وحشةُ الغربة..
من جديد.. تقف ساهمة على تلك الهضبة.. تطالع اصطفاق أمواج البحر على صخور الشاطئ، تنتظر قارورة من زجاج أبيض تحمل في جوفها الشفيّف.. رسالة..!
عندما قاربت الشمس على المغيب تراقصت قارورة على سطح الماء، ورست بطيئة بين صخرتين، تناولتها بأصابع راجفة، وفكّت عنها السدادة..
رباه.. فارغة..
حبيبي.. من أجل خفقة صدق، أكتب لك بدمائي
ربما لو شاهدت الأحمر القاني ستدرك كم أحبك، وهذه القطرات النازفة بين الحروف هي بعض دموعي غيابك.. والغربة.. ووحدتي الموحشة يغرقوني في حومة الموت.. فهل كتب لي القدر سوأة العذاب..؟ وهل أصبح طقساً من طقوس أوقاتي..؟
أمارس قهر الانتظار، وعتمة السهر، وأناجيك في رسوم الخيال، فتأبى مخيلتي معاناتي
أهمس لدمعتي أن كفّي.. فتبكي رجائي دموعاً تنبض بك ومن أجلك
فهل ترحم دموعاً تخبر ظلام الوحشة عن حالي.؟
وهل أرسل لك قروح عينيّ لتلمس صدقها وهي تناديك في كلّ ثانية.؟
من أجلك غادرت فضاء النسور، لأصير فراشة في روضة فؤادك أقصى أمانيها رفّة نشوة من رحيق عطر قلبك الدافئ.
حبيبي
سامح غيابي عنك.. ولو رجوتك سفراً آخر أغلق في وجهي كلَّ الأبواب التي تخرجني من دائرة صدرك
فأنا من غير أنفاسك في واحة أنفاسي أفقد ذاتي، وتذبحني وحشة الغربة..
غمّست أصابعها في حروف الورقة، ولفّتها بهدوء، وغرزتها في جوف القارورة البيضاء، ثم أحكمت إغلاق السدادة، ورمت بها على جناح موجة مسافرة، ولوّحت لها بالوداع.
سألتك هل أسافر.؟ وسمحت لي.. لكنني يا حبيبي عندما وصلت بعد سفر حزين إلى تلك التي أسموها جنّة، أحسست كم أنا وحيدة.. أطالع في سراب ذلك الجمال كلّ المجاهيل التي تلفّني بالحيرة..! ولا أملك إلا أن أردد: إلى متى أحتمل هذا الغياب.؟
وها أنا أقف من جديد أراقب فورة الشاطئ.. علّها تهمس إلى موجة متعبة مثلي لتحمل لي منك رسالة..
تغرب شمس اليوم الأول.. والثاني.. وزفرة حزن موجوعة تطفو على صخب الأمواج.!
في صباح اليوم الرابع.. أطلّت زجاجة.. تتقاذفها الأمواج فتصمد، وترقص على صفحة موجة..
رباه.. رسالتي تعود إليّ، حزينة.. يابسة
من جديد.. تقف ساهمة على تلك الهضبة.. تطالع اصطفاق أمواج البحر على صخور الشاطئ، تنتظر قارورة من زجاج أبيض تحمل في جوفها الشفيّف.. رسالة..! وتمارس قسوة الانتظار.
هل يأتي ضوء صباح يحمل لها منه رسالة.؟
خرجت من قلب الموجة حورية، نصفها امرأة بارعة الجمال، ونصفها سمكة، بيدها رسالة
رباه.. أخيراً..
فضّتها على عجل:
(حبيبتي.. طال غيابك عن روحي، وأجدك تسكنين جوار قلبي، ترافقي خطواتي ونبضي، لكنني أحّدثك ولا تجيبي.. فهل أنت هنا أم ما زلت هناك.؟
تعالي إلى جنتنا، نرسم شاطئاً وبحراً ونغتسل بصفاء الرحيق الأبيض، تحملنا حكاياتنا، وتأخذنا بعيداً عن جفاف صحراء ما عادت لنا سكنا.. نغني وتعزف لنا نايات البحر المسحور أعذب الألحان، تلمسنا شذرات الماء المالح فتبدّل أجسادنا إلى مرايا
نبحر حتى أعماق الصبر، فيناجينا القمر في ليلة البدر، يدلّي إلينا سلالاً محمّلة بطيوب البنفسج، ترشّ علينا قطرات من عطر تروي عطشنا وشوقنا،
ويفيض الشعر على ستائر الليل، وتغني طيور مجنّحة بقناديل من نور لحننا الخالد، وترقص خيول بلا أسرجه، ونرحل معاً إلى لا مكان، نترك وراءنا كلّ السفن والمراكب، ونطبع صورنا على شفاه الليل
حبيبتي....!!!!)
حطّت فراشة على ضفيرتها النائمة، ففتحت عينيها.
حلم يا حبيبي دلّني عليك، وغربة تفتت كبدي.. وأنزف دماً بلون البنفسج.
حبيبي.. لو سألتك مرة أخرى غياباً لا تعطيني تصريحاً للسفر.. ولا تتركني أغادر مرافئ قلبينا.. أبداً..
معك أشعر بأنني على قيد الحياة، ومعك أعيش الأمان.
ص.ح
وكلما أطلّ يوم اغتراب
تموت الحكايات، وينطفئ ضوء النهار قبل أن تفرش العتمة مزاهرها
لكننا نأبى غياب النوارس فنقيم طقوس العبادة
يا أنتِ.. أيتها النبيلة حباً
كنت.. وسأبقى ذلك الساكن في بياض العين، السابح في بحيرة الندى، الرفيق في غابة البنفسج المزهرة
فكوني كما أنت.. لأنك الأنقى، والأجمل، والأصدق
ولك نوري كله
نور