قصة الرئيس الشهيد ياسر عرفات يرويها رياض الصيداوي

قصة ياسر عرفات - رياض الصيداوي - كاتب تونسي مقيم في جنيف



- أنشأت حركة (فتح) أول مكتب لها في الجزائر تحت اسم مكتب فلسطين وكلف أبو جهاد بإدارته وكان اسمه الحركي علال بن عامر

- الصينيون قالوا لعرفات قبل أن يبدأ.. لا تنجح ثورة من دون أن تتبناها الجماهير

- ابدأوا القتال بقدراتكم الذاتية أولا، ثم نعطيكم السلاح لاحقاً

وهو محاصر من قبل دبابات شارون حيث لا توجد إلا مسافة بضعة أمتار بينه وبين فوهة أول مدفع موجه نحوه، لم تفت أبو عمار فرصة وضع مسدسه فوق الطاولة جنبا إلي جنب مع هاتفه النقال. فالأول هو البندقية التي هدد بها لما ألقي كلمته لأول مرة علي منبر الأمم المتحدة في نيويورك. والثاني، أي الهاتف النقال هو غصن الزيتون الذي لوح به ذات يوم علي المنبر نفسه، ووظيفته هي العمل الدبلوماسي والاتصالات السياسية. تلك هي ثنائية الكفاح والتفاوض عند ياسر عرفات التي لازمته منذ تأسيس حركة (فتح) إلي يومنا هذا. فالكفاح السياسي من دون سياسة ودبلوماسية وأهداف واضحة هو انتحار. وكذلك السياسة بدون قتال ونضال هي ترف لن يحرر فلسطين ولا أي شبر منها. ربما لأجل هذه الثنائية اتهم أبو عمار تارة بـ(الإرهابي) من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وتارة أخري بـ(الانهزامي) و(المسالم) ورجل (الفنادق بدل الخنادق) من قبل بعض التنظيمات الفلسطينية الصغيرة أو من قبل بعض الأنظمة العربية المدعية لثورية خطابية سرعان ما تختفي عن ساحة الفعل حينما يحين الجد. حيث تلجأ بسرعة إلي تهدئة الوضع والتفاوض مع إسرائيل سرا. أبو عمار أدرك منذ عام 1948 كل هذه المناورات وعرف الفرق بين الخطاب والممارسة. وفهم أن تحرير فلسطين لن يتم بالخطب ولا بالمزايدات الثورية الشعاراتية الخالية من أي برنامج حقيقي للتحرير.

هذا الشبل من ذاك الأسد. ينطبق هذا المثل علي كتائب شهداء الأقصي. هذا التنظيم السري المحكم الذي أثار الخوف والبلبلة في نفوس الإسرائيليين بعملياته الجريئة وشجاعة مناضليه وقادته.. لم يأت من فراغ. لقد خرج من أحضان التنظيم الأم أي حركة (فتح). ولـ(فتح) قصة مع التاريخ في الكفاح المسلح أولا وفي الدبلوماسية ثانيا. وكلمة (فتح) هي اختصار لاسم التنظيم: حركة التحرير الفلسطيني. وقد اضطر الفلسطينيون لاختصار الاسم بالمقلوب فعوض أن تكون (حتف) (وهو ما يعني الموت في اللغة العربية) فقد استعملت كلمة (فتح) لما لهذا التعبير من دلالة ومغزي لدي العرب والمسلمين.

من الممكن القول إن قدر حركة (فتح) ارتبط بقدر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات نفسه. وحينما نتحدث عن الصدف وتعدد الاختيارات لدي البشر..فإن التاريخ كثيرا ما يكون غير عقلاني. فتأسيس حركة (فتح) ارتبط بسلسلة أحداث مترابطة تارة ومتقطعة متنافرة تارة أخري. ولعل بداية الخيط كانت بعد زيارة المناضل الشاب عرفات إلي العراق والتقائه بالضباط الأحرار العراقيين وعلي رأسهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، الذين كانوا بصدد إعداد ثورة للإطاحة بالملكية العراقية وبنوري السعيد، وتباحثه معهم في أمر فلسطين والعراق وشؤون العرب عامة. فعند عودته إلي القاهرة، استدعته المخابرات المصرية وحققت معه كما ضيقت عليه أجهزة الأمن المصرية الحصار ورصدت حركاته وسكناته بالإضافة إلي طرده من عمله في مصر. ووصل الشاب المتحمس إلي ضرورة الخروج من مصر والاتجاه إلي دول الخليج حيث قبل أول عرض عمل جاءه من الكويت. وقبل ذلك سبقه صديقه خليل الوزير بأن وقع عقد عمل كمدرس في المملكة العربية السعودية والذي سرعان ما غير وجهته هو أيضا ملتحقا بصديقه في الكويت.

الابتعاد عن دول المواجهة



هذا الانتقال المكاني في تاريخ الشاب الثوري عرفات شكّل منعرجا حاسما في تاريخه الشخصي بشكل خاص وفي تاريخ الثورة الفلسطينية بشكل عام. فمصر دولة مواجهة مع إسرائيل وهي مرتبطة معها باتفاقية هدنة عسكرية ويوجد وقف حقيقي لإطلاق النار بين الدولتين. ومن ثمة لن تسمح دولة مصر لأي نشطاء فلسطينيين بالعمل من خلال الأراضي المصرية. وهي قاعدة ستتكرر دوما مع كل الدول العربية المواجهة. فسوريا لم تسمح للمقاومة الفلسطينية بالانطلاق من ترابها لأنها غير مستعدة لتلقي ضربات الانتقام الصهيونية. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة الأردن الذي وصل فيها الوضع مع الفلسطينيين إلي حد التقاتل في أيلول (سبتمبر) عام 1970 وحدوث مجزرة رهيبة في حقهم. وحتي لبنان لم يعد يسمح بأن تكون أراضيه قاعدة انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح منذ خروج أبو عمار من بيروت عام 1982 علي اثر الاجتياح الإسرائيلي.

أدرك أبو عمار مبكرا أن دولة عربية بعيدة غير مواجهة مباشرة لإسرائيل هي أفضل بكثير للفلسطينيين من دول المواجهة. فهي ستعطيهم الوقت الكافي للتنظيم دون الخوف من التدخل الاستخباراتي للدولة العربية المضيفة من جهة أو الخوف من عمليات الانتقام العسكرية للكيان الصهيوني من جهة أخري. لهذه الأسباب مجتمعة شكلت الكويت قاعدة جيدة لانطلاق المقاومة. كما استعاد أبو عمار لاحقا هذا الاختيار عندما اختار الانتقال إلي تونس بدل دولة عربية من دول المواجهة عندما أخرج من بيروت، آخر معاقله القوية علي أرض عربية متاخمة لإسرائيل.



المال والثورة



في الكويت، اشتغل عرفات لبعض الوقت في وزارة الأشغال العامة، حيث غادرها ليؤسس شركة خاصة به. نجحت الشركة وحققت أرباحا كثيرة. لقد انتبه أبو عمار مبكرا لأهمية المال في النضال السياسي والعمل الدعائي. وخلفيته العائلية كابن تاجر ناجح جعلته لا يجد حرجا أبدا في إدارة أعماله واستثمار أمواله، التي أصبحت أموال الثورة الفلسطينية، بشكل محترف وذكي جنبا إلي جنب مع قيادة الكفاح المسلح والعمل الدبلوماسي. وهي من النقاط التي حاول منافسوه اليساريون في الثورة الفلسطينية التركيز عليها لإضعافه أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي. لكن أبو عمار قلب المعادلة ونجح بهذه الأموال في تأسيس مؤسسات الثورة الفلسطينية التي أثبتت نجاعتها وكانت نواة حقيقية لأي دولة فلسطينية قادمة. وحقيقة تبدو شخصية أبو عمار المثيرة لكثير من التساؤلات محل حيرة لبعض المتتبعين لمسيرته. فالرجل يبدو في بعض الأحيان وكأنه رجل أعمال كبير وناجح. وتقول بعض التقارير المنشورة إن أمواله طائلة، وإن استثماراته في جميع أرجاء العالم كبيرة وبخاصة في أوروبا. هذه النقطة الحساسة أثارت انتباه جهاز المخابرات الصهيوني (الموساد) الذي أراد استغلالها لتحطيم صورة ياسر عرفات لدي الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي. يعترف عميل الموساد الإسرائيلي فيكتور أوستروفسكي في كتابه (الموساد: عميل الأجهزة السرية الإسرائيلية يتحدث) الذي أثار ضجة كبيرة عند صدوره باللغة الإنجليزية في أمريكا عام 1990، بمحاولة الموساد تشويه ياسر عرفات فيقول (صفحة 232، الطبعة الفرنسية) (لقد استخدم الموساد ضد بعض القادة العرب تهمة العيش الرغيد والمرفه الذي يعيشونه منتفعين من النظام القائم. غير أن الأمر مع ياسر عرفات يختلف، فهو دائم الالتصاق بشعبه يعيش معه بكل تواضع. وعند حصار بيروت، كان بإمكانه أكثر من مرة الهرب والنفاذ بجلده لكنه لم يكن يفعل ذلك إلا بعد إبعاد الفلسطينيين الآخرين عن الخطر. فالموساد لا يستطيع إذن اتهامه بكونه لا يفكر إلا في مصالحه الخاصة). هذه الشهادة الموثقة، يعترف فيها الموساد بعجزه التام عن تشويه صورة الزعيم الفلسطيني.



تأسيس (فتح)



وفي الكويت أيضا، نشط الشاب عرفات مع خليل الوزير في تجميع الفلسطينيين والربط بينهم، وكانت السلطات الكويتية تغض النظر عن أنشطتهم رغم كونها ما زالت تحت الاحتلال البريطاني. كما وصلت هذه النواة الأولي إلي نتيجة ستكون محددة لمسار الثورة الفلسطينية وهي أن لا حل من دون كفاح مسلح. ومن ثمة يجب إذن تركيز كل الجهد علي تنظيم المقاومة العسكرية حيث حددت أهدافها الاستراتيجية: أولا تذكير العالم بمأساة فلسطين وأن هناك أرضا اغتصبت بدون وجه حق وشعبا تم تشريده ظلما في الخارج أو تم اضطهاده قهرا في الداخل. ثانيا، تأكيد هوية فلسطينية مستقلة عن غيرها من الهويات العربية والإسلامية. ثالثا، حق هذا الشعب في وطن ودولة خاصة به. والغريب في الأمر أن عرفات ورفاقه كانوا يمثلون أقلية في هذا المشهد. فأغلب الفلسطينيين سلموا أمرهم لحركة القومية العربية الصاعدة في ذلك الوقت بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. حيث كانت الآمال معقودة عليها في تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية. ولم ير أغلب الفلسطينيين ضرورة لتشكيل تنظيم مستقل عن هذه الحركة أو مواز لها. وحقيقة، وكلت أغلب الجماهير الفلسطينية والعربية في هذه المرحلة مسؤولية تحرير فلسطين إلي عبد الناصر.



تأسيس الخلية الأولي



وذات مساء، وفي منزل الشاب المناضل ياسر عرفات اجتمع خمسة شبان وقرروا تأسيس الخلية الأولي لحركة (فتح) التي اعتمدت السرية أسلوبا والكفاح المسلح منهجا وتحرير فلسطين غاية. لم يكن جميعهم مستعدا نفسيا ولا جسديا لتحمل هذا العبء الثقيل. فليسوا جميعا أبا عمار. ففي اليوم الموالي قدم عضو استقالته لعدم قدرته علي تحمل ضغوط الحياة الجديدة. أما العضوان الآخران فقد استقالا بعد بضع سنين. وأحدهما يعمل اليوم كأستاذ رياضيات في الكويت والثاني يمتلك محلا تجاريا في نفس البلد. لم تحافظ خلية (فتح) الأولي إلا علي اثنين فقط من أعضائها وهما ياسر عرفات ورفيق دربه خليل الوزير.



صحيفة (فلسطيننا)



اعتقد عرفات مبكرا، وكان اعتقاده صحيحا، في ضرورة إسماع صوت فلسطين إلي العرب ثم العالم عبر الصحافة. إن كل حركات التحرر الكبري في العالم وكذلك الثورات بدأت دائما بصحيفة وبمجموعة مقالات متحمسة. فالصحيفة مثلت دوما نقطة الانطلاق لاندلاع ثورة. وهو ما فعله الشاب عرفات حينما وظف أرباحه التي حصل عليها من مشروعه التجاري في إنشاء جريدة سماها (فلسطيننا). وصدر العدد الأول في شهر شباط (فبراير) عام 1959. وكانت افتتاحياتها توقع باسم (فتح)، واعتقد بعض القراء أن هذا الاسم هو اسم رجل يشغل منصب رئيس تحرير الصحيفة أو مديرها. فكان بعضهم يبعث برسائله (إلي السيد المحترم فتح...). وكانت الصحيفة تطبع في بيروت، لكنها تحرر في الكويت، حيث انشغل عرفات بكتابة المقالات أو جمعها في حين انشغل خليل الوزير بتجميع الصور. وركزت (فلسطيننا) توزيعها علي المخيمات الفلسطينية في سوريا. وكانت الصحيفة مصدر خطر لمن يوزعها أو لمن يقرؤها. وكان خليل الوزير يخاطر بحياته نفسها كل مرة يعبر الحدود اللبنانية السورية بسيارة مليئة بنسخ (فلسطيننا). سيستفيد أبو عمار لاحقا وباستمرار من هذه التجربة، حيث سيركز علي الدعاية الإعلامية للقضية الفلسطينية بشكل عام وعلي موهبته الفذة بشكل خاص في الوقوف أمام عدسات الكاميرات العالمية. سيصبح الإعلام عنده سلاحاً فعالاً لا يقل أهمية عن سلاح المقاتلين إن لم يفقه في بعض الأحيان.



نجاح التجربة



لقد نجحت التجربة وجاءت ثمارها بسرعة. فقد اعتقدت مجموعات شباب فلسطينية كثيرة أن حركة (فتح) هي تنظيم قوي بعدد رجاله وبميزانيته الكبيرة وهو ما يفسر حسب رأيهم قدرته علي إصدار منتظم لصحيفة وتوزيعها بشكل جيد. وبدأت هذه المجموعات في الاتصال بعرفات وخليل الوزير حتي تلعب دورها في عملية الكفاح من أجل تحرير فلسطين. وقد توصلت عبقرية خليل الوزير إلي ضرورة تنظيم هؤلاء الشباب بأسلوب غير كلاسيكي هرمي وإنما عبر خلايا صغيرة مستقلة الواحدة عن الأخري وكل خلية مسؤولة عن تدبير حالها من ناحية التمويل أو انتداب مزيد من المناضلين..كل ذلك تفاديا لأجهزة المخابرات العربية التي انتبهت مبكرا للنشاط الفلسطيني محاولة اختراقه أو تعطيله أو احتوائه. هذا الأسلوب التنظيمي اتبعته (فتح) إلي يومنا هذا وقد أثبت نجاعته أثناء الانتفاضتين الأولي والثانية.

ولمزيد من السرية التي يجب أن تحيط بقادة ومناضلي (فتح) تم استخدام الألقاب العربية التقليدية التي يسمي الرجل فيها باسم ولده البكر. فخليل الوزير أصبح معروفا باسم أبو جهاد، وصلاح خلف اشتهر باسم أبو إياد، وخالد الحسن أصبح أبو سعيد وفاروق القدومي صار أبو اللطف..أما عرفات الذي قال إنه تزوج فلسطين فقد اختار اسم أبو عمار تيمناً بعمار الرجل الذي ناصر النبي محمد صلي الله عليه وسلم وكان ضعيفا وتحمل في سبيل نصرته الأهوال والعذاب الكثير..



صراعات (فتح الداخلية)



حركة (فتح) ليست نشازا بين التنظيمات العربية أو حتي العالمية المختلفة حينما يتعلق الأمر بالصراعات الداخلية. فقد اخترقت (فتح) تيارات وأجنحة وحدثت فيها انشقاقات واندلعت فيها معارك تجاوزت في بعض الأحيان مجرد الصراخ بصوت عال إلي استخدام السلاح وحتي المدافع بين رفاق الدرب الواحد. وكان علي أبي عمار دائما أن يخرج من هذه المعارك إما منتصرا أو منسحبا بأقل ما يمكن من الخسائر.

فهذا التنظيم الصغير الذي ضم في يومه الأول خمسة مناضلين أصبح بعد سنوات يضم عشرات الآلاف. وكان لا بد لحركة (فتح) أن تواكب هذا التغيير وأن تصبح تنظيما مؤسساتيا وديمقراطيا يمكنه الاستجابة لتحديات جديدة أكثر طموحا ولتعقيدات كبيرة شهدتها الساحة العربية في سنوات الستينيات. ولكي يتم ذلك تم تأسيس (اللجنة المركزية) التي عقدت مؤتمرها في شهر (شباط) فبراير عام 1963. وقد برز منذ بداية الأشغال تيار جديد بداخلها شكّله الوافدون الجدد. هؤلاء الوافدون الجدد جاؤوا خاصة من الكويت ويتميزون بمستوي تعليمهم الجيد إضافة إلي ترفهم المادي وكان ممثلهم الأول رجل اسمه خالد الحسن.

ولد خالد الحسن في مدينة حيفا عام 1928، عام تأسيس الإخوان المسلمين لحركتهم في مدينة الإسماعيلية في مصر. وهو ابن لقاض شرعي محترم. وقد هرب عام 1928 إلي إفريقيا بمساعدة البريطانيين وذلك علي إثر احتلال اليهود للمدينة. وانتقل فيما بعد إلي المشرق العربي محاولا تنظيم المقاومة الفلسطينية في سينا في مصر أو في دمشق عاصمة سوريا. لكن الأمر انتهي به إلي الكويت حيث وجد المال وكثير من الكوادر الفلسطينية التي سبقته إلي هناك. وقد حاول تأسيس حزب سياسي فلسطيني لكنه التقي بعرفات فتغيرت برامجه وانضم إلي حركة (فتح).



انقسام داخل القيادة المركزية



أصبحت القيادة المركزية موزعة الآن علي عشرة أعضاء بمن فيهم ياسر عرفات صاحب الشخصية القوية ذات الإشعاع الكاريزمي. ولكن خالد الحسن يريد الحد من نفوذ هذه الشخصية ملتجئا إلي شعار وجوب الديمقراطية داخل التنظيم، إلا أن أخطر شيء في أطروحة هذا التيار الجديد الذي يقوده خالد الحسن هو معاداته للكفاح المسلح واختياره فقط للعمل السياسي. ودافع الرجل عن رأيه هذا لاحقا (كنا نعتقد أن الوقت لم يحن بعد لاندلاع العمل العسكري. حيث ساد الاعتقاد أن استفزاز إسرائيل سيولد رد فعلها العنيف. والأنظمة العربية لم تكن مستعدة للحرب. فكنا سنقع حتما بين المطرقة والسندان.. وكان رأينا أن نمر أولا بمرحلة توسع سياسي، وهذا يعني تنسيق حركتنا مع بقية العرب).

رأي عرفات

أما عرفات فكان رأيه معاكسا تماما. يجب القتال حتي تثبت الهوية الفلسطينية محليا وعربيا ودوليا من جهة وحتي تثار عزيمة العرب من جهة أخري. فلا يجب ترك الأنظمة العربية غارقة في وضعية لا سلم ولا حرب مع إسرائيل.. لكن الرجل وجد نفسه ممثلا للأقلية داخل اللجنة المركزية. ووجد أن القيادة الجماعية لـ(فتح) ستكون عبئا عليها وليست سندا لها. فكان عليه أن يناور يمينا ويسارا مع رفيقه المخلص أبي جهاد حتي يتمكن من تحقيق غايته في اندلاع الثورة المسلحة. وكانت خطتهما ذكية حيث أقر عزمهما علي تشريك هاني الحسن، الأخ الأصغر لخالد الحسن في تفجير الثورة المسلحة. لقد تم اختيارهما علي هذا الشاب المتحمس لعدة أسباب فهو أولا أخ خالد الحسن وثانيا موهبته القيادية والتنظيمية حيث نجح في تجميع وتنظيم 68 ألف طالب وعامل فلسطيني مهاجر في ألمانيا الفدرالية (الغربية آنذاك). قام خليل الوزير بدعوة هاني الحسن إلي مكتب فلسطين في الجزائر وشرحا له أسباب خلافهما مع أخيه وقال له عرفات "هاني، إننا في حاجة إلي رفاقك الطلاب، فلنجمع مقاتليك المتطوعين مع فدائيينا". وأجابه الشاب قائلا "موافق، ولكنهم سيذهبون أيضا للقتال في الأردن! أنت تعرف أن تنظيمي يطالب بتحرير الأردن". لكن أبو عمار أجابه بحنكته المعهودة حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأنظمة العربية "كلا، كلا، أفعل كل ما تشاء، لكنني لا استطيع أن أتصور للحظة واحدة مقاتلة الملك حسين". ونجح خليل الوزير في اليوم الموالي في إقناع هاني الحسن بأطروحة عرفات واهما إياه بقوة (فتح) وقدراتها العسكرية حتي أنه حدثه عن امتلاكها لطائرات هيلوكبتر.

كان ذلك انتصاراً سياسياً حقيقياً لرفيقي الدرب أبو جهاد وأبو عمار. وعلي الرغم من أنهما استخدما كثيرا من المناورات وفي بعض الأحيان إيهام الآخرين بحقيقة قوتهم مبالغين فيها عشرات الأضعاف... إلا أنهما نجحا في استعادة المبادرة وتغيير موازين القوي في حركة (فتح) معتمدين في خطواتهما علي قوي ثورية أخري أكثر حيوية واستعدادا للكفاح المسلح. لقد وجدوا ضالتهم لدي الشباب أساساً. من الطلبة الفلسطينيين المنتشرين في جامعات العالم علي كافة المعمورة من جهة والذين سيشكلون مستقبلا الكوادر المتعلمة للثورة، وفي شباب المخيمات الذي يعاني من الفقر والحرمان من جهة أخري وهم من سيشكل القوي الفدائية الضاربة للثورة. هذه هي مصادر الثورة الفلسطينية التي لا تنضب.



الثورة أم الدولة



الثورة ليست كالدولة. فالأولي تحمل مُثلا ومبادئ عليا قد توصل معتنقها إلي الموت في سبيلها. أما الثانية فتعتمد علي العقلانية والحسابات وموازين القوي. فدولة مصر مثلا بقيادة جمال عبد الناصر كانت كثيرا ما تكون مضطرة للخضوع إلي منطق الدولة وعلاقاتها بالقوي الإقليمية وبالقوي الكبري، حتي إن كان زعيمها يتمتع بكاريزما حقيقية ويعتمد في خطابه علي أيديولوجيا قومية عربية وتقدمية مؤثرة في الجماهير.. فإنه في نهاية المطاف لا يستطيع العمل كثيرا خارج الأطر التقليدية للدولة. أما الثانية، أي الثورة فهي بطبعها رومانسية حالمة لأنها رفضت أصلا النظام القديم وارتبطت بما يجب أن يكون لا بما هو كائن.. فلم يعد يهمها الربح والخسارة بحسابات المنطق المادي الضيق وإنما تتطلع إلي أفق إنسانية أرحب حيث المثل العليا والمبادئ الخالدة. أبو عمار فهم هذه المعادلة. وأدرك حدود ما يمكن أن يقدمه الرئيس المصري في هذه المرحلة علي الرغم من احترامه الشديد له. فبحث عن مساعدة ثورة. وكانت الجزائر في استقباله عام 1962، عام استقلالها. فرجال جبهة التحرير الوطني كما رجال جيش التحرير الوطني كانوا مستعدين للعطاء بلا حساب. وتجربتهم في حرب التحرير الوطني أصبحت نموذجا عالميا تدرسه الشعوب التي ما زالت تعاني الاستعمار. باختصار، كانت الجزائر عام 1962 (مأوي الثوار)، إليها يتجه كل من يريد الانعتاق من نير الاستعمار والاحتلال.



الجزائر و(فتح)



سبق لأبي عمار الالتقاء مرات كثيرة بقادة الثورة الجزائرية في عواصم ومدن عربية مختلفة حيث نسج علاقات صداقة واحترام متبادل. وفي إحدي المرات التقي عرفات بأحمد بن بيلا بعد أن أطلق سراحه من السجن الفرنسي وتحادث معه في الشأن الفلسطيني ووعده قائلا "عندما تحصل الجزائر علي حريتها واستقلالها، لن تنسي أبدا إخوانها الفلسطينيين المضطهدين". وفي 3 تموز (يوليو) عام 1962، اجتمع مناضلون كثيرون من جميع أنحاء العالم في ساحة الاستقلال في الجزائر العاصمة ليحتفلوا بالانتصار.. استغل عرفات الفرصة وذكّر بن بيلا بوعده الذي رد عليه (أخي ياسر لقد وعدناكم وسننجز ما وعدنا به، لنلتق في الأيام القادمة ولنتحادث في ما تريدونه بالضبط من دعم لثورتكم).

وبعد ستة أشهر، أنشأت حركة (فتح) مكتبها في الجزائر تحت اسم مكتب فلسطين وكلف أبو جهاد بإدارته وكان اسمه الحركي علال بن عامر. وعلي الرغم من تدخل السلطات المصرية لدي الجزائر لغلق المكتب، فإن بن بيلا أمر باستمراره. ونجحت (فتح) في تأسيس أول قاعدة دبلوماسية في العالم يمكنها من خلالها إجراء عمليات الاتصال بالدول والحكومات والمنظمات العالمية من دون خوف من المخابرات العربية ولا من الأجهزة العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني. والأكثر من ذلك، أعطاهم وجودهم في الجزائر وزنا كبيرا أخذوه من مصداقية الثورة الجزائرية وإشعاعها.



دعم الصين



ففي عام 1964، تمكنت سفارة الجزائر في بكين من إقناع السلطات الصينية بضرورة استضافة ياسر عرفات وخليل الوزير. وفي الصين، كانت محادثاتهما صعبة مع مضيفيهما والذين ينتمون إلي عقيدة قتالية تعتمد علي حرب العصابات حيث قالوا لهما (إن الثورة لا تنجح إلا إذا تبنتها الجماهير. وأنتم ليس لكم أية قواعد في الأراضي المحتلة ومن ثمة فإن معركتكم خاسرة أصلا).. وبعد إلحاح ومناقشات عسيرة وعدهم الصينيون بإمدادهم بالأسلحة ولكن بشرط اندلاع الكفاح المسلح أولا وبوسائلهم الذاتية.

وحينما انشق محمد خيضر الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني وهرب إلي مدريد انفرد بأموال جبهة التحرير الوطني المودعة في حساب خاص في سويسرا وقال إنه لن يعيدها إلي الجزائر وإنما سيعطيها للثورة الفلسطينية دعما لحربها ضد الاحتلال الصهيوني. لكن بعد اغتياله من قبل المخابرات العسكرية الجزائرية في مدريد بأمر من هواري بومدين، استعادت الجزائر أموالها عن طريق أرملته.

وفي عام 1965، أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في الإسكندرية، كان الفلسطينيون في استقبال الرئيس أحمد بن بيلا إلي جانب جمال عبد الناصر حيث هتفت بنات فلسطينيات (بن بيلا يا ثائر، فلسطين بعد الجزائر).



مقارنة بين (الجبهة) و(فتح)

وحقيقة يعتبر إنجاز دراسة أو دراسات مقارنة بين نشأة جبهة التحرير الوطني الجزائرية وحركة التحرير الفلسطيني (فتح) مسألة هامة للمؤرخين وعلماء السياسة. فالأولي تشكلت في الجبال وبدأت بالرصاص رافعة شعارا مركزيا قاد كل مراحل الكفاح المسلح وهو: (الحرية لا تعطي وإنما تنتزع) (La libertژ ne se donne pas mais s'arrache). كما أن جبهة التحرير الوطني بدأت كفاحها المسلح من داخل الأراضي الجزائرية المحتلة من قبل الاستعمار الفرنسي وليس من خارجه. أما حركة (فتح) فقد بدأت بصحيفة (فلسطيننا)، مركزة في البداية علي الدعاية الإعلامية والسياسية. كما أنها بدأت من بلد عربي بعيد جغرافياً عن الأراضي المحتلة وليس من الداخل. إضافة إلي أن اختيار الكفاح المسلح أسلوبا وحيدا وأساسيا في عملية التحرير الوطني لم يتأكد بعد لدي كل النخب التي شكلت الحركة.

نقطة أخري تستحق المقارنة وهي مدي تسامح الحركتين في قبول التعايش مع حركات وتنظيمات وطنية أخري تتفق معها علي الهدف الكبير نفسه أي التحرير والاستقلال. إننا نلاحظ قبولا كبيرا من حركة (فتح) للتعايش والتعاون مع الفصائل الفلسطينية الأخري وصل بهم إلي حد الالتقاء التنظيمي في مؤسسة أشمل هي منظمة التحرير الفلسطيني. وذلك علي عكس جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي ألزمت كل التنظيمات الوطنية السابقة الانضمام إلي الجبهة كأفراد وليس كفصائل أو حل نفسها. ومن لم تكن تقبل هذا الاختيار مثل حركة مصالي الحاج فقد تم إخضاعها بقوة السلاح.

لكن من المؤكد أن الطبيعة المتمثلة في الجبال الوعرة والغابات الكثيفة قد ساعدت كثيرا الثوار الجزائريين في سرعة اختيارهم للكفاح المسلح وتفجير حرب العصابات الناجحة. في حين أن الفلسطينيين لم تساعدهم الطبيعة والتضاريس، فحربهم لن تكون إلا حرب شوارع وحرب مدن. وهو ما عاشوه طيلة تجاربهم إلي يومنا هذا.

في كل الأحوال، من الممكن القول إن الثورة الفلسطينية الناشئة وجدت في الدولة الجزائرية الفتية مصدرا لا ينضب من الدعم المادي والمعنوي ساعدها علي تصليب عودها وعلي التمكن من ربط شبكة علاقات واسعة مع الدول الاشتراكية، وعلي رأسها الاتحاد السوفييتي، إلي جانب الصين ومنظومة دول عدم الانحياز.



جريدة (الزمان) العدد 1238 التاريخ 2002 - 6 - 19






View tariqasrawi's Full Portfolio