لعل اهم الصناعات اليدوية ذات الطابع الافريقي الاصيل اصالة الحضارة السودانية هو الخزف بانواعه المختلفة والذي ظل يمارس انتاجه يدويا منذ التاريخ القديم وحتي وقتنا الحاضر، كذلك نجد الطبول السودانية والتي تستخدم في اغراض مختلفة بايقاعاتها الافريقية القوية ونذكر هنا طقوس كسوة نحاس السلطان علي دينار هذا بالاضافة الى مباني الجالوص والقطاطي والرواكيب باحجامها ومساحاتها واشكالها المختلفة يضاف الى ذلك كله العنقريب والذي يرجع بتاريخه الي الحضارة السودانية القديمة وقد تطورت اشكاله واستخداماته وفقا للحاجة واساليب الحياة لدي مختلف الجماعات السودانية، وتجدر الاشارة هنا الي كرسي الككر والطاقية ام قرينات ومقاعد الدينكا ومن النماذج المادية الدالة علي البعد الافريقي في الثقافة السودانية هو ممارسة التشليخ والوشم ودق الشفاة والمشاط وبري الاسنان او كسرها وان تخلت عن تلك الممارسات العديد من المجتمعات السودانية او قل استخدامها لديها.
ü في الادب الشعبي:
يذخر الادب الشعبي السوداني بموضوعاته المختلفة من شعر شعبي وقصص شعبية واحاجي حكم وامثال وغيرها بالعديد من المظاهر الافريقية ففي الاحاجي السودانية نجد قصة فاطمة السمحة والملك الغول وان اختلف اسمها من جماعة سودانية لاخري او من مكان لآخر الا انها تحمل في طياتها واحداثها وشخصياتها ملامح افريقية عدة، من ذلك مثلا شخصية الغول وهي شخصية اسطورية ومن صنع الخيال الافريقي السوداني ومثلها مثل وود ام بعلو وام كروتو وابو نيران والألتية وغيرها.
كما نجد قصصا وحكايات كثيرة عن الثعابين والحيوانات الوحشية مثل الثعلب والذئب وغيرها، كذلك ترد شخصيات للنساء ملكات في القصص والاحاجي السودانية وهي تعكس البعد الافريقي في النظام الاجتماعي عندما كان المجتمع السوداني يخضع لسلطة (الام الكنداكو او الميرم) خاصة في فترة الممالك النوبية القديمة كما نجد في سيرة ابو زيد الهلالي انه يوصف بانه رجل اسود وقوي وهذا ايا من صنع الخيال السوداني لكي يكسب السمة الافريقية لبطل السيرة الهلالية اما في مجال الشعر الشعبي فنجد الشعراء الشعبيين من الرجال والنساء مثل الهداين والحكامات والذين تشبه شخصياتهم شخصية شعراء البلاط الذين عرفتهم العديد من المجتمعات الافريقية وكذلك الشعراء الجوالة المتكسبين من قرض الشعر واتخاذه مهنة لهم، وتجدهم منتشرين في مجتمع البقارة في غرب السودان ومعروف ان مجتمع البقارة مجتمع هجين من الناحيتين الأثنية والثقافية.
ü في العادات والتقاليد
نجد بجانب عادات الجلد بالسوط في الحفلات وغيرها عادات وتقاليد اخري ، مع ملاحظة ان العادة منشأها فردي والتقليد منشأه جماعي بحيث يمكن ان يتحول كل منهما الي ممارسة جماعية فتصبح العادة تقليدا والتقليد عادة.
وهي في طبيعتها ترتبط ببعض النشاطات الاقتصادية كالزراعة او الحصاد او الاجتماعية كالزواج والاحتفالات العامة خاصة الدينية وكثير مما تحاط ببعض الافكار والمفاهيم الدينية او تمارس كجزء منها من ذلك عادة جدع النار لدي قبائل الانقسنا او تتويج السلاطين الملوك لدي الشلك والدينكا والقبائل النيلية الاخري مثلا.
او احتفالات الاسبار لدي النوبة في جبال النوبة وهناك بعض الطقوس والممارسات الشعبية الافريقية عرفتها المجتمعات السودانية منذ القدم يحكي التاريخ القديم والحديث اشكالا مختلفة من تلك الطقوس والممارسات الشعبية المتصلة بالعادات الافريقية السودانية منها طقوس قتل ملوك النوبة العجزة وتتويج الملوك الشباب ليحلوا محلهم ويلعبوا ادوارهم القيادية في مجتمعاتهم وشبيه بذلك تتويج ملوك وسلاطين الفور والفونج والعبدلاب والشلك والدينكا مثلا، كما ان بعض القبائل تمارس القتل الطقس لبعض من رجالها ووفقا لعاداتها وتقاليدها وهناك العديد من القصص والحكايات التي يسردها الناس وتطرق لذكرها بعض المؤرخين والكتاب تتعلق بعادات وتقاليد مجالس السلاطين والملوك وشيوخ القبائل وزعماء العشائر تعكس الابعاد الافريقية في الثقافة السودانية هذا بالاضافة الي طقوس العبور المتعلقة بدورة حياة الانسان السوداني فى مختلف العصور التاريخية ولدى مختلف المجتمعات وهي ذات طابع افريقي محض وان احيطت مؤخرا بالمفاهيم الدينية او تم احتوائها من قبل الديانات السماوية بدلا من الدخول معها في صراع قد يؤدى نتائج سلبية واصبحت تمارس خاصة لدي المجتمعات التي اعتنقت الديانات السماوية وكأنها لاتتعارض مع الدين في شئ من ذلك الختان الفرعوني مثلا.
ü في المعتقدات الشعبية:
لابد من التفرقة اولا بين العقيدة الدينية في جوهرها والمعتقد الشعبي في صلة بها فالعقيدة الدينية لها نصوص والثانية غير قابلة للتغيير او التحوير او الزيادة او النقصان وهي تقوم على الفكرة الدينية المنزلة او المنسوبة الي القوة الألهية اما المعتقد الشعبي فيقوم على فكرة الانسان حول العالم ومدركاته وما يتصل بها من حركة خفية غير منظورة في كثير من الاحيان وهو يستعين في تفسيرها او فحصها او تقاليدها او تقريبا تسخيرها لمنفعته ايا كانت بالتمثل الديني او التصرف السلوكي تجاهها او حتي اعطائها الصيغة الدينية المحصنة ليسهل التعامل معها. ومن المعتقدات الشعبية ذات البعد الافريقي في السودان نجد شخصية الكجور بكل ابعادها الاجتماعية والاقتصادية والروحية وهو وسيط بين الناس المعتقدين فيه وبين القوي الالهية المعتقد فيها، الامر الذي جعل بعض ابناء المجتمعات التي تؤمن بالكجور وتعتقد في ارواح السلف ورموزها المادية من الظواهر الطبيعية يعتقدون في الكجور رغم ايمانهم بقوة الله سبحانه وتعالي كما هو منصوص عليها في الكتب السماوية وشخصية الكجور محاطة بالعديد من العادات والتقاليد الشعبية والممارسات الطقوسية الافريقية السائدة لدى العديد من المجتمعات السودانية وشخصية الكجور اشبه في دورها بالفكى فى ممارسة دور الوساطة بين الأنس والجن او بين الانسان والقوة الألهية وشبيه بذلك ايضا الاعتقاد في رجالات وشيوخ الطرق الصوفية في الاعتقاد في صدق وساطتهم بين الاتباع والمريدين والحوار بين ربنا سبحانه وتعالي ونلحظ في ذلك ممارسة عادة طقوسية قديمة وهي تقديم القرابين والكرامات والفدية لهذه الشخصيات الوسائطية ولعل في ذلك شئ من الممارسات الطوطمية ذات الصلة العميقة بالمعتقدات الشعبية الافريقية او تشكل جزءا من سماتها وملامحها الاصيلة لاسيما وان بعض تلك السمات والملامح نلحظها في الزواج القرابي في السودان.
وسيطرة بعض الحيوانات على تحمل حركة بعض الجماعات كالبقر والابل والضأن والخيل. والتي صارت تشكل مركز حركتهم في الحياة.
ومن المعتقدات الشعبية ذات الابعاد الافريقية في ثقافتنا السودانية هي ممارسة الزار كظاهرة علاجية وبكل تفاصيله والذي احظي بدراسات عديدة عكست كل جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعلاجية ويرتبط بالزار الاعتقاد في الريح الاحمر والمشاهرة اي العين الحمراء وسكون الارواح والنفوس الشريرة في بيوت النمل والاشجار الضخمة والمناطق المهجورة وغيرها. حيث ان بعض الجماعات الافريقية والسودانية ايضا من اصحاب الديانات غير السماوية يعتقدون ان ارواح السلف تسكن في الغابة وان اسلاف اسرة او جماعية قرابية تسكن في شجرة معينة او جيل محدد او اي من الاماكن التي يعتقدون ان جدهم الاول قد اختاره ومن ثم يتحول الي شئ مقدس ويتم الاحتفال به سنويا يطلب منه المساعدة في حالة وقوع كارثة او حرب او اي امر يهدد حياتهم كما يقومون بأداء بعض الممارسات لارضائه لتحقيق السعادة عند الزواج او الحصاد او اي مناسبة اخري تقتضي ذلك.
ü في الممارسات والخبرات الشعبية:
معروف ان العديد من المجتمعات الافريقية تمارس ما يعرف بالطب الاسود كجزء من ثقافتها الموروثة والمجتمع السوداني كمجتمع افريقي في الاساس قد عرف بعضا من الممارسات العلاجية فيما يعرف بالطب الشعبي وذلك بالاستفادة من جذور وفروع وثمار بعض النباتات او ما تفرزه من عصارات.
ولربما انتقلت اليه بعض تلك الخيرات الشعبية من البلاد الافريقية الاخري عبر المجموعات والافراد الذين هاجروا اليه، هذا بالاضافة الي ممارسة انواع اخري من الطب الشعبي مثل التشليعة والحجامة والكي بالنار والفصد بالموس او السكين وغيرها من الخبرات العلاجية الشعبية والملامح الافريقية، واصبح يوجد في وسط كل قرية او فريق او حي شخص او بعض الاشخاص يحملون خبرات واسعة في ممارسة الطب الشعبي، كالبصير مثلا وهنالك بعض الاشخاص من يفضلون الذهاب الي الطبيب الشعبي بدلا من طبيب المستشفي.
ومن الخبرات الشعبية ذات الطابع الافريقي في الثقافة السودانية هي صناعة الاغذية والمأكولات الشعبية بالاستفادة من ما تذخر به البيئة الطبيعية من معطيات ومواد متنوعة وغنية بقيمتها الغذائية. وفي هذا الصدد لابد من الاشارة الي الخبرة التقليدية في تجفيف بعض الاطعمة ومعالجتها بحيث لاتكون عرضة للتلف او التلوث خاصة اللحوم بانواعها المختلفة وتمتلك المرأة السودانية مهارات كبيرة وخبرات مكتسبة في غاية الروعة والابداع ولها باع طويل في هذا المجال وهي انموذج للمرأة الافريقية المبدعة.
الخلاصة:
نخلص مما سبق ذكره الي ان السودان بلد افريقي في الاساس قبل ارتباطه بالعالم العربي، وان هناك عدة عوامل ومؤشرات ساهمت مجتمعة في تكوين الثقافة السودانية واعطتها السمة المركبة. واصبحت ذات طابع هجين افرو عربي، هذا مع وجود بعض التدخلات الاخري المستوعية داخل هذا الهجين. وان السودان ليس كما يوصفه بانه معبر للثقافتين العربية والافريقية او انه يحدد ناقل لهما، بل انه يمثل واقعا ثقافيا قائما بذاته ويحمل في بنيته الثقافتين، ولابد ان نؤكد هنا ان البعدين الافريقي والعربي في السودان متداخلان مع بعضهما البعض وفي حالة انصهار مستمر واصبح كل منهما يحمل في طياته البعد الآخر بحيث يصعب فصلهما عن بعض او الحديث عن اي منهما دون الاشارة الي الآخر. بالتالى فان هذا الواقع يجعل من الثقافة ذات طابع خاص ومميز عن الثقافتين الافريقية والعربية في واقعهما الاحادي، وان هذا الواقع يعطي الثقافة السودانية قيمتها واهميتها علي المستويين الافريقي والعربي ولربما العالمي.
وفي الختام توصي الورقة باهمية النظر الي الثقافة السودانية من الداخل والاخذ في الاعتبار انها ثقافة ليست احادية الجانب، بل انها ثقافة مركبة بصورة تجعل من الخطأ التفكير في فصل اي طرف فيها عن الآخر، حيث اي طرف منها مكمل للآخر بالمستوي الذي عبر عنه المرحوم البروفيسور احمد الطيب زين العابدين ومن سبقوه ابتداء من البطل الشهيد علي عبداللطيف واخوانه ومعاوية نور وجيله وجماعة الغابة والصحراء ورابطة ابا دماك ومدرسة الخرطوم للفنون الجميلة بقيادة كل من الصلحي وعامر نور وبسطاوي البغدادي وشبرين جرجس ومجذوب رباح.
كما توصي الورقة ايضا باهمية التوسع في الدراسات والبحوث الاكاديمية في الكشف عن طبيعة الثقافة السودانية، وفتح المنابر والمؤسسات والمراكز والمهرجانات في الاقاليم والعواصم لبلورة هذه الثقافة ودفعا نحو الارتقاء بالحس السوداني القومي