الموصل/نوزت شمدين
ظل شارع الدواسة ولزمن طويل واحداً من اشهر الشوارع الرئيسة في مدينة الموصل، وأكثرها شعبيةً نظرا لتنوع سوقه الممتد من قصر المطران شرقاً إلى شارع حلب غرباً، ومع أن سجلات المدينة لا تذكر سنة محددة كتاريخ أكيد لإنشائه غير أن ذاكرة كبار السن تشير إلى أربعينيات القرن الماضي عندما اكتشفت إدارة المحافظة (المتصرفية) في حينها أن جانب المدينة الأيمن بحاجة إلى شارع جديد يشق بساتين الفستق وحقول الخضار باتجاه باب الطوب حيث المركز. ولأن المقاهي والفنادق (خانات) كانت تشكل الملامح الأولى لهذا الشارع، لذا فقد أصبح ارتياده حكراً على الرجال فقط ولم تكن النسوة ليرينه إلا نادراً، ومع مرور السنين حافظت الدواسة على وفائها للرجال فبنيت لهم فيها خمس دور للسينما هي (حمورابي والاندلس واشبيليا وغرناطة واطلس والخيام) وعدد من الفنادق ومقرات الصحف والمكتبات وعشرات من المحال التجارية لبيع الأقمشة والألبسة والحلويات والكرزات، ومطاعم وصالونات حلاقة ومقاه للرياضيين والمثقفين. وكان الزحام طبيعة ملازمة له ويتحول في أيام معينة كالجمع وفي فترة ما بعد الفطور في شهر رمضان والأعياد إلى ما يشبه ساحة طويلة للاحتفالات. اليوم تغيرت معالم الدواسة بعد أن اختفت مكتباتها وتحولت دور السينما فيها إلى مخازن ومحال واختلط الحابل بالنابل في مقاهيها، ولقربها من مبنى قيادة الشرطة ومحافظة نينوى وبناية مجلس المحافظة ومركز الشرطة أصبح الكثير من الناس يتجنبون حتى مجرد المرور من هناك خوفا من أحداث عنف مفاجئة أو سيارة أمن غاضبة من شيء مجهول. وعن الدواسة ماضيا وحاضراً كانت لنا هذه الحوارات:
(باسم ذنون 61 سنة) موظف متقاعد: (انتعاشة الدواسة الحقيقية كانت في فترة السبعينيات بعد التغيرات الاقتصادية التي طرأت خلال تلك الفترة وما قبلها، كان الناس جادين في كل شيء وكل يعرف أين يذهب فالمثقفون كانت لهم أماكنهم والفنانون والرياضيون وحتى الأطفال والعاطلون عن العمل , ربما لان الحياة في تلك الفترة لم تكن بتلك الصعوبة التي عشناها ما بعد الحروب أو أن شيئا ما حدث وقلب الأمور رأسا على عقب، وليس صحيحاً أن الدواسة كانت مكاناً للشباب فقط، إذ أن النساء وخصوصا في أيام ما قبل الأعياد كن يتواجدن في السوق لشراء الألبسة والأحذية لأبنائهن، بل أن العائلة الموصلية كانت تدخل السينما بكل أمان وكانت تجد أمكنة خاصة بها وتلقى الاحترام، لكن تلك المظاهر الاحتفالية اختفت تقريبا منذ مطلع الثمانينيات بسبب الحرب وما تلاها إلى وقتنا هذا).
أما (سالم صابر 50 سنة) صاحب محل ألبسة: فذكر أن اتساع المدينة وظهور شوارع وأسواق جديدة وحظر التجوال المسائي هي من أهم العوامل التي تسببت في خفوت بريق الدواسة مع أنها مازالت تحافظ على أهميتها كونها محاطة بحي سكني وفيها عدد كبير من المصارف والدوائر الحكومية. الكاتب(ذنون يونس 38 سنة) قال: (الواقع يشير إلى أن بنية المجتمع قد شهدت تغييرا فهي لم تعد كما كانت عليه قبل سبعة عقود عند أول مرور في شارع الدواسة، حتى طريقة تفكيرنا اختلفت الآن، قديما كنا نقاتل من اجل الحصول على تذكرة دخول إلى إحدى سينمات الدواسة من اجل مشاهدة فيلم هندي يبكينا لمدة ثلاث ساعات متواصلة، كنا نصدق كل شيء، ولم نكن لنشك بأن قفزة (اميتاب باتشان) من فوق جبل هي مجرد خدعة سينمائية مفضوحة، وكنا نعد الدقائق لكي يكتشف البطل مع نهاية الفلم بأن الفتاة التي أحبها وقتل جيشاً من أجلها هي أخته في حقيقة الأمر. كنا عالماً ناصع البياض قبل أول لافتة سوداء علقت على جدار ما إيذانا بالموت. الحرب تغير ملامح الأوطان والشعوب).
(أم فادي) ربة بيت: (الدواسة لم تتغير أبدا، وبمجرد أن تنتهي ظروف المدينة حتى تعود إلى سابق عهدها، اسكن الدواسة منذ سنوات طويلة جدا وهي تعني لي ولعائلتي الكثير ففيها مدارس أبنائي والكنيسة التي نرتادها بكل أمان وسوق عامرة وهي قريبة من كل مكان يحتاج إليه المرء واعتقد أن هذه أسباب كافية تجعل من الدواسة مستقراً لا يمكن التفريط به بسهولة)
(مروان عبد الله) طالب جامعي: (أحمل إدارة المحافظة مسؤولية فقدان الدواسة مكانتها القديمة لأنها اختارت البقاء في جزئها الحيوي كمقر لها مع كل تلك الجدران العالية، ومع خروج أو دخول أي مسؤول إلى مبنى المحافظة تقطع الطرق ويصاب الناس بالذعر وهم عالقون في الزحام، الحل الأمثل لمعالجة المشكلة هو بنقل الدوائر الحكومية إلى منطقة أخرى أكثر أمناً لها وللمواطن).