حوار مع مؤسس مدرسة الواحد التشكيلية





حــــاوره : عيسى الحلـــو

طبيعة الخطاب التشكيلي السوداني في البدايات؟

ـ كما هو معلوم يمثل السودان هذا البلد المترامي الاطراف بمواريثه الثقافية والعرقية وبدخوله لاكثر من مرة في مجال الفعل الحضاري تاريخياً، يمثل مستودعاً حضارياً ضخماً ظل لاحقاب طويلة على تماس مع ثقافات كبيرة كثقافات البحر المتوسط وثقافات آسيا والثقافات الافريقية لكن كما هو الشأن دائماً في الدورات الحضارية خفت النبض الحضاري وانقطع احياناً كثيرة.

فالحديث عن الفن التشكيلي بالذات لابد له ان يستحضر ازمنة قديمة متشابكة انجز فيها السودانيون مآثر كبيرة في ابتداع فن الكتابة مثلاً وصهر المعادن واقامة هذه الشواهد الحضارية الكبرى في شمال السودان من آثار في ممالك النوبة الاولى، حيث تؤكد بعض النظريات المعاصرة ان حضارة عظيمة كان مهدها وادي النيل الاوسط، ثم انحدرت هذه الانجازات المبكرة مع النيل الى الشمال، حيث اخذت دورة نضجها في مصر الفرعونية.

هذه المقدمة تجعلنا نفكر في وضعيات التفكير التشكيلي المعاصر في السودان الذي لم تخرج بداياته عن تجسدات بسيطة ارتبطت بفن الحقيبة في الغناء ويتجلى ذلك في وشائج ادبية واجتماعية يمثلها ما يعرف بفن «المقاهي» حيث المرأة مضجعة واسيرة حجليها، او هي في وضع «المشاط».. ملامح زينة لا تجرؤ على الدخول في اسئلة كبرى عن الانسان والوجود مثلاً.

وعندما نتأمل اعمالاً مثل هذه نكاد نسمع في خلفياتها اغانىّ لابي صلاح والامين برهان وسرور. كل ذلك بالرغم من الهزيمة الماحقة في كرري عندما دخل جيش الغزاة ورجل الدولة الخليفة عبد الله التعايشي آثر ذلك الحوار المؤلم وهو داخل قبة الامام المهدي عليه السلام والليل على الابواب وكبار القادة خارج الضريح يستعجلون للخروج في أدب جم وقد اقترب جيش الكفرة. قصدي من ذلك كأنما كان فن الحقيبة وفن المقاهي في التشكيل يمثلان انصرافاً عن دراما المشهد الوطني. وبالرغم من الذي يمكن ان نراه في هذه اللوحات من محاولات لتجسيد اوضاع المرأة وهي في «القرمصيص» وثقل الأساور والحجول فان الابعاد الثلاثية التي انجزها فنانو تلك الحقبة كانت ابعاداً وملامس لم تفلت من دائرة الحرج الجمالي والاجتماعي. وهكذا كانت حلقات من يتأملون تلك اللوحات وهم جلوس على مقاعد المقاهي المتناثرة في الخرطوم وود مدني وبعض الحواضر الأخرى يحلو لها ذلك والفنوغراف والعجوز يشنف الآذان «بالرميات» التي لا تنفك عن الطابق البوخة

نداه يهفهف وايده عاقباهو». تلك ملامح زينة وقطعاً ليست هي اصول جمالية، وظل الحال كذلك الى ان ظهرت دائرة ما يعرف بمدرسة الخرطوم. والتسمية جاءت من معلم جمايكي الجنسية كمعلم في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم في نهايات الخمسينات وهو الذي اطلق هذه التسمية على اعمال نفر من الفنانين السودانيين اشتركوا في بعض المفردات المتداولة في العمل التشكيلي آنذاك.. رموز وزخارف عربية اسلامية وافريقية. وبالرغم ان بعض هؤلاء الفنانين تلقى تدريبه الاكاديمي بانجلترا لكن عند عودتهم الى السودان حاولوا استدراج بعض المرائي والمفردات التشكيلية من الصناعات الشعبية وكتابات الأوقاف والمأثورات. لكن كانت آفتهم الأساسية انهم ولجوا هذا الباب دون جهد فكري يضمن لبدايات هذا النبض تطوراً جمالياً مسنوداً بالحقائق المعرفية اللازمة لانجاز فن معاصر في السودان يلتقي بالطموحات ذات الصلة بالسودان الذي وصفناه بالمستودع الحضاري الكبير.

بازاء هذا الانقطاع كان لابد من استعلان الفكرة الواحدية في التشكيل السوداني المعاصر، هذه الواحدية التي بغيرها لا يمكن انتظار فن تشكيلي بمنطقة الظاهر والباطن يكون جديراً بتأسيس خطاب عالمي النزعة، توفرت مكوناته عبر عصور طويلة والآن يواجه عالماً هو احوج ما يكون للواحدية في الفن. كان استعلان هذه الفكرة الواحدية في العام 1976م لأول مرة في معرضي التشكيلي باسم «لا إله إلا الله» وقد اقيم في الخرطوم. وقد جاء في ادبيات ذلك المعرض «كل عمل فني حاولته كان في سبيل تأكد هذا المنحى توحيد هذه الذات المنقسمة الى عقل واع وعقل باطن.. فالعمل الفني عندي هو استشفاف الوحدة السامية من خلال الاشكال والألوان... فالصدق ليس هو الصدق الفني كما يقولون، لكن هو الصدق الواحد الذي لا يتجزأ وفيه وحدة الفكر والقول والعمل «من حوار مع احمد عبد العال في جريدة الايام بتاريخ 25/11/1976م».

لتعميق هذه الاطروحة الجمالية الفكرية انجزت دراساتي للماجستير والدكتوراة في فرنسا بعنوان «المبادئ والاصول الجمالية في الاسلام». وعند عودتي للسودان في 1987م تشاور معي بعض الاخوة الذين التقيت معهم في حوارات حول الهوية التشكيلية في بداية السبعينات، وحقيقة كانت تلك حوارات تتعلق بفروع لا بأصول. وكانت همومهم عند عودتي تتعلق بمطالب مثل ارجاع التربية الفنية الى المدارس الاولية ومطالبة الدولة بتخفيض اسعار المواد الفنية ورفع الضرائب والجمارك لمستوردات الفنون وهكذا.

وهذه مطالب في جملتها مطالب نقابية فئوية، فطرحت عليهم فكرة الواحدية لكي يرتفع العمل الفني الى مناخ توحيدي اول محدداته ان يولد الفنان التوحيدي قبل انتظار العمل الفني التوحيدي. وعلى هذا قمت بوضع بيان مدرسة الواحد في العام 1987م مستنداً الى مستخلصات اطروحتي للدكتوراة.

وطورت هذه الاطروحة الواحدية في العديد من البحوث التي فاقت الخمسة.

وكان اول شعار مجسد لهذه الفكرة التوحيدية تم طرحه عام 1976م في معرض «لا اله الا الله» ثم تلاه شعار مهرجان الثقافة الثالث 1980م حيث تبدو في الشعار شجرة التوحيد يعلوها الرقم «1» وكما شرحته في ذلك الوقت يعني الخروج من منطقة الكثرة الى منطقة الواحدية، وتوالت من بعد ذلك اعمالي في التلوين والنحت والتصميم مؤكدة هذا المسعى التوحيدي.

ولك هذا الممفتتح «لابد من التأكيد على ان الفنان هو وحدة انسانية رائية ومستبصرة في الزمن الكلي الواحد. وما العمل الفني الا اثر من آثار هذه الوحدة الرائية المستبصرة، وحقيقة انه لا قيام لنا ولا قيام لما حولنا الا بقيوميه حكيم واحد وهو ما نراه ظاهراً تحتشد به الآفاق وحدة في كثرة وتنوع «حوار / جريدة الايام 14/11/1981م».

ماهو المدخل الى فكرة عالمية الواحدية لاننا نحتاج الى خطاب ثقافي وطني له بعده العالمي؟

ـ اعتقد ان عالم اليوم كما نراه عبر اطروحاته الفكرية ومبادرات مفكريه بجانب السعي المتواصل الى حضارة عالمية منسجمة، بالرغم من المآسي والمظالم ومحاولات الهيمنة، الا ان المراقب الصبور لا يرى لهذه المساعي ثمرة الا في حضارة عالمية يكون في قلبها التوحيد الذي يضمن كرامة الانسان ويفتح ابواباً للحوار بين بني البشر على اختلاف ثقافاتهم واديانهم والبرهان، انه بالرغم من التنوع في الاعراق وفي الألسن والامزجة والتراثات، قبل ظهور الاسلام فان الطابع التوحيدي الذي عرفته رقعة الشعوب الاسلامية اثبت ان العبقرية التوحيدية استطاعت ان تبدع ضميراً جمالياً في شعوب اختلفت مواريثها واسهاماتها الحضارية والثقافية قبل الاسلام زمانياً، هذا الضمير التوحيدي المنسجم يراه المتأمل للتجربة التاريخية للحضارة الاسلامية في اعمالها التشكيلية، وهو ضمير جمالي منسجم لا تغيبه الجغرافيا كيفما تباعدت مصادر الأعمال ولا يحجبه الزمان ايضاً كيفما تباعدت ازمنة ابدع تلك الأعمال.

هل تسمح مدرسة الواحد لمدارس اخرى مجاورة متحاورة حتى نستطيع تأسيس خطاب ثقافي وطني مستقل يجمع ما بين التنوع والتوحد في اطار السودان الواحد؟

ـ لقد ذكرت اجابة لهذا السؤال في بياني التأسيس لمدرسة الواحد، فأنا اعتبر الفن التشكيلي ضرباً من ضروب الفكر المرموز وان جاء مقيداً في خامات اللون والحجر والمعدن الى آخره، ومن هنا تطرح مدرسة الواحد ضرورة التحاور بين المبدعين المنجزين على اختلاف مدارسهم، فالابداع المتميز له القدرة على محاورة الآخر دون تصادم حتى في حالة عدم الاقناع حيث يبدو المشهد الكبير محتفياً بتفرد المتحاورين بما يمكن ان يصبح تنوعاً تنتظمه الوحدة الامر الذي لا يفتح مجالاً لصدام مدمر في بنية فكرية او في عمل فني.

كيف نؤسس لخطاب ثقافي سوداني مستقل الهوية؟

ـ من الواضح ان هويتنا السودانية الثقافية ذات ابعاد ثلاثة. هي العربية والاسلامية والافريقية. وفي رؤيتي هذه الأبعاد الثلاثة هي مخزون الطاقة لخطاب حضاري تحدث به العالم ولا يمكن ان تظل هذه الابعاد الثلاثة كجزئيات متنافرة، فعروبة شعب السودان ليست برابطة عرقية، انما هي انتماء نسيجه الدين واللغة والثقافة كما ان افريقية شعب السودان ليست برابطة عرقية، اذ تجمع هذه الافريقية في سعتها جميع شعوب القارة الافريقية على تعود اوطانهم واعراقهم ولغاتهم وثقافاتهم. والفنان صاحب الرؤية لو اعرض عن هذه الابعاد المتواشجة لا ينتج الا عمل فني قاصر قد يكون فيه من الذاتية والتلفيق ما فيه. اذاً الرؤية المحكمة محصلتها النهائية عمل فني محكم. ومن هنا ارى ان «الاستقلال» الابداعي والرؤيوي هو في تعميق خطوط هذا التلاقي بين العروبة والاسلام والافريقية. والعالم فيما ارى يحس بضرورة طابع جمالي ورؤوي جديد، كمثل هذا الذي نسعى اليه.. ومفردات هذا الطابع هو المشاركة في اعلاء قيم مؤكدة لثقافة عالمية تقوم على مبادئ الحرية والعدل والحوار بين الثقافات واحترام كرامة الانسانية والسيادة الوطنية لشعوب العالم

View sudan's Full Portfolio