رواية: نصف قمر
بقلم: نوزت شمدين (كاتب عراقي من مدينة الموصل)
قراءة: محمد الأحمد
برغم فوضى العالم المزدحم بالتناقضات والمفارقات تبقى عينُ الإنسان كليلة عن رؤية كل ما يدور، وبرغم تزاحم وسائل الاتصال التي تريد أن تضخ بضاعتها الصورية عبر فضائياتها الغزيرة المادة، والمتنوعة و الموزعة الاتجاهات.. تبقى الإنسان في زمن الصور متعطشا لرؤية كل شيء في الآن نفسه، ويبقى الإنسان برغم كل هذه المشاهد المتدافعة التالية تزيح ما بعدها، والأفكار الجيدة تستقر بدل غيرها، والعين مفتوحة على ما يحدث، تنقله الاتصالات عبر العين، ولا تستطيع العين أن تتحصل على نصفُ إغماضه من اجل احتمال ضجيج العالم، وتصير عاهة العمى أداة روائية تفصل بين البطل المحور والروائي كما في (نصفُ قمر) اسمُ الرواية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2006 - بغداد.. تحكي عن حالةُ عمى، نتيجة إهمال المريض لحالته التي تفاقمت و أدت به إلى العمى. رحلة في عالم صاخب ملئ بالأصوات، عالم سماعي مزدحم بالضغوطات يتحول إليه المبصر بعد أن يفقد الرؤية، و تكون أذنيه مركزا استقطاب من العالم الذي حوله، و مركزا استدلال إلى ما حوله.. بواسطتهما يبقى متحدياً اللون الأسود ليخرقه عبر النغم، مبتدأً منه تحديد العلاقات ما بين البعيد، والقريب.. بالصوت وحده تكون نقطة التقاء الخطوط البنائية المتواشجة من علاقات بطل الرواية حيث يستدل البطل المحوري (عادل) إلى أماكنه المألوفة، بكل حس وذوق، و يتصرف بدقة من يعرف الألوان كلها، المغمورة في اللون الأسود.. الذي حجب عن القارئ سرداً تفاصيل الألوان الأخرى المتواثبة بين الاضاءات المتسعة إلى حافات حادة من التذكر الدقيق.. حافات مصيرية حادة تتمثلها المساحة السوداء كما سبورة الدرس في المدرسة، ولكن البطل لم يقيده العمى، و كأنه انطلاق الخط المشير بثقة نحو الوضوح. ( شيء مؤلم أن نمتلك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الأسود – ص 5). ثمةٌ جميلةٌ شفافة في جملة الكاتب (نوزت شميدن) تضاف إلى رصيد الراوي في روايته البكر الموسومة بـ (نصفُ قمر).. فقد اعتمد السرد بإيقاع واحد، و وتيرة واحدة، و راح يهدر به بلا توقف.. بعمق هيرمينوطيقي: (تعني بتأويل حقيقة الكتاب الواقعية والروحية- دليل الناقد الأدبي – ص48). هي فسحة الأمل العريضة التي ينطلق منها البطل متحركا على سبورة اللون الأسود.. (ظلام الأعمى كتلة ثقيلة، ومحتبسة. شمس سوداء تشع حلكة وتضيف الأسود إلى الأسود بلا انتهاء- ص29). حيث يفقد الاهتمام بما حوله إلا من خلال الصوت، ويحقق الصلة الكاملة بكل ما في العالم من ارتباط ، ورغم العمى لم يكن مقصيا عن حياته و أهله و أحبته بل كان بينهم يشاركهم ما يشاركونه به.. ورغم الفاصل الذي أصبح حقيقة راسخة.. (حاولت أن اكتشف تلك اللغة النغمية السرية بين العصا وعالم الطريق - ص 68). بقى العراقي بطلا روائيا بين أبطال الروايات الإنسانية المتميزة.. بطل ملئ بالحب والتطلع، مخترقا للعتمة، بألف خطوة.. علا قات واضحة بواقعيتها مع بعض، وأيضا إلى ذكرياته المدفونة مع قصة حب عاشها بلون آخر.. (أخذت أسبح وأسبح واندفع في السواد، اضرب بذراعي والفراغ مثل طائر خرافي، وفجأة رايتها تقف فوق غيمه من سواد- ص43). ثمة ألوان يصفها الراوي ويتحسسها كما يتحسس الأعمى طريقه بعصاه.. إذ تقول الدكتورة سهير القلماوي[1]: (الرواية شكل أدبي يزاد خطره وتتنوع أساليبه ويزحزح كثيرا من سلطان الشعر، والرواية المكتوبة لها طاقتها وتطوراتها، وقد أخذت مكان الصدارة في الأشكال الأدبية عالميا وعربيا لأنها الوعاء الأنسب للمرحلة التاريخية التي نجتازها اليوم واهم سماتها التغيرات السريعة المتلاحقة وتدافع المعتقدات والأيدلوجيات في سباق لاهث على عقول الناس لتوجه تفكيرهم و تصوراتهم، وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم). بقيت قصة الحب القديمة تتألق كلما فكر الروائي في مسيرة خطواته المتحدية الظلمة، بنصف ضوء متحديا ضجيج العالم الصاخب.. تحت ضوء شحيح، سلطهُ القمر في ليلة معتمة، ولكنه بقي كأنموذج بطل روائي متميز بعراقته، وطموحه.. منطلقا إلى أبعاد أكثر حرية من الفضاء الذي يسمح به فضاء السردي للرواية.. ألانه حركة واقع غير قابل للتزييف.. فكان صدقُ الكتابة أكثر من صدق الفضاء في حرية حركية الإبداع… فقد اعتمد البطل في النهاية حبيبته بديلا عن العصا التي يعتمدها، وراح متأبطا يدها إلى حيث يريد.
ثمة كلمات أخرى تستحقها هذه الرواية التي تبشر بعراق المبدعين الممتلئين بمثل كاتب (نصفُ قمر)، يستحق منا التحية، لأجل أن يتواصل بعطائه الجميل.. كوننا نعول على ما سيجيء منه مستقبلاً.. فالرواية صدق قد أفاد به، وقضية قد كشفها المبدع العراقي بكل ما في أداته من صوت معبر..
بغداد
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مقدمة كتاب انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.. المؤسسة العربية- ص 7