إرهاصات غريبة ومشتهاة
1
كانت الثانية صباحا ًحين أعلن الهاتف وجوده قرب رأسي ، وكنت مرهقا جدا و الرطوبة كانت عالية ، لم استطع النوم في تلك الليلة ، كنت حقيقة أنتظر ذلك الاتصال . . بعيدا عن المبالغة ، كنت أدرك من اللحظة الأولى أنها تملك جرأة لا أمتلكها وكنت أدرك أيضا أنها ستتصل في تلك الليلة ، لكن الذي لم أدركه هو لماذا لم أستطع رفع سماعة الهاتف ، كيف خارت قواي جميعها ولم استطع إجابة الهاتف ! هذا يحملني إلى شيء أخر في الزاوية المقابلة هو أنني فعلا كنت اشتهي هذا الاتصال ، وكنت انتظره لست ادري لماذا وكيف ، لكن الحقيقة تقال هنا بعيدا عن مرأى الجميع وفي حبر على ورق أنني كنت أريد لحظة كهذه . . .أخذتني الحيرة ، فوفق أبجدياتي الذاتية ستقف كل العوامل الفاصلة بيننا في وجهي وستكون كفن هذه العلاقة الخارجة من رحم حاجة كلينا لكلينا فلا كلانا يرى في الآخر نموذجه الأزلي ونصفه المفقود بل لأننا أدركنا منذ البداية أننا متشابهين في ذات الألم وكل منا بحاجة – ولو لفترة مؤقتة – للآخر يضمده ويشاركه حزننا المشترك المختلف الأسباب .. .
قالوا قديما " من لا مبدأ له لا نبض له " ومن هنا دوما سمعت نبضي وكلما سمعته كلما تشبثت بمبادئي أكثر . . .
يقول شخص يسكنني قد أعجبتك ؟ فأقول نعم . .
ويقول لي آخر هل حقا كنت بانتظار ان يهل صوتها عليك فتحملك من هذيانك وأن تكتشف على يديها معنى مختلف للطبيعة ؟ فأقول نعم .
فتسائل آخر لماذا لم تستمر ؟ فقلت : لان من لا مبدأ له لا نبض له واني احب الحياة !!!
كانت هذه فلسفة ، فأما الحقيقة هي إعجاب لا مثيل له وصلاة دءوبة على ان تعاد الكرة مرة أخرى كي تستغل بشكل افضل والحقيقة أيضا هي الخوف من خسارة ما ، والخوف من لقب قد ارتديه ولن يزول عني وهو الغدر ، فأعتذر . . .
لست ادري لماذا لم انم تلك الليلة والذي عجبت له اكثر من ذلك كيف استطاعت هي ان تنام !!
بالرغم من ذلك بقيت طوال اليوم التالي مشغول بالأمر ، وأحاول أن أتغلب على خوفي وأن أطمأن نفسي بأن الأمور ستبقى سرا حتى ينتهي أحدنا من الآخر فإما ان نبقى واما ان نفترق مع أول مفترق وحين وصلت شجاعتي حتى ذروتها وأخذت قراري بأن أكون المبادر وأن أتصل انا بها صرخ شخص ما يسكنني انتظر " من لا مبدأ له لا نبض له " فتظاهرت بانني لم اسمعه وحين اتصلت لم أجد أحد يجيب رنين هاتفي فعدت الى الليل أشكوه سوء الحال فهل تدركين يا من تقرأيني في هذه اللحظات ماذا حصل . . .
خرج من داخلي شخص يقهقه مستهزئا " لقد قلت لك من لا مبدأ له لا نبض له " فأصابني شعور النذالة دون أن امتلك حتى صوتك في تلك الليلة وبعدها كتبت ، وصرت بلا نبض ونذل . . .
2
يوم آخر وهي الآن الثانية صباحا . .ولم تزل تلك المعادلة المشتهاة تدور بخواطري تنقذني ماجدة الرومي بأيقونتها الجميلة
" أحتاج إليك . . . واهرب منك ،
وارحل بعدك من نفسي ..
في بحر يديك أفتش عنك فتحرق امواجك شمسي . .
والحب فرار . . والبعد قرار
وأنا لا امتلك ان اختار . . "
خطيرة هذه الكلمات بمدلولها ، أهي الصدفة التي أتت بماجدة الرومي كي تتلو عباراتها على مسامعي أم هي حاجتي الى مبررات كهذه العبارات هي التي دفعتني الى ان انتقي هذه الأغنية مع علمي المسبق بكلماتها . . . ! !
حقيقة لا ادري ولكن هل فعلا ان الحب فرار والبعد القرار وأنني لا املك ان اختيار بين المتناقضين ؟
هنا اقف طويلا ، كم ساكون سعيدا لو ان هاتفي يعلن زعيقه الان ، وكم سأتردد وأنا انظر إليه دون ان امتلك الجرأة على الإجابة !!
ملعونة هذه الفلسفيات التي تسكن الصداع في رأسي رويدا رويدا .. اذن لا بد من الانشغال بشيء آخر ، وسأسمي هذا الإحساس بالإرهاصات . . .
كنا صغيرين . . وكانت الحياة في بدايتها ولكنها لم تشأ لنا الاستمرار معها ، و منذ ذلك الوقت افترقنا ، وأيضا منذ ذلك الوقت وهي تزورني قبل النوم بقليل وتغني لي ذات الأغنية التي كانت على شفتيها منذ التقينا ، هناك في بدايات الحياة ، كانت تغني :-
" ما حدا بعبي مطرحك بقلبي شو القصة يا قلبي "
فبرغم السنوات الطويلة التي مرت وبرغم اننا لم نلتقي مرة واحدة ، الا انها لم تزل تزورني في كل ليلة وبذات الطقوس " ما حدا بعبي . . . . " ، حين أتأمل هذه الحكاية أشعر بأن طفولتي لم تمنحني منها إلا بداياتها وبدايتي لم تمنحني سوى حرف الطاء ، لأبدأ به اسمي وتكون النهاية . . .
لم تزل تأتي ، لم تغضب مني يوما ، ولم انس بحياتي أن انتظرها قبل نومي بل وأحيانا أباغتها أنا بالغناء " ما حدا بعبي . . " رغم كل النساء اللواتي انتظرتهن قبل نومي ونسيتهن فيما بعد لم انس يوما ان انتظر قدومها الي ! ! !
أتذكر قول الشاعر " نقل فؤادك حيث شئت من الهوى فما الحب إلا للحبيب الأول "
فأجد مبررا منطقيا لمجيئها و يسعدني شعوري بأنني امتلك الحق في انتظارها والخوف عليها اذ لم تأتي ، ولكن يفيق شخص
يسكنني ليقول بلهجة الواثق بأنها لم تكن يوما حبيبتي ، فأدخل في دوامة أخرى وأصرخ بملء صوتي ان لم تكوني يوما
حبيبتي فلماذا تأتين في كل ليلة . . . .
أقول حين أقول . .
انا الغياب
طارقٌ أبواب المنافي والضياع
هذا هو اسمي المنثور في المدى
خطفت من طفولته حرفه الأول
وضعت في دنيا الضباب
أبحث عن خطاي ولا أجد
في حروف اسمي الا العذاب
فليتضح النشيد في ضباب المرحلة
في ذاكرة فارس قد غاب
وأنا الغياب
بعثرت جسدي في القصيدة
طاءٌ
طلت طلتها الأخيرة
في طريقي ثم طارت !!
ألف
أردتني أسيرا في اكتئابي
أودت بآمالي وأوجاعي
واستسلمت !!
راء ٌ
رمتني بكاتم الصوت
لحظة النطق
وراحت في اللاشيء ذكراي
قاف ٌ
قالت لي امرأة
قم
وقاوم بسلاحك الفردي
ولا تنتظر العواصم
هذا هو اسمي الموزع في القصيدة
وفي أرض الغياب !
يا ليتك يا هذا الهاتف القذر تعلن عن وجودك وربما وجودي . . لو انــكَ ، فحتما سأجيب . . . !!!
3
في الدور الرابع ومتقابلا مع الشرق وجها لوجه ، أترقب هذا الإعجاز في تسلل الفجر بطيئا من خلف الجبال ، كأنه يناور الظلام الحالك بخطة حربية محكمة ، يدخل متسللا دون ان تشعر المدينة الغافية بأنها أصبحت على مرمى ساعة أخرى من دوران الكرة الأرضية كي يحكم احتلاله للسماء ويفرض علينا طقوسه اليومية بالسعي خلف الحياة . . .
أنشغل بمراقبة تسلل الشمس الدافئة رويدا رويدا فتملأني بالدفء والنشاط ، الآن فنجان قهوة وسيجارة ومن ثم قراءة صحف الصباح وتكتمل طقوس الصباح اليومية ، فنجان القهوة الصباحي ، له طقوس مختلفة عن أي فنجان آخر ، فهو الوحيد الذي أكون معنيا بصناعته ، أحاكيه بطريقتي الخاصة ولا أطيق ان يصنعه لي أحد ، أضع دلة القهوة التي تكفي لفنجان ونصف فوق اللهب البرتقالي الأزرق ، حتى يبدأ الماء ببعث فقاعاته الاولى ثم ألقمه ملعقة السكر القليلة فيلتهمها الماء الساخن بحرارة وشغف ، كانه يحتاجها تماما كما حاجتي لامرأة تتقن طهي الرجولة ، ثم يتلوى الماء أكثر فأبعد الدلة عن اللهب وملعقتين من القهوة المليئة بالهال ، وبلطف أقلبها فوق اللهب ، حتى يصبح وجه القهوة أشقر داكن ، اعتدت على طريقة القهوة هذه منذ سنوات طويلة ولم افسد متعتها يوما بالحديث مع أحد ، فجمالها أنها تأتي على مهل وعلى صمت فالكلام يفسد مذاق القهوة الأول و لا بد من ان تكون وحيدا لتشعر بمتعة عناق الكافيين مع النكوتين في السيجارة الاولى ، أتفكر للحظة بمصير هذه الشهوة المنتقاة حين تصادرها زوجتي ويكون من أسس جمالياتها ان تصنع لي فنجان القهوة الصباحي لنشربه معا وتفسده بالثرثرة النسائية الصباحية ، من سيقنعها بأنني سأحبها أكثر ان جعلتني انفرد مع فنجان القهوة وحدنا ، أيعقل بأن غيرتها ستدفعها لان تشك بوجود علاقة مشبوهة تربطني بفنجان القهوة الصباحي ! !
اشرب قهوتي وأبدأ في قراءة الصحف اليومية وعادة ما ابدأ بالمقالات المكتوبة في الصفحات الأخيرة ، يدهشني هذا التناقض في الصحيفة الرسمية لهذا الصباح ، مقال عمودي على يمين الصفحة لكاتب يبحث عن الرضا بقلم مقبوض الثمن مسبقا ، غريب هذا الكاتب كيف سمح لنفسه ان ينتزع مراقي وأن يتجاوز النقد الموضوعي والمنهجي والسياسي كي ينتقد
ذات الفرد معتقدا بأنه قدم للقارئ وجبة شهية ، ففي علم الكتابة يعتبر تشوها خلقيا أن أترك الموضوع والأفكار التي يحملها وانتقد طول المتحدث او قصره أو صوته فلو ان شخصا كان يتحدث عن العولمة وأثرها الإيجابي على وطننا العربي فلا بد من نقد الموضوع ذاته باستعمارية هذه الفكرة و أثرها السلبي على مجتمعاتنا واقتصادنا كون أننا سوق مستهلك ولسنا سوق تصنيع ، أما ان ابدأ نقدي بأنه كان الاولى بالشخص المتحدث أن يذهب ويجري عملية تجميلية لأنفه بدلا من ان يسمعنا محاضرة في العولمة ! هذا كثير ولا يطاق وان دل فإنه يدل على النعاس الذي تنعم به الرقابة في هذه الصحيفة من رئيس تحريرها حتى عامل المطبعة ، في العمود الآخر المقابل تماما لهذا المقال مقال آخر يتحدث عن ذات الموضوع ولكن بموضوعية جميلة وانتقاد مقبول ،سامحك الله أيها الكاتب كيف سمحت لنفسك بأن تنتزع مراقي في هذا الصباح الدافئ ،سامحك الله .
هي الثامنة صباحا الان ، يا الله ، أيجب علي ان ارتدي ملابسي وانخرط في دوامة هذا النهار الذي ينذر بمشقته منذ الآن ، لو أن شيء ما يحدث الان وتنتج عنه عطلة رسمية . . آخ لو أن . . .
4
كنت ثملا في ليلة ألامس ، حين ضغطت زر الرد الآلي للهاتف ، فهاجمني صوتها " ألو . . وينك مختفي هذا رقم هاتفي الجديد أنتظر صوتك حين تعود وتستمع لرسالتي . . " فضحكت من هذه الصدف السعيدة كأن مصلحة الهاتف قد تحالفت مع الشيطان كي تلقنني درسا لن أنساه بحياتي ، فأنا لسوء تدبيري وتقديري أعجز عن الذهاب لمصلحة الهاتف كي اسدد قيمة الفاتورة لشهرين او ثلاثة حتى تقوم مصلحة الهاتف بقطع الحرارة عني وتدفعني كي أذهب في اليوم التالي واسدد قيمة الفاتورة ولأدفع الرسوم اللعينة التي تدعى برسوم إعادة توصيل الخدمة ، حسنا سأدفعها غدا وأنا على يقين من أنه سوف تعاد الكرة في كل مرة ، وفي كل مرة أقول لنفسي هذه آخر مرة سألتزم بالوقت المحدد لسداد القيمة ، ولكن عبثاً..
لو أنك تتصلين الآن ، لماذا لا تتصلين ! ! وأي قوة في الأرض ستجعلك تصدقين أن في هذا اليوم بالذات منذ ثلاثة شهور حجبت عن هاتفي خدمة الحياة . . من سيقنعك بذلك . . من ؟ ! !
كان الأمل يحياني منذ ساعة بأنك عنيدة وسوف تتصلين مرة أخرى ولكنه بدأ بالتلاشي شيئا فشيئا . . وأنت على حق بذلك ، فهذه هي المرة الثالثة التي يكون فيها حظي أسوأ ما يكون .
5
كيف لي أن أبدد الضجر الذي بدأ يسكنني ؟
أطفئ النور كي ابعد زيادة ليست مرغوبة الآن ، أشعل سيجارة و أبدل ثيابي وأرخي جسدي فوق سريري الكهل ، رائحة رطوبة خفيفة ومعتقة تفوح في المكان ، غرفتي الصغيرة فيها عصارة أفكاري الجنونية والثورية و النسائية والعبثية وكل شيء أصابني به هوس منذ ست سنوات ، كم احتويتي جنوني وجنون الرفاق أيتها الجدران الأربعة ، كان بعض الأصدقاء يشيرون إليها - بالوكر – بدلا من المنزل او البيت ، تمتد على الحائط المقابل للسرير تماما مكتبة صغيرة ، فيها من كل قطر أغنية " أعمال جبران خليل جبران الكاملة ثم محمود درويش ثم غسان كنفاني ثم أمل دنقل ثم فكتور مارشيتي فغادة السمان . . . " كم فكرت بأن أضع ستارة على واجهة المكتبة كي اخفي ما بها من كتب ومقالات وقصص ومجلات ، كنت مقتنعا بهذه الفكرة عندما قرأت مرة فلسفة تقول " لا تجعل ضيفك ينظر في صيدلية بيتك أو مكتبتك فهو بذلك يعرف ما بك من مرض و يستطيع أن يعرف أبعاد فكرك بمجرد النظر الى مكتبتك " ولكن الذي دفعني الى ان أتخلى عن فكرة الستارة وأن أضع أبواب بأقفال للمكتبة ما قاله فيلسوف إيطالي بأنه غبي من يعير كتابا وأغبى منه من يرده وكم عانيت من هذه الظاهرة . . ولكن بعيدا عن كل هذا التشتت الذهني الذي أمارسه كي اهرب من قرار يجب أن أتخذه . . لو أن هذا الهاتف اللعين ينتشلني برنينه . . . لو أنه . . .
6
أخذت قراري أخيرا بأن اطرد هذه الأفكار التي تطاردني كالأشباح والتي أسميتها " بالإرهاصات " وسأنتهج الأسلوب التقليدي في معالجة ما يستعصي على الذهن من قرارات هكذا كان يفعل بوتييه هذا المفكر الفرنسي الذي وضع بهذه الطريقة معظم الأساسيات في القوانين المدنية ، كان يكتب ما يواجهه من تناقضات في عمودين متوازيين ثم يكتب تحت كل تناقض أسبابه ودوافعه للتمسك بهذا التناقض ويعمل من العموديين ثقلا ما كأنها كفتي ميزان فالتي ترجح من الكفتين يتبعها دون تردد وبتجريد كامل من كل رغباته وشهواته وأمانيه ، إذن سأرسم عمودين متوازيين وسأتبع النتيجة دون تردد . . .
يا من تقرأيني في هذه اللحظات ، كيف استطعت أن تقتحمي سكوني هكذا ! ! ألهذا الحد كانت عيوني فاضحة ، لو تدرين ما مدى الإرباك الذي وضعت فيه ، و مقدار الألم الذي أنا فيه ، لم أشعر يوما بأنني هزل الى هذا الحد ، فلماذا صنعت بي هكذا ، كنت سعيدا بقراءة عينيك ، وكنت أجد لذة لم أعشها يوما حين اقرأ ثورتك وتمردك من خلالهما ، وكم يحياني الآن ذل الندم . . إليك أكتب قراري ونتاج إرهاصات سكنتني لأشهر طويلة . . إليك أكتب ما أريد بجرأة عالية ليقيني بأنها لن تصل الى يديك فلو راودتني لحظة شك بأنها ستصلك ما تجرأت على أن أخط حرف فيها . . .
أريد . . وهذه كلمة عابرة في أبجدية احتياجي الجامح لوجودك خلف ظلي ! ! !
أنا منسحب من أمام عينيك بهدوء . . وهذا ما سيدمل جراح كرامتي التي أفقدتني تركيزي وجعلت من وجودي وجودا هزلا ، متسلقا ، خائنا ، وعذبتني على امتداد سنوات وعلى امتداد بريق عيونك وفرحهما ، وعلى امتداد ابتسامتك التي رفعتني إلى مرتبة الفرح حين أرسمها في مخيلتي قبل نومي . . .
ساكون هادئا وأنتزع حاجتي إليك بالغياب ، وستكفيني ذاكرة المكان والزمان كي اقتات منها وأتنفس منها شقاوتي وأمتص بها رحيق نساء المنفى الذي سأحياه بعيدا ، و لوحدي . . .
سأمزق هذه الصفحات بعد اكتمالها مباشرة لتعلمي بأن هواجسي تطرق شراييني وتحرقها على ما سيترك هذا الانسحاب على شفتيك من ابتسامة صفراء لن أغفر يوما لنفسي بانني الشخص الذي رسمها رغما عني . .
رغما عني . . كانت المرة الأولى التي سمعت بها هذه العبارة من صديق كان الأغلى ، حين لم يحتمل جسده النحيل عذاب التحقيق و لم يحتمل قلبه المرهف الشاعر عتمة الأقبية في سجون الاحتلال ، كان أمامه خيارين لا ثالث لهما ، إما أن يسجل اعترافا على رفاقه السبعة ويلحقهم به في المعتقل وإما أن يبقى تحت سطوة الاحتلال والتعذيب والأقبية حتى ينتزع منه الخيار الأول عنوة عنه ، أتعلمين ماذا فعل سجل اعترافه الوحيد ضدي أنا ، وما زاد الأمر عجبا وضحكا هستيريا هو أنني حقيقة لم أكن من ضمن رفاقه السبعة الذين نظموا الهجوم على دورية صهيونية ! ! !
كانت في تلك الليلة الرمضانية الساعة تقارب على الثالثة صباحا ، حين فقت على وخز مسدس ملصق بجبيني وما أن فتحت عيناي حتى وجدت تسع جنود يحيطون بسريري شاهرين بنادقهم بوجهي ، كنت ابن خمسة عشر عاما حينها وبعد سبعة عشرة يوما عشتها أنا وألم المفاصل والظهر والرأس نأكل يوميا معا ذات الرغيف اليابس المالح في غرفة التحقيق ، سبعة عشر يوما كان أمامي محقق لم أره قط كانت تفصلني عنه عصابة سوداء تلف عيوني ، كان معتقدا بأنه سيحصد مني اعترافا على المجموعة التي لا اعرف أفرادها حتى اليوم ، خارت قواي اكثر من مائة مرة ودخلت في غيبوبة لاكثر من مرة وربما في ذلك الوقت تمنيت لو أنني اعرف أحدا منهم كي أنجو بما بقي من جسدي وروحي التي أزهقت هي الأخرى لاكثر من مرة حينها قال لي المحقق " اسمع سأفعل بك مثلما فعلت بصديقك ( أ ) سأنتزع الاعتراف من بين شفتيك حتى لو قضيت تحت يدي حتى نهاية خدمتي ، صديقك احتمل شهرا قبل أن يسجل اعترافه ضدك وسأنتزع منك اعترافا لو بقيت لاشهر ورغما عنك " حينها عرفت لماذا سجل ( أ ) اعترافه ضدي ، وحينها أيضا شعرت بسعادة غامرة كأنني وجدت برهانا على أن ( أ ) يعلم جيدا قدر محبته وقربه مني ، كانت تلك اللكمات الوحيدة التي لم اشعر بألمها فقد كنت مشغولا باكتشافي الصبياني ، بعد سبعة عشر يوما سجلت اعترافي الوحيد ضد ( أ ) فجاءت إفادتي بأننا كنا وحيدين وبأنه لم يكن معنا أحد ، سجلت اعترافي ضد ( أ ) لمعرفتي بأنه قد صدر بحقه حكم المحكمة والإدانة وبأنه لن يحاكم على الفعل الواحد لاكثر من مرة .. . التقيت ب ( أ ) بعد مضي ثلاثة أشهر حينها قال لي وهو يبكي " رغما عني ، وليقيني بأن محبتي بقلبك ستغفر لي ، سجلت ضدك اعترافي " ضممته بحرارة وقضينا سوية ما تبقى لنا من فترة في المعتقل ولم أره من حينها ، منذ تسع سنوات . . .
رغما عني ، سأنسحب بهدوء ، كي أحافظ على بريقك المتأجج المتوهج ، سيكفيني أن أحتفظ بك كنجمة عالية ، أتابع بريقها وسحرها عن بعد دون أن أمتلك الحق بامتلاكها ، فكوني مشعة دوما ولا تحرميني من النظر لبريقك . . .
هلَّت على من حيث لا أدري . . .
هي أمنية ، و بضد الأماني يسير بي قدري . .
فسلام عليك كلما بزغ نجم . .
سلام عليك يا قمري . .
سأسكن ذاكرتي أنا . .
فلتكوني أنت الرسالات للبشر ِ . .
هذي حروفي الأخيرة فتذكريها . .
وان شئت انثريها يوما فوق قبري . . .
في الربع الأخير من هذا الليل
من عام 2003