حول الأدب السوداني : أحمد الشريف



--------------------------------------------------------------------------------





في نظرة سريعة الى خريطة الإبداع العربي سنجد أن الأدب السوداني لم يأخذ حظه من الانتشار بين القراء والنقاد, يستثنى من ذلك الطيب صالح ومحمد الفيتوري لكن الاسماء التي قبل وبعد هذين المبدعين لم تأخذ حقها حتى الآن.



الأسباب كثيرة لعل أهمها عدم وصول الكتاب السوداني الى القراء والنقاد وهذا يرجع لصعوبة نشر الكتاب السودانيين لأعمالهم, نظرا للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاضطرابات الكثيرة هناك وسبب ثان يعود الى كل من الكتاب السودانيين والقراء والنقاد العرب فقد تم الاكتفاء بالاسمين سالفي الذكر ولكن من ينظر الى خريطة الابداع السوداني ويتوقف عندها سيعثر على أسماء وأعمال لها وزن مثل: ابراهيم اسحاق, محمود مدني, عيسى الحلو, مختار عجوبة, علي المك, بشرى الفاضل, عبدالعزيز بركة ساكن.



ومن الشعراء هناك أسماء لافتة من المجذوب الى محمد أحمد عبدالحي حتى الجيل الجديد مثل عاطف خيري, وفي هذه الاطلالة سأتوقف عند أربعة كتاب من أجيال مختلفة على أمل أن تكون نافذة تظل مفتوحة على هذا الأدب المهم في ثقافتنا العربية.



<<أخبار البنت مياكايا>>



روح الماضي في الزمان الذي يأتي



إبراهيم اسحق, قاص فريد, واسم لفت الأنظار إليه منذ صدور انتاجه الأول, عام 1969,  <<حدث في القرية الخرطوم>> حتى آخر أعماله <<اخبار البنت مياكايا>>, <<عالم الرواية, محتشد, متشابك وشديد الايجاز. يرتكز على اللغة والتاريخ والحكايات الخرافية والخيال الذي يسعى لإقامة عوالم مدعومة بحكايات الاجداد ووصف أدق الأشياء في عالم الماضي البعيد. <<أخبار البنت مياكايا>>, رواية قصيرة, لكنها امتلأت بأحداث وشخصيات وحكايات الزمن الغابر, فكما أشار الكاتب في مقدمة الرواية, فإن هذه الرواية تستوحي تاريخا يسلك أحداثها مع القرن السادس عشر الميلادي. وجل مواقعها بالنيل الأبيض, من ملتقى النيلين حتى مشتبك السوباط وبحر العرب في النيل الاستوائي. ومثل كل الروايات المستوحاة من التاريخ; أو تلك التي اتخذت من الثقافات المغايرة لما يعهده القراء معرضا, مثلها كلها تحتاج من الروائي لأن يورد بعض الألفاظ في أصلها اللغوي المغاير للغة القراء. هذه الألفاظ قد تشتمل على أسماء بعض المواقع والألقاب والمناصب والمؤسسات وأسماء النسبة, الى جانب تعابير ثابتة في التعامل اليومي. وما هذه في هذا النوع من الرواية إلا أدوات لتقريب الشقة بين واقع القارئ والواقع الذي يطلع عليه. لهذا فقد ألحق الكاتب حواشي في نهاية الرواية; لكي يتمكن القراء من متابعة الرواية عندما تقابلهم كلمة أو لفظ غير مفهوم في المعرفة اللغوية العربية.



منذ أول فقرة في الرواية, نلحظ تشابك وتعدد الرواة والشخصيات, <<جليل يغالطني يا حازم, من الذي يعرف هذه الأعاجيب هنا غير عمر وعبدالقادر. يقول لي, ولا أجدني أرضى, أقول له يا جليل أقول لك حكاها لي رجل في محطة <<لواري>> على الرمال وراء <<ود عشانة>> تحت القمر والليل صاف وحله <<المساعد>> تكركر فوق اللهيب بحيكها لنا ذلك <<الحساني>> القادم من بادية <<الدويم>>..(ص9)



يمكن بسهولة في تلك الفقرة رصد الأماكن المتعددة والشخصيات الكثيرة وأيضا أسلوب ابراهيم اسحق, أسلوب موجز وغني يحتاج الى أكثر من قراءة كي يصل القارئ الى النبع الصافي الذي يغذي شرايين الرواية. شخصيات <<أخبار البنت مياكايا>> يقول الراوي عنهم, إنهم <<أبناء الطبيعة>> لذلك يتصارعون كالجواميس وبشراتهم تجمرت الى مثل أكباد الإبل ووجوههم عندما تشوه تصبح كالذي تمضغ في أحشائه الأفاعي, وهم حذرون ينسابون على تعاريج الشط كالثعابين, يتحركون عندما تموت الشمس ويهبط الظلام على الكون, يحيط بهم عواء الذئاب والثعالب والصقور التي تداوم على خطف الأرانب والقطى والجديان. عندما ترجع الشمس وتكشف أماكن الأنهر والبحار ومجاري الأودية وغابات السنط والجبال وجذوع الاشجار والبردى في المستنقعات وطين الماء الضحل, يمكثون في قطياتهم حتى <<يظلم الليل لمثل لون الغراب>> (ص63), حتى علاقة الحب بين <<مياكايا>> و<<غانم>> والتي كاد غانم أن يجن بسببها وقد فقد صديقه في النهاية من أجل هذه الجميلة الرشيقة والتي لم تظهر إلا بعد أن اسود الليل كالغراب الأسحم. علاقة الحب هذه تمت أيضا في الظلام, الرواية لا تمتلئ بالظلام والليل وحسب بل بالسحر والطلاسم والأرواح التي تسكن التماسيح والشمس والأشجار وتمرق وتطوف حول الأحياء وتذهب أحيانا الى الأجداد. هذه الرواية تعود بنا الى البدايات أو البدائية حسب التعبير الشائع, الراوي يتكلم عن الزمن الأول وأصل الشجرة الأول وأول الفجر والغابات البكر والصحارى الأم والقنص والصيد بالحراب والنبال والخناجر وانتفاء عديد من المعايير, <<ربما تذهب لتحرر أعرابيا هو صديقك من أسار السود فتقع بنفسك في أسار الأعاريب>> (ص31) حتى رحلة غانم وعون الله والموفي من أجل مياكايا والبحث عن جلود التماسيح والفهود والنمور وسن الفيل وجلد فرس البحر والمسك الذي في ابط التماسيح وريش النعام. هذه الرحلة انتهت بقتل الموفي ودفنه تحت شجرة كي تلازم روحه <<أرواحها>> المضيافة في الزمان الذي يأتي>>.(ص73) شخصيات الرواية وأحداثها المتشابكة وعالمها الذي يبدأ عندما تختفي الشمس دفعتني الى الوقوف عند بعض العلاقات الغريبة, كعلاقة إنسان الرواية بالشمس, علاقة تشبه في صراعها العلاقات الإنسانية, فالشمس تموت وهي لا تموت فقط بل تموت حسدا ولا تتخيل متع الانسان في خفايا الليل, فهي تحسده طورا  وتسخر منه طورا  ويمكن أن تشي به وعندما تجيء تترنح من غيبوبة الليل, يقول غانم, إنها مثل الأخ الغريب, لا تعلم متى تضاحكه ومتى تحذره, يسمع ناس <<عون الله>> بأنهم كانوا يحاربون الشمس أيام <<نيكانج>> البطل الملك المقدس الذي أسس للشلك مملكتهم ونظامهم الحالي هو وابنه داك الذي حكم من بعده واصبح له طرف من الطقوس, هذه العلاقة الصراعية مع الشمس لا تشبه, علاقة الانسان البدائي بالشمس عندما كان يشعر بالخوف وهي تغرب, اعتقادا منه, إنها ربما تختفي للأبد. ضمن العلاقات التي استوقفتني أيضا في الرواية علاقة الاشخاص أصحاب الثقافات والأجناس المختلفة ببعضهم <<غانم>> أحب <<مياكايا>> وهي تختلف عنه في الجنس واللسان, فهي وحيدة <<الرث>> في الاناث, والرث بكسر الراء... الملك الحاكم عند الشلك, لكن غانم من الح مر, لذلك قالت العجوز <<كوناتايا>>, انه لابد قد أصابها جنون العشق, مع ذلك فعلاقة الحب اكتملت, رغم الصراع والقتل واختلاف اللسان. ذلك التآلف بين الأجناس والثقافات المختلفة, كان نتيجة للحياة المتداخلة المشتركة بين البشر على تلك الرقعة الجغرافية, قبائل وسلالات كان لها شأن عظيم, <<الحسانية>> و<<الجعافرة>> و<<الجموعية>> وجاء بعدهم أمراء العرب وأصبحوا كالملوك في بلاد السود, عندما جاءوا واختلطوا بهم, كان هذا الامتزاج الجميل بين الثقافات والاجناس, مثل هذا الامتزاج في الرواية: المعلة, غانم, الموفي, عون الله, الزلال, مياكايا, كوناتايا, عين الحور. وكان ينبغي ان يأتي كاتب من طراز ابراهيم اسحق, كي يقص علينا حكاياتهم وأساطيرهم, لا يقص فقط, بل يقص بشكل شديد الخصوصية, غني بالرموز, لأن كثيرا من الخلفيات الكونية والسياسية والتراثية التي وردت عندهم تسربت هنا الى المجال القصصي. ذلك القص الثري والذي لا يعتمد على بداية او نهاية الحكاية, بل على استرجاع رموز وأساطير وحكايات خرافية يخشى عليها من الضياع أو النسيان, هذا القص سمة من سمات عالم الكاتب. كثير من الكتاب ذكروا أو جاءت بين ثنايا سطور كتاباتهم كلمات مثل <<العنج>> و<<نيكانج>> و<<تقلي>> وربما يتوقف الواحد منهم قليلا عندها لكن اسحق جعل همه, تأسيس وإعادة هيكله لعالم ما وراء هذه الكلمات. هذا التأسيس يتكئ على فلسفة الكاتب, لذا عند القراءة الدقيقة, يمكن أن نقرأ فقرات وسطورا, تجلي لنا رؤية الكاتب للطلاسم والأحاجي الكونية, فقرات وسطور وكلمات نثرها بدربة وخبرة عميقة:



<<إلام هؤلاء يحتكرون الغابة ويتملكون النهر? فكأنما الكون بأجمعه تم تقسيمه ضحى منذ نوح, ولم يعد لإمكان تواصله قطعا من سبيل>>.(ص11)



<<من جهة النهر, هدأ الحال تماما فلا شجار ولا غزل إلا قرقرة الماء على الجروف. كالأبد يهمهم الدفاق بأسرار كونية كالطلاسم>>.(ص17)



<<كأن الدنيا بأسرها ولدت من جديد عندما عوعى الديك>>.(ص13)



تظل لهذه الرواية <<أخبار البنت مياكايا>> بعد القراءة الثالثة او العاشرة غموضها الخاص ويظل لشخوصها طقوسهم وقرابينهم التي لا يمكن لأحد سوى الأرواح الخفية فهم مغزاها.



<<صالح الجبل>>



الدروب طويلة والحياة مرة



د. مختار عجوبة من الجيل الذهبي في الكتابة السودانية, وهو له فضل على الأدب السوداني, تحديدا, القصة فقد أصدر عام 1972, كتابه الهام <<القصة الحديثة في السودان>>, هذا الكتاب القيم علامة بارزة في مسيرة الكاتب وتاريخ القصة السودانية. مؤخرا صدرت طبعة جديدة منه عن <<مركز الدراسات السودانية>> بالقاهرة. وايضا أعاد المركز طبع مجموعته القصصية <<عندما يهتز جبل البركل>> ومعها مجموعة قصص <<السمرتوية>>, صدرا معا في كتاب واحد. كذلك صدرت في طبعة جديدة, روايته <<صالح الجبل>> , د. مختار عجوبة الآن استاذا  أكاديميا . اضافة الى مشاركته في العديد من الندوات والمؤتمرات عن الثقافة والادب. وهو مثل عديد من الأدباء السودانيين, قليل الانتاج. كما ذكرت اصدر ثلاثة كتب في مجال الأدب, منها كتاب في النقد الأدبي, في الحقيقة هذا الكتاب الأخير كان يكفي وبجدارة, كي يجعله اسما بارزا في الحركة الأدبية السودانية, لكنه, شارك الأدباء انتاجهم, فاصدر مجموعة قصص ورواية <<صالح الجبل>> هذه الرواية سأفتح حوارا سريعا معها, ومع القصص التي سبقتها, لان هناك ملامح مشتركة بين الرواية وبين القصص. لعل هذه القواسم المشتركة تتمثل في, وجود شخصيات تكررت في القصص والرواية وبتنويعات مختلفة.. شخصية <<فتح الرحمن>>, كان <<سفليا>> يمارس الروحانيات في خلوته (ص65, صالح الجبل) نفس الشخصية او قريبة منها, شخصية <<ود حبوبة>>, الذي أقام خلوة وقال عنه اهل القرية انه على علاقة بالجان والعالم السفلي (اذكروا محاسن موتاكم,  عندما يهتز جبل البركل), كذلك وجود النهر والجبل بصورة لافتة, (عندما يهتز جبل البركل), يقول الراوي في القصة التي تحمل اسم المجموعة, <<ان لهذا الجبل قصة لا تعرفونها, في هذا الجبل يسكن قوم من <<العنج>> يملكون سواقي من الذهب والفضة>>,(ص16), كذلك في رواية <<صالح الجبل>>- المشترك بين عنوان القصص والرواية كلمة <<الجبل>>- نجد جبل ابن عوف <<صالح الجبل>>, ذلك الجبل العجيب الذي سكنه قوم أشداء, ويرتوي من جداوله, قوم عطاش للمحبة يرتشفونها وهم سكارى بوجدهم. هل <<الجبل>> رمز للسودان عند مختار عجوبة? ام حنين للزمن القديم وعالم الروحانيات والمتصوفة الذين كانوا يتركون العالم والدنيا خلفهم من أجل البحث عن الخلاص?, <<أتمنى أن أكون متصوفا, أسير حافي الأقدام, عاري الرأس في صحراء بلادي على وجهي هائم لا زاد ولا ماء>> (ص83) (صالح الجبل) لقد تكررت كلمة <<الجبل>> في كثير من أعمال الكتاب السودانيين, وقد فسرها د.عجوبة في كتابه <<القصة السودانية>>, بأن الكتاب يقصدون بها السودان بشموخه وثقافته المتعددة.



ومن الخصائص المشتركة بين القصص والرواية, الشخصيات الملتبسة والتي لا نعرف, هل هي ذكر أم أنثى, شخصيات لها سمات وافعال غريبة, مثل شخصية <<السمرتوية>> من مجموعة (عندما يهتز جبل البركل), هذه الشخصية تكررت في رواية (صالح الجبل), لكن هذه المرة جاءت على هيئة <<الملكة ناصرية>> آخر ملوك <<العنج>>, أما عن النهر <<النيل>>, فقد تحول في أعمال د.عجوبة الى كائن حي يحضر ويغيب ويشتد ويضعف ويدخل في أنسجة البشر والحيوانات الذين يعيشون الى جواره. <<فذهبت الى النيل وكانت مياهه أكواما كالقطن المتراكم او السحب التي حملتها الرياح في عنف تتدافع وتتسابق وكان مندفعا قويا تغير طعم مياهه العذبة حين تكون هادئة صافية>>. (ص52), (صالح الجبل) اضافة الى ما ذكرت, يمكن أيضا ذكر سمة الحنين الى القرية والى القبيلة والعشيرة والهرب المستمر من المدينة, زد على ذلك, كثرة الاستشهاد بالشعر والأغاني الشعبية واختراق مقاطع شعرية وفقرات الغناء للسرد والحكي. لعل اللافت في رواية (صالح الجبل) كثرة المتقابلات او الثنائيات المتضادة, الصراع بين <<العمدة>> وبين <<الأب>> ثم طمر الأب للمقبرة أو المدينة الاثرية خوفا من استيلاء الحكومة على أرضه, والمحاولة المستميتة من جانب علماء الآثار, للبحث عن هذا الكنز المفقود <<اليزابيث مورقان>>, الباحثة الأجنبية التي تعمل محاضرة بقسم التاريخ والدراسات الاثرية, كانت تقول, انها ومعها باقي العلماء, يئسوا من الحصول على دليل واحد يمكنهم من تحديد هذه المدينة, ثم التضاد بين شخصيتي <<روضة>> الفتاة الجميلة التي كانت تحب لقاء الشباب والتي عادت من الخرطوم مع أمها بعد وفاة أبيها ورضيت بالعناية ببعض الأغنام والقليل من الزرع. وشخصية <<عواطف الشيخ>> جربت الحياة وخبرتها وهي لا تصمت أبدا  على شيء, تخرجت في الجامعة تحسب لكل شيء حسابا, وصراحتها كضربة سيف مباغتة ومحكمة. ثم شخصية <<النورابي>> الذي يحب الرقص والغناء, وشخصية العم <<عبدالله>> الحازم والذي يطلب من <<صديق>> البعد عن النورابي, <<يا ولدي الزول ده أبعد عنه.. ما تجيب لنا كمان سمعة في البلد>>. (ص60), تمتلئ رواية (صالح الجبل) بالشخصيات والحكايات والاساطير وشطحات المتصوفة ومعاناة البسطاء والفقراء في قرية من قرى السودان, تلك القرية التي امتلأت بالناس على اختلاف ثقافاتهم من بدو رحل الى افارقة وعرب وانجليز وخارجين عن القانون ولصوص وتجار ومن لا يجدون قوت يومهم. لقد استطاع الراوي حشد العديد من الاشخاص والاحداث داخل تلك القرية. كان الحكي والسرد ممتعا عندما, كان الكاتب يترك شخصياته يتكلمون ويتحركون ويشربون <<المريسة>> في الصيف و<<الدكاي>> في الشتاء, ويلعبون ويغنون, لكن عندما يتحدث <<صديق>> الراوي المثقف, عن مشاكله وقضاياه الوجودية. كنت اشعر, كأنني خرجت من مشاهدة عالم رائع وجميل ودافئ الى عالم كئيب, يمتلئ بالأحلام والكوابيس, وما أكثرها في الرواية.



مع ذلك, فان حوار <<صديق>> مع <<روضة>> ص76, 77, حوار انساني عميق, كشف شخصية <<روضة>> و<<صديق>>, <<طلعوني من تانية وسطى عشان اجي احش القش وارعى الغنم.. يا حليلي يا صديق.. ما تساعدني (شعرت بحنين دافق لها.. رنة الحزن في صوتها شدتني اليها).



ذلك الحوار الرائع اعتبره مع الصفحات التي يصف فيها الراوي الجبل ص:106, 109) قلب الثمرة في الرواية.



رواية الطواحين



الرواية تتحرك في عالم الفنانين التشكيليين بصفة خاصة وعالم الشعراء والمثقفين بصفة عامة. وهناك روايتان مصريتان, توقفتا عند هذين العالمين, (حافة الليل), رواية أمين ريان والتي صدرت عام 1954, جعلت الفنانين التشكيليين وعالمهم محورا لها, بالمناسبة أمين ريان, له كتاب أيضا بعنوان (الطواحين) صدر عن هيئة الكتاب المصرية 1987, الرواية الثانية (المسرنمون) للروائي حسني حسن, صدرت عام 1998, وجعلت قضايا المثقفين وأحلامهم وتمرداتهم محورا هاما لها. بلاشك, توجد روايات أخرى, اقتربت وتماست مع هذا العالم, على سبيل المثال, رواية (الآخرون), للكاتب التونسي, حسونة المصباح, صدرت عام 1998, على كل, لهذه الروايات, رؤيتها الخاصة, لذا يجب الاشارة الى خصوصية (الطواحين), لنلج اذن عالمها, الملمح الأبرز, تجلي الطبيعة بقوة وبمستويات متنوعة, جغرافيا (الطواحين), تمتلئ, بأشجار الأكاسيا والياسمين, التمر هندي, الباباي, المسكيت, الايلانسس, البرتقال واليوسفي, اللوسينا والعرديب, شجيرات السنط  والطلح والهشاب, أشجار الدفلى والقولدمور والاركويت, وتوجد اشجار نادرة ربما أتت بذورها بواسطة العصافير والحيوانات والريح وفي الغالب عن طريق مياه النهر المنحدرة من هضبة الاحباش كما تقول الراوية. كذلك بالرواية عدد لا بأس به من السلاحف والأرانب البرية المستأنسة والدجاج والأوز والنعام وحبارات وبجعات وعصافير جنة وود ابرق وهداهد وأطيار السقد والكلج كلج.. الطبيعة ومظاهرها, حاضرة برحابة صدرها وجمالها وايضا بغضبها وأعاصيرها وسيولها المدمرة, تقول (نوار سعد) احدى الشخصيات الرئيسية <<الانسان أصله شجرة, وتقول إن شجرة مسكيت واحدة وعصوفر, ودابرق, أكثر اهمية من عشرة مصانع للغذاء, ومليون من الجنود المدججين بالسلاح, وترسانة الاسلحة الامريكية لا تساوي في أهميتها ريشة فنان>>.(ص28), التفاعل بين شخصيات الرواية والانهار والغابات والحيوانات, أظهر حيوية العلاقات الانسانية وجمال الطبيعة, التراكم التدريجي لمفردات الطبيعة, أفضى الى رواية تحتفي بالطبيعة وتعيد لها جلالها الوثني القديم, كان من الطبيعي أن يكون أهم الامكنة في الرواية, (المحراب وبيت مايازوكوف), في قلب الغابات وبين الانهر والجبال. كلا المكانين رمز للخلاص والتماهي في الطبيعة. والطبيعة في الرواية ليست خيرة وجميلة حسب, بل أيضا قاسية ومدمرة, فعندما غضبت الطبيعة, اندفع من السماء مطر عنيف وقوي مع برق ورعد وسيول, <<سمعنا صوت المذيع يعلن الكارثة القومية, المدينة تغرق, الأطفال يغرقون في الطين, انقذوا المدينة>>.(128, يمكن بايجاز ذكر أهم خصائص حضور الطبيعة في (الطواحين), أ- الطبيعة كفرح انساني وجمالي ومعرفة وتأمل (المحراب, بيت مايازوكوف).



ب - الطبيعة كحماية من السجن والعنف والقتل, اختبأت سارة حسن من البوليس في كهوف مايازوكوف.



ج-- تشويه جمال الطبيعة, دفع مايازوكوف لليأس والاحباط والسفر ثم الانتحار, بعيدا عن المكان الذي عشقه, هذه الرواية تبدو لي, كأنها هايكو- رواية, نظرا; لعلاقتها القوية والجديدة في نفس الوقت مع الطبيعة. سأقطع وقفتي مع الطبيعة ونغوص معا في شخصيات (الطواحين).



1 - محمد المختار, شخصية محورية, له سمات جسمية ونفسية مميزة, طويل ونحيف, يرتدي جلبابا من التيل الأبيض, صامت ينشد العزلة والتأمل, كان رأسه أشيب  عندما التقته (سهير حسان) على ذقنه شعيرات بيضاء أما شاربه فما يزال بسواد الشباب وعيناه ذكيتان مشعتان كأنهما شمعتان ابديتان تأخذان نورهما من نور الله, يقرأ (الطواسين) و(المواقف والمخاطبات), طبيب نفساني غريب السلوك, كان يقضي وقته كله بميس الأطباء, يقرأ ويرتل القرآن ولا يذهب الى المستشفى وليست له عيادة خارجية, اختار العزلة في (المحراب), كي يقوم بتمارين اليوجا وتعليم تلميذته (سهير حسان) أسرار النرفانا والنقاء. لكن النقاء كما يقول, صعب المسلك, طريق كأكل الجمر, مستحيلة, ولأنها مستحيلة فهي ممكنة بشكل أو بآخر, لقد استخدم اليوجا والصلاة والسفر والجوع والحرمان من أجل النقاء. وهل أفلح?, لقد أخذ يحكي قبيل وفاته, عن فشله في الحياة واحباطاته وانه كان يريد أن يصبح صوفيا مثل الحلاج او ابن عربي ولكنه فشل; لأنه جاء في الزمن الخطأ.



2 - سهير حسان أو (القديسة), وهو الاسم الذي أطلقه عليها الاصدقاء وزملاء الدراسة, راوية الرواية. من خلالها نعرف العديد من الشخصيات والاحداث كانت دائما تحلم بالسفر في الدروب الطويلة, <<قطارات من الريح بيوت وسحابات وفراشات أنهر تجري نحو البدايات وأشجار تطير نحو الله, أسماك تسبح كالعاصفة وكنت أحلم به>>.(ص35) كانت تحلم بالفتى (محمد آدم) الذي فجر بداخلها أشياء كثيرة. كان في الثالثة عشرة من عمره, عندما رأته أول مرة, يلبس كالبدو, جلبابا وصديري أزرق, شعره كث, نعله من البلاستيك وعلى رأسه طاقية بيضاء وبيده عصاه, نموذج مصغر لبدوي, عيناه مستطيلتان بريئتان كعيني خروف وايضا كانت تفوح منه رائحة الشياه والروب, كان قصيرا ووسيما وله جسد رياضي رشيق وحاسة شم لا مثيل لها, مرحا ويحفظ كثيرا من الاحاجي وقصص الفروسية وبعض الشعر الدارج ويعرف أسماء الطيور كلها ومواسم ظهورها, إنه معلم (القديسة) الأول. لقد مات في حادث سير وهو في الثالثة عشرة. اعتقدت أن أباها وزوجها (نور الدين) هما السبب. أصيبت بحالات انهيار عصبي حتى التقت بالمختار, فتركت زوجها وعاشت في (المحراب) مع طبيبها ومعلمها الثاني.



3- نوار سعد, أستاذة النحت ومحاضرة في تاريخ الفن المرئي, فوق الاربعين من العمر أو فيما فوق الثلاثين, لها عينان ضيقتان, لهما رمش جميل (أجمل من رمش أي امرأة خلقها الله في الآونة الاخيرة, ان رمشها أحلى من أذن فان جوخ), كما قال ذات يوم (أمين محمد أحمد) الذي أحبها بجنون. هي دائما, رقيقة بها أنوثة دافقة وهذا <<سلطانها>> كما يؤكد (أمين محمد أحمد), نوار سعد, تعشق الرجل وتعتبره أهم قضايا وجودها, قالت ذات مرة: أنا امرأة بسيطة أحب فاسيلي كاندنيسكي وميشيل فوكو والجنس أنا مخلوقة بسيطة>>, ص45 (القديسة) كانت تنزعج من نوار, عندما تبدي رغباتها الجنسية ولا تتردد في أن تقول لرجل أعجبت به <<أنا أريدك>> المدهش في هذه الشخصية, انها خرجت من بيئة شديدة الفقر, كان الجوع صديق أسرتها, الجوع الذي هو نتاج العوز والفقر والفاقة. عبر صفحات متعددة, 103: 113. فتح لنا الكاتب قوسا كبيرا, كي نعرف معاناة الجوع والقهر. عبر شخصية (نوار سعد) أخذنا الكاتب من عالم اليوجا والنرفانا والشعر والفن التشكيلي وجمال الطبيعة الى عالم واقعي, شديد الايلام والبؤس.



4- مايازوكوف. أو مايا العزيز, كما يسميه الطلاب, إنه فنان روسي, درس الفنون بروسيا وباريس وتخصص في النحت ونال درجة الدكتوراة بجامعة موسكو, أستاذ الجميع وصديق الجميع, يذهبون الى مرسمه المفتوح بالجبل والى بيته, جاء للبلاد الكبيرة بعد موت صديقه (مداح المداح) الذي قابله في موسكو وعرفه على الشرق, كان مايا, رجلا عاطفيا وإنسانا رقيقا كالنسيم, قلبه شارع عام, وملك مشاع لا تحده جدران السياسة أو الفكر. كانت صدمته كبيرة, عندما طلبت منه السلطات مغادرة البلاد.



5- مداح المداح, صديق مايا زوكوف, بعد موت (المداح) كان مايا يحتفل بذكراه سنويا, وكما تقول عنه نوار, كان (المداح) مغنيا سهل الروح صعلوكا ومرحا, لا يعرف الحزن لقلبه سبيلا, وكان يحب كل شيء: المأزق, حرب حزيران, المرأة, السلام والخمر, ولو انه كان يعشق جمال عبدالناصر, الا انه كان لا يرى في الصراع العربي الاسرائيلي إلا سوء تفاهم, مجرد سوء تفاهم بين طفلين لأم واحدة وهي: الأرض, كان يؤمن بأن حل القضية العربية الاسرائيلية لا يمكن بالرصاص والحرب الاقتصادية ولكن في المعايشة السلمية بين العربي والاسرائيلي وفوق دستور غير عنصري وقانون عادل ونظام حكم ديمقراطي. لقد قال مايا: إن مداح علمه اللغة العربية والغناء العربي وزرع فيه حب الشرق.



6- في الرواية شخصيات أخرى مثل أمين محمد أحمد وسارة حسن وآدم وحافظ, الذي قتل في السجن ودفنت جثته في مكان مجهول, حتى عثر عليها بعد جهد طويل من أصدقائه كذلك شخصية (سابا تخلى), خادمة (نوار سعد) وصديقتها, سابا, لغز محير, قابلتها, نوار بسجن صغير لنقطة تفتيش بالحدود الوطنية الاثيوبية عندما حجزت نوار ليوم واحد بسبب حملها لتحف اثيوبية نادرة. تقول نوار, انها كانت في مقتبل العمر, جميلة في ملابس حبشية, لها عينان قلقتان كبيرتان مستديرتان كعيني ثعلب, لا تقرأ كثيرا من الشعر ولكن فقط شعر رامبو. لماذا شعر رامبو تحديدا? هل لأنه كان تاجر في هرر? قالت (سابا) إن رامبو عشق جدتها الرابعة وانجب منها طفلين ماتا غرقا وأن جدتها ماتت بعد ان نقل اليها رامبو مرض الزهري, أسرتها وكما ذكرت, ما زالت تحتفظ بأوراق مكتوبة بخط رامبو باللغة العربية وأخرى بالفرنسية.



بخصوص التكنيك ولغة الرواية. فقد استطاع الكاتب من خلال تكنيك حافل بالحوارات وأسلوب الرسائل التي تقطع الحكي والمناجاة والمنولوج الداخلي, إضافة للفقرات الطويلة والقصيرة في السرد وطريقة التقطيع السينمائي, استطاع أن يجنب روايته البطء وان يحتفظ بمادته الروائية, في حالة من الحركة والسخونة وأيضا حشده لأسماء فنانين تشكيليين وكتاب أوحى بمناخ حقيقي تدور الرواية فيه: مايكل انجلو, روفائيل, سلفادور دالي, هنري ماتيس, فان جوخ, بيكاسو, جويا, بول كلي, شاجال, مايا كوفسكي, باببلونيردا, فوكاياما, طه حسين, الطيب صالح, النور عثمان أبكر, جورج لوكاتش, ادوار الخراط, ناجي العلي, الشيخ امام, ناظم الغزالي وغيرهم وقد حاول الكاتب استخدام لغة مشاكسة, كأن يبدأ الجملة بـ<<قال فلان كذا>>, ويضع نقطة, ثم يعيد تكرار الجملة في السطر التالي, واشتقاق كلمات, مثل مجاسدة مجانسة, يفارشني, واضافة ألف ولام التعريف للمضارع, استعماله كاف التشبيه بكثرة. الحوار, كان في مجمله باللغة العربية الفصحى, ربما, لان معظم الشخصيات مثقفة, الى جانب بعض المفردات من اللهجة السودانية, يوجد خطأ في السرد, ربما بسبب السهو او النسيان, في صفحة 37, نجد الراوية تقول, انها كانت تصغر الفتى (محمد آدم) بثلاث سنوات, كان الفتى في الثالثة عشرة من عمره, إذن هي في العاشرة. ثم نجدها تقول في صفحة 43, انها كانت في الثالثة عشرة. هل هذا يا ترى خطأ الراوية أم خطأ الكاتب نفسه? كذلك يوجد خطأ آخر, تمثل في الخلط بين اسمى, نورا ونوار, ولكن هذا الخطأ, ربما يكون من الأخطاء المطبعية. اللافت في تكنيك الرواية, أن الراوي أنثى وهذا بعد هام سواء على مستوى التقنية أو الرؤية.



هناك اشكاليتان, يجدر بي التوقف عندهما, أولا: فكرة الوطن, وهذه الفكرة صارت تطرح بشكل متزايد في أدبنا العربي, يكفي ذكر أسماء مثل, رؤوف مسعد, جبار ياسين, حسونة المصباحي وغيرهم, من أسباب بروز هذه الفكرة, الفقر والظلم والواقع المرير الذي يمر به الناس %E

View sudan's Full Portfolio