الموصل / نوزت شمدين
زادت هجرة الأطباء الكفوئين الى الخارج وصارت عيون مرضانا ترنو الى مستشفيات دمشق أو عمان لأن المستشفيات الحكومية لدينا تحولت الى مقابر كبيرة لا يجد فيها العراقي المبتلى سوى خيبة الانتظار التي تطل برأسها أينما حل، فالعناية البيضاء فيها تكاد تكون معدومة أمام العجز الطبي والدوائي غير المبررين، والمستشفيات الأهلية أضحت شركات تتاجر بأرواح الناس دون أي رادع.
قد يبدو هذا المشهد مأساوياً ويوحي بالمبالغة لكنه في محافظة نينوى التي اقترب سكانها لكسر حاجز الثلاثة ملايين نسمة أكثر واقعية من أي شيء آخر:
مدير عام صحة نينوى الدكتور (صلاح الدين ذنون النعيمي) أقر لـ (المدى): (بأن المستشفيات في محافظة نينوى تعاني من نقص حاد في المستلزمات الدوائية خصوصا المحاليل الوريدية ومواد التخدير، مما يجبر المواطنين على مراجعة المستشفيات الأهلية طلباً للعلاج، أو حتى السفر الى خارج القطر لذلك، ولقد خاطبنا وزارة الصحة ومكتب المفتش العام مراراً حول هذه المسألة وطالبناهم بضرورة توفير تلك المستلزمات بكميات كافية غير أن النقص مازال واضحاً) واكد مدير الصحة: لدينا فرق متخصصة تتابع وبشكل ميداني المستشفيات والمراكز الصحية في الموصل وما يحيطها من أقضية ونواح لمعرفة الحاجة الفعلية للمستلزمات الدوائية ثم نقوم بتوفير ما يمكن توفيره لها وحسب ما هو موجود في مخازن دائرتنا. ورداً على -سؤالنا حول الجهة المختصة بالرقابة على المستشفيات الأهلية أجاب النعيمي: نقابة الأطباء هي الجهة المختصة -بذلك، مسؤوليتنا تنحصر بالمستشفيات والمراكز الصحية التابعة لدائرتنا.
بالقرب من مستشفى (أبن سينا) في الجهة اليمنى من الموصل صادفنا المواطن عبد الكريم سعيد وهو يروم الدخول للمستشفى بعد أن خرج من صيدلية أهلية وبيديه كيس منتفخ بالأدوية، سألناه عن سبب قيامه بشراء الادوية من صيدلية خارجية فأجاب: أصيب والدي بحادث سيارة قبل أيام وأنا أرافقه حالياً في المستشفى، وبين الحين والآخر تتطلب حالته أدوية معينة لاتتوفر في صيدلية المستشفى لذا أضطر لشرائها من هنا، أفكر بنقله الى مستشفى أهلي ليحصل على مزيد من العناية لكن وضعنا المادي لا يسمح بذلك.
المواطن شريف أحمد (تاجر) قال انه سيصطحب زوجته الى الأردن من أجل العلاح ضد مرض السرطان، (هذه الرحلة هي الرابعة، حالتها تتطلب علاجاً دورياً لا يتوفر في مستشفياتنا، إضافة الى هجرة الأطباء الذين نعول عليهم وهذا ما دفعنا لإيجاد البدائل في الخارج).
أما المواطن (ياسر عزيز) الذي قابلنا بوجه باسم عند مدخل مستشفى الولادة أخبرنا وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الفرح: زوجتي ستنجب بعد قليل والطبيبة أخبرتني أن علي ان اشتري الأدوية والحقن والمغذيات من الصيدلية المقابلة للمستشفى..؟!. وبعد نصف ساعة كان هناك حوالي خمسة من الممرضين والممرضات وهم يحيطون بياسر جميعهم ينظرون الى جيبه ويدعون لطفله أن يكون من ابناء السلامة!.
مرضى (الثلاسيميا) أو ما يطلق عليهم بمرضى فقر دم حوض البحر المتوسط، وعددهم نحو (1000) مريض في الموصل وحدها، هم الدليل القاطع على فداحة ما يجري في مستشفياتنا، لأنهم الشريحة الأكثر تضرراً بنقص الدواء ومراكز الفحص والعلاج، فالوجوه الصغيرة المصفرة الذابلة للأطفال الراقدين على أسرة مركز الثلاسيميا وهم يتزودون بالدم كشرط أساسي لاستمرارهم في الحياة يوحي بما لا يقبل الشك أن هناك عجزاً إدارياً في وزارة الصحة والدوائر الصحية التابعة لها في بقية المحافظات خصوصاً ان المسؤولين فيها يدركون أن مصير هؤلاء الأطفال هو الموت المحتم إذا لم يحصلوا على العلاج. يقول رئيس جمعية الثلاسيميا في نينوى: (غالبية الاطفال أصبحت حالاتهم ميؤوس منها، بسبب تضخم الكبد جراء تراكم نسبة كبيرة من الحديد فيه، وهذا سببه نقص مادة (الدسفيرال) التي تخلص الطفل المصاب من فائض الحديد في الجسم، علما أن المريض يحتاج الى جرعتين منه يومياً، سعر الواحدة منها (16) دولاراً ومع هذا فهو غير متوفر تماماً حتى في السوق السوداء) وأوضح رئيس الجمعية ان الأطفال الذين يرجى شفاؤهم من المرض يحتاجون الى عملية زرع نخاع العظم التي لا يمكن إجراؤها في العراق لعدم وجود التخصصات والاجهزة، منذ سنوات سمعنا وعوداً من وزارة الصحة بإنشاء عدد منها في العراق ومازلنا ننتظر).
المستشفيات الأهلية في الموصل هي البديل الاضطراري للشريحة الميسورة من المجتمع لذا فمن الطبيعي جداً ان تستمع الى بعض من النسوة وهن يتفاخرن في مجالسهن أن فلاناً أجرى عملية بكذا مبلغ في المستشفى الأهلي الفلاني، بعض هذه المستشفيات تلتزم بالمعايير المهنية المستمدة من الأطباء القائمين عليها فتجد العاملين فيها مثل سرب نحل يدور حول المريض لخدمته والعناية به، البعض الآخر من المستشفيات على العكس تماماً لأن كل شيء فيها بثمن مستقل الفحص والعملية (والدواء الموجود في الخارج دائما وابداً) والرقاد والتطبيب وحتى تحية عامل المسح وأمنياته لك بالسلامة تتطلب ثمناً، وهذه الحقائق التي لم اكن أصدق الكثير منها حاصرتني وانا في زيارة لصديق لي اجرى عملية لعينيه في مستشفى أهلي يقع في الجهة اليمنى من الموصل، ففي اللحظة التي أخرجوه فيها من غرفة العمليات دفع ذووه أجرة لعامل دفع السرير المتحرك الى الغرفة وهناك استقبلوا الممرضين والممرضات الذين اصطفوا على شكل طابور ونقدوهم واحداً واحداً وكأنه يوم لتوزيع الرواتب، ثم دخلت ممرضة بملامح منقبضة توحي بالغضب لكنها وبعد ان قبضت بضعة آلاف تحولت الى ملاك رحمة فزرقت صاحبي بأبرة ثم خرجت وهي تدعو له بالنور. أخبرتني زوجة صديقي: العملية كلفت (400) الف دينار والرقود في الغرفة لساعات قليلة (125) الف دينار والدواء في الصيدلية المقابلة للمستشفى (واكرامية العاملين) نحو (100) الف، ثم ابتسمت وقالت بشيء من الشفقة مشيرةً الى زوجها الذي كان لا يزال يهذي في محاولة للانفكاك من قبضة المخدر، لم يدخلوه الى غرفة العمليات إلا بعد ان دفعنا التأمينات!.
في النهاية هنالك أسئلة ينبغي على وزارة الصحة أن تجيب عليها، لماذا تفتقر مستشفياتنا الى الأدوية ومستلزمات العلاج الأخرى بينما تعج بها الصيدليات والمذاخر الأهلية؟، ومن هو المسؤول عن دفع المواطنين الى طلب العلاج في خارج العراق مادمنا نمتلك البنى التحتية التي تجعلنا متفوقين على دول كثيرة في مجال الطب؟