إيمان أحمد : تحيـات ابن بطوطة

 

والدي الحبيب

سلامي

أفتقدك كثيرا.

كم من الزمن مر ولم نلتق؟ ربما الكثير.

 

 

لن أحسبه بعِدادِ السنوات، فذلك ليس الأفضل لنا.

كم وردةً صباحية بيننا لم تنشر عبيرها في البيت؟

وكم من الطيور لم نفتح له أبواب الشمس ليغني ويرتل لحنه الفجري؟

 

كم من المشاوير مشيتها منذ فراقنا؟

وهل تنام جيداً؟

............

 

 

تعلم بالتأكيد أنك دائما بروحي وخاطري. وتعلم أيضاً أني أحمل كل تلك الوسائد والأقلام والبِساطات الأنيقة. أحمل أيضاً تلك الكراسات، والأوراق الصغيرة التي أستخدمها كفواصل في ملفاتي القليلة؛ تلك الأوراق المقواة الملونة. بالأصفر والأبيض والزهري أحياناً. نعم هي! هي ذاتها التي كنت تحضرها معك من العمل!

 

لا أعلم إن كنت تحضر كل تلك الأشياء من العمل، أم أن حضورك من العمل هو الذي ارتبط بسلة الحاوي المليئة دائماً بما أحتاجه، وبكل دقة!

 

كيف كنت تعرف ما أحتاجه يا والدي؟

أمرك عجيب حقاً!!

 

 

حسنا!

لقد كثرت ملفاتي كثيراً. وتوالدت أوراقي. وازدادت مكتبتي. أصبحت تضم بعض المعارف المتنوعة في الطب والدين والمرأة وحقوق الإنسان. أقرأ قليلاً في الفلسفة والأدب والنجوم، كهواية. وأستمع إلي الموسيقي كثيراً، لتهدأ روحي.

 

الشِعر؟ هو دائي. وقد أصبحت أخاتله أيضاً.

لا تسلني لماذا!

كيف لروحي أن تحتمل أعباء الدنيا وثقلها دون أن تلفظه شِعراً؟! وكيف لنا أن نناجي أطفالا يموتون يومياً من الجوع في كل أصقاع العالم دونه.

 

بابا!

 

أنت تعلم أني مهمومة بأمور الدنيا الواسعة، ولا سبيل لي غير ذلك.

 

.................

 

بالمناسبة! هل تستمعون إلي الموسيقي هناك؟ وهل أحضر لك الراديو الذي كنت تحبه؟!

 

أراك الآن أكثر هدوءاً.

 

هل كنا مزعجين يا بابا؟!

 

حسناً. أنا أحب الهدوء، وأحب الصخب أحياناً.

الدنيا حولي الآن مليئة بالصخب، لكنها باردة! نعم، درجة الحرارة في هذا القطب –أقصد القطر- البارد قد تصل إلي ما تحت الصفر بأربعين درجةٍ مئوية... وفي أحيانٍ أخري ترتفع إلي الأربعين فوقه.

 

لكنها أيضاً باردة.

 

الناس يمشون في الشوارع.

 

الكثيرون يحدثون أنفسهم، أو هواتفهم النقالة. أو يحادثون من لا نراه.

 

بمدينتي الكثير من المشردين، وبالسودان مشردون أكثر!!

يقولون: هذا شأن "المدن الكبيرة"!

 

 

بابا! هل الخرطوم "مدينة كبيرة"؟ أم صغيرة!

 

..............

 

الناس بحياتي يجيئون ويذهبون. والدنيا أيضاً، تُغَني أحياناً، وتنشج أحيانا أخري.

 

وأنا.............

أترنمُ كثيراً.

 

تعلم جيداً بأني لو فقدت موسيقاي لاختل الكون من حولنا جميعاً.

 

فقط ادع الله والأشجار العتيقة أن تُبقِي علي موسيقي الكون بداخلي. وألا تفقد أقدامي موضعها. ولو فعلت، أن تعيدها بسرعة.

...............

 

حسناً. أذكر جيداً يوم أن أخبرتني بألا أتمثل الاختلال في مشيتي، وأنا أتوكأ علي ذلك البساط الذي لففته جيداً كاسطوانة. كان حديثك وقتها بأنه علي ألا أتصنع ذلك، وهل أتمناه؟

 

أجبتك بأني لا أتمناه! فقلت: إذاً لماذا؟

 

في هذا الشأن، لدي ما أقوله الآن.

هممممم

 

 

 

 

ربما كنت أقلد ابن بطوطة!

 

 

حتما تذكُر أني مثلت ابن بطوطة عندما كنت في السنة الثالثة من المدرسةِ الابتدائية.

كانت الأستاذة تعلمني أن أقلد عرجاً غير خفيف بإحدي قدميه.

 

يومها بكيت.

 

لا أعلم لماذا.

 

لكني بكيت.

 

كيف لي أن أتمثل العرج طوال صعودي على المسرح؟!

 ثم،

 

 

 

من الذي ألف ذلك الدور....

إن به بعض الغباء!

 

.....

 

ربما بكيت لأن ابن بطوطة كان مضطراً للعرج!

 

 

......

 

 

هل كان ابن بطوطة يفخر بعرج قدمه حينما قال: لو إنك سافرت في كلِ بلادٍ مسلمةٍ، علي وجه الأرض يا مولاي، لكان حدث لك ماحدث لي من العرج؟

 

هل كانوا يرغبون في تعليمنا أن بعض الخلل بساق الإنسان أو قدمه لا يجب أن يثنيه عن السفر؟

 

أم عن الحلم؟

 

أم تحقيق أحلامه؟

 

.......

 

 

علي كل حال، قد وصل الدرس.

 

لكني اكتشفت بأن المسألة أكبر من ذلك بكثير.

 

 

 

 

أن تصاب ببعض المشكلات الصحية لا يعني أنك ستكون بخير في جميع أنحاء العالم!

 

يا بابا، أطفال السودان يموتون بسوء التغذية، وأطفال الصين يموتون بالسمنة!

 

وفي أمريكا يموتون من أمراض القلب وارتفاع نسبة الكولسترول......

 

وفي السودان يموتون أيضاً بارتفاع ضغط الدم، وانخفاض إنسانية الحكومات المتتالية.

 

.......

 

الحاكم يتغذي علي أطفال السنونو،

 وينجب أشواكاً!

 

..................

 

مازلت أحب رائحة القهوة يا أبي

 

وعندما أصابني الحب للمرةِ الأولي، لم تكتشفه والدتي كما تفعل الأمهات.

يومها خاطبتني أن: (قلبِك وين)، حينما لم أحضر لك القهوة!

 

ارتبكتُ كثيراً ساعتها، وأظن أن لوني اصفر.

شعرت بألا جدوي من الاختباء،

 

وبذات الوقت تمنيت لو أجد كما هائلاً من أوراق الأشجار الخضراء لأندس خلفه.

 

..............

 

لن أحدثك عن خيباتي، فقد علمتني ألا أستسلم للفشل. فقط، يكفي أن أقول لك بأني أسير في خطواتي كما أردتُ لها أن تكون.  وسنتحاسب عندما أصل إلي المحطة الأولي.

 

ماهي؟

 

أنت تعرفها. وأنا أيضاً أعرفها.

 

جيد جداً، فلا داعي للشرح.

 

الآن أري ابتسامتك تلك، فشكرا لك عليها. وشكرا علي قبلاتك الحانية.

 

شكراً لأنك جعلت الدنيا كما خبرتها.

 

..............

 

لقد رأيت شاباً ينادي أبيه ب"ملاك الأزهار"!

ما رأيك بهذه التسمية؟

هل نستعيرها منه؟

 

حسناً سنخبره إذن.

 

نعم، هي تعجبني. تلك حقيقة.

 

ما هي "الحقائق" الأخري في الدنيا؟

الحقيقة الوحيدة أنك لم تعد موجوداً

 

ويكفي.

 

 

 

والواقع أني مازلت أعيش. وبخير. ما زلت كثيرة النشاط؛ ربما بصورة أقل.

 

 

ماما بخير.

والجميع يمشون في خطاهم كيفما اتفق.

 

الأطفال يذهبون إلي المدارس

والشمس تسألني عنك كل يوم.

 

 

حمدا لله أني ما عدت أعيش بنفس المنزل!

 

...............

 

 

في هذه المدينة، الزهور لا رائحة لها. أو رائحتها مؤقتة وفطيرة.

 

 

مسطحةٌ جداً!

 

 

...............

 

كان من المفروض أن أنجز هذه الكتابة في التاسع عشر من يونيو، فقد عودتني ألا أتكاسل، وألا أؤجل عمل اليوم إلي الغد. لكن يا بابا، هذه الكتابة صعبة!

 

 

سأعاود الكتابة لك مرةً أخري

لك سلامي، وتحيات ابن بطوطة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

View sudan's Full Portfolio