أصيبوا بحمى ''التيفوس''، وسهر معهم ليالي وأياما محاولاً التخفيف عنهم، كما وزّع عليهم أغطيته وملابسه حتى أصابه البرد والجوع، وهذا ما جعل العمال والفلاحين الفقراء في تلك المناطق يتعلقون به، ولكنه أثار بتصرفاته السلطات الدينية التي قامت بطرده·
فشل متراكم
ازداد شعور ''كوخ'' بالإحباط نتيجة الفشل التراكمي الذي رافقه: فشل كبائع لوحات فنية، وفشل في حبه، وكمدرس للغة الفرنسية، وأخيراً كواعظ ديني للفقراء، وحين احتدت أزمته كتب إلى أخيه ''تيو'': ''إنني بالرغم من كل شيء؛ سوف أنهض ثانية·· سوف أتناول
ريشتي من جديد، وسأعود للرسم''، بعد هذه الرسالة استطاع كوخ بفضل معونة ''تيو'' المالية له؛ أن ينهض مرة أخرى، فالتحق بأكاديمية الفنون، وبدأ حياته مع عالم الألوان، فرسم أجمل اللوحات التي استوحاها من حياة الفقراء والمعذبين الذين عايشهم طويلاً، وكانت
هذه هي مرحلته الأولى فنياً، ويطلق عليها النقّاد المرحلة الهولندية·
وبعد إكماله عاماً في تلك الأكاديمية؛ رحل ''كوخ'' ليقيم في باريس مع أخيه ''تيو''، وكان هذا الأخير من تجار اللوحات المنفتحين، وفي تلك الفترة عادت الابتسامة إلى ثغر ''كوخ'' الحزين، حيث وجد برفقة أخيه ما أعانه على تحمل الحياة، وفي باريس
تغيّرت ألوانه من القتامة والحزن إلى البريق والإشراق، وراح يدرس النظريات الحديثة في الفن، مجرّباً بعض خطوطها في لوحاته، وتعرّف هناك إلى فنانين شباب سيكون لهم شأن كبير في عالم الفن، أمثال: بول جوجان، ولوتريك، وتأثرت لوحاته في هذه الفترة بالرسوم
اليابانية، وهي بداية مرحلة النضوج الفني لهذا الفنان الشهير·
أشهر ''أذن'' في التاريخ
ولحساسيته المفرطة، فقد شعر ذات يوم بأنه أصبح عالة على أخيه، فما كان منه إلى أن ترك رسالة لأخيه ينبئه فيها برحيله إلى سماء أصفى وضوء أكثر سطوعاً، وكانت وجهته هذه المرة إلى مقاطعة ''بروفانس'' جنوب فرنسا، حيث الشمس الساطعة، والألوان المتوهجة، فعكف
هناك على الرسم بغبطة وحماس، ويمكن تمييز لوحات هذه الفترة بسهولة ضمن مجموعته الفنية، حيث تشع اللوحات بالحيوية من حيث اللون والإيقاع والموضوع، وقد عبّر عن أسلوبه في تلك المرحلة برسالة خطية كتبها لأخيه: ''إنني؛ وبدلاً من محاولة نقل الطبيعة بأمانة،
أستخدم الألوان بحرية ودون تقيد، من أجل التعبير عن نفسي بقوة''·
ارتبط ''كوخ'' بعلاقة جيدة مع الفنان الشهير ''جوجان''، حيث دعاه للإقامة معه، وعرض عليه إنشاء رابطة للفنانين، فسخر ''جوجان'' من هذه الفكرة، وكانت الطامة الكبرى·· حيث هاجمه ''كوخ'' بزجاجة كادت تقضي عليه، بعدما توترت أعصابه -وقد ذكرنا هذه
الحادثة حين ترجمنا حياة ''جوجان'' في مقالة سابقة-، وبعد هذه الحادثة عاد التوتر الجنوني إلى ''كوخ'' مرة أخرى، وفي لحظة جنونية ما زال العالم يتذكرها إلى اليوم؛ قطع ''كوخ'' اذنه وقدمها إلى محبوبته التي طلبتها منه من باب الدعابة، ونقل على اثر
هذه الحادثة إلى المستشفى، وعندما خرج؛ أصبح فرجة ومحل سخرية من سكان منطقة ''أرل'' التي يقيم فيها، فلم يجد أخوه بدّاً من نقله إلى مستشفى الامراض العقلية، رافقته خلالها نوبات الصرع الشديدة، ويجمع من كتب عن حياة ''كوخ'' وفنه، أن هذه النوبات تبدو
واضحة في ألوان وخطوط لوحاته الأخيرة·
الانتحار
سئم ''كوخ'' من الحياة، فخرج إلى حقل مجاور للمشفى الذي يقيم فيه؛ وأطلق على نفسه الرصاص، ولكنه لم يمت على الفور، بل إنه مكث يومين بعد هذه الحادثة، ليموت بعدها عن عمر قصير لم يتجاوز السابعة والثلاثين، تاركاً وراءه ما يقارب 700 لوحة وحوالي 1000
تخطيط، أنجز معظمها في سنواته العشر الأخيرة، ويحيل نقاد الفن سبب شهرة ''كوخ'' الفنية إلى أمرين رئيسييين: الأول يتعلق بتوصله إلى الأسلوب التعبيري قبل ظهور المدرسة الألمانية، أما الأمر الآخر فيتصل بأحداث حياته التراجيدية؛ وعلى قمتها المرض النفسي،
الذي دفعه لقطع أذنه ومن ثم الانتحار