تغيرات جغرافية في خارطة الأسواق الموصلية
نانسي عجرم ورونالدو وشوارب وعبد الله الرويشد في باب السراي ..!
المدى / نوزت شمدين
اشتهرت مدينة الموصل وعلى مر الأزمنة بتنوع وجمال أسواقها المنتعشة على الدوام بالضائع القادمة من جميع الاتجاهات المحيطة بها باعتبارها مركزا تجاريا مهما وحيويا في البلاد ، ومعظم هذه الأسواق تركزت في جناح دجلة الأيمن حيث باب السراي والسرجخانة وخان المفتي وباب الطوب والدواسة والسوق العصري وشوارع النجفي ونينوى وخالد بن الوليد وغيرها من الأسواق المتخصصة التي كانت تتسع يوماً بعد آخر وهي بمأمن من التغيرات وصامدة بوجه الأزمات وحتى بعد أول صفارة إنذار أطلقت إيذانا بحروب القرن الماضي وما تبعها من حصارات وانحدارات حادة في قيمة الدينار ظلت أسواق المدينة محافظة على خصوصياتها رافضة التشتت أو الاندماج مع بعضها البعض في محاولة عنيدة من قبل التجار وأصحاب المحال فيها للمحافظة على المهن والأعمال التي توارثوها عن آبائهم جيلا بعد جيل وحصلوا على ألقابهم منها مثل بيوتات ( البزاز والقطان والصواف والعبايجي والملاح والعطار والصابونجي والدباغ والتحافي ) وغيرها .
اليوم وبعد ما يقارب العامين ونصف من الاحتلال وأكثر من عام على غياب الأمن التام بسبب انحسار دور أجهزة الأمن ، شهدت العديد من هذه الأسواق ما يشبه الموت متأثرة بحضر التجوال والجدران الكونكريتية و الأسلاك الشائكة التي صارت ترسم أبعاد البعض منها وأعاقت في أخرى حركة السير، وأقلقت بالمحصلة راحة المواطنين الذين أصبحوا يتجنبون هذه الأماكن خوفاً من المعارك الخاطفة . مما حدا بأصحاب المحلات والدكاكين الانتقال إلى أمكنة أخرى أكثر أمنا في زوايا متطرفة من المدينة ، أو البقاء بانتظار أن تشرق الشمس من جديد . ولتسليط الضوء على واقع الأسواق والمتغيرات التي تشهدها في الآونة الأخيرة اخترنا سوق القماش موضوعا لهذا التحقيق ابتداءً من تجار الجملة وصولاً إلى المستهلك .
( المنافسة محسومة للألبسة الجاهزة )
على مقربة من الجسر العتيقة الذي يربط جانبي المدينة منذ أوائل القرن الماضي يقع باب السراي الممتد من منطقة الميدان غرباً حتى باب الطوب شرقاً . وفي إحدى تفرعاته الكثيرة يوجد سوق يسمى ( سبع أبواب ) تخصص ومنذ سنوات في بيع الأقمشة بمختلف أنواعها . وتكاد معظم المحلات فيها تبيع بالجملة . هناك التقينا بعدد من أصحاب المحال الذين تحدثوا بألم بالغ عن التراجع الذي أصاب عملهم بسبب سوء الأوضاع الأمنية ومنافسة الألبسة الجاهزة المستوردة لأقمشتهم .
عبد الله بكر ( تاجر جملة ) : تأثرت مهنتنا كثيرا بسوء الأوضاع الأمنية . فنحن نعتمد في عملنا على بيع الأقمشة بالجملة للخياطين ومحلات المفرد في السرجخانة وغيرها من الأسواق داخل وخارج المدينة ، وللظروف المعروفة فأن المواطنين وخصوصاً النساء منهم لم يعد بإمكانهن الخروج من بيوتهن إلا لقضاء الحوائج الضرورية ، فلم يعد بوسع الواحدة منهن كالسابق أن تبحث في السوق بحرية تامة عما يناسب ذوقها أو أذواق بناتها وأبنائها من القماش ثم الذهاب به إلى الخياط والانتظار حتى يخاط الثوب ، فالأمر بات يتطلب الكثير من المجازفة للظروف المعروفة ، فعلى سبيل المثال تغلق الجسور بأكملها دون سابق إنذار أو تحدث اشتباكات مسلحة أو انفجارات ، وبدلاً من المخاطرة فأن العائلات أخذت في الوقت الحالي تعتمد وبشكل شبه كامل على الألبسة الجاهزة ، خصوصاً المستوردة منها والتي تجد معامل الخياطة لدينا صعوبة كبيرة في منافستها بسبب رخص أثمانها لدرجة أن يتراجع سعر القطعة منها ليعادل سعر متر مما نبيع نحن من قماش ؟! وهذا طبعا بسبب عدم وجود رسوم كمركية مفروضة عليها لحماية الاقتصاد الداخلي ، وإن وجدت هذه الرسوم فهي زهيدة جدا في الغالب وتبقينا عاجزين تماما عن المنافسة .
عمار ياسر صاحب محل ( مفرد ) : ورثنا مهنة بيع القماش عن آبائنا الذي توارثوها بدورهم عن آبائهم ، وبقينا رغم كل شيء أوفياء لها ، لكن البعض قرر تحت وطأة الركود في السوق إلى الانتقال نحو مهنة أخرى أو في أقل تقدير إلى مكان آخر متطرف من المدينة ليتسنى للناس الاقتناء منه دون مشاكل . في المقابل وكما هو الحال بالنسبة للكثير من المهن فقد دخل مجال عملنا دخلاء أساءوا بشكل كبير إلى المهنة سواءً بمضارباتهم غير المواتية أو افتقارهم للخلق القويم في التعامل . وهكذا ظهرت انعكاسات ذلك على مهنة البزازة مشكلةً عرفاً جديداً وعلى سبيل المثال بالنسبة لما يتعلق بمسميات الأقمشة : ففي الماضي كانت هناك أقمشة معروفة أسمائها للجميع مثل ( البازة والخزنة والستن والجيت والأنكورة والجابان .. الخ ) اليوم أصبحت الأقمشة وخصوصاً المستوردة منها تسمى بمسميات هي برأيي تسيء إلى مجتمعنا كثيرا مثل ( البرتقالة ونانسي عجرم وروبي واليسا وشوارب عبد الله الروشيد والحاج متولي ورونالدو ) وغيرها من الأسماء التي كانت هي ومثيلاتها بعيدة كل البعد عن الذائقة العراقية المعروفة برفعتها .
ذاكر سعدون ( خياط ) : الكثير من الخياطين أصبحوا الآن بلا عمل أو أبدلوا نشاطهم القديم وهنالك أسباب عديدة وراء ذلك ، أولها الظرف الأمني الصعب في المدينة والذي حتم علينا إقفال محلاتنا والتزام بيوتنا قبل حلول الظلام ، في حين أننا كنا في السابق نستمر في أعمالنا حتى ساعات متأخرة من الليل بل ونستمر أحياناً حتى الصباح خصوصاً في أيام ما قبل الأعياد ، والفوضى الأمنية تسببت كذلك بتغيير عادات شريحة واسعة من المجتمع الذين لجأ الكثير منهم إلى اقتناء الثياب الجاهزة وإن لم تكن تلبي بشكل تام أذواقهم من حيث الفصالات أو حتى المقاسات ، لكنهم باتوا يؤثرونها على الخياطة التقليدية بسبب عدم تمكنهم من ارتياد السوق لمرات متكررة ، وكذلك لرخص أثمان تلك الألبسة قياساً بتكلفة شراء القماش وأجور خياطته لدينا ، إضافة إلى أجور النقل المرتفعة بسبب شحة الوقود وأزماته المتلاحقة ، وبالتالي صارت المنافسة محسومة لهذه الألبسة بنوعيها المستوردة والمحلية ، أما الأسباب الأخرى فتتعلق بالواقع المفروض على البلد برمته كالبطالة والانقطاع المزمن في التيار الكهربائي والارتفاعات الكبيرة في بدلات الإيجار .
( البعيد سعيد )
عند حي الكرامة الواقع في أقصى شمالي شرق مدينة الموصل وجدنا سوقاً كبيرا يتناسب حجمه مع هذا الحي الآخذ بالأتساع عام بعد عام ، هناك التقينا بالسيد ( زيد غانم ) وهو صاحب محل لبيع الألبسة الجاهزة الرجالية والنسائية انتقل إلى الحي مؤخرا بعد سنوات طويلة قضاها في بيع القماش بالقرب من مركز المدينة ، سألناه عن سبب إبدال عمله السابق والابتعاد عن الأسواق الرئيسية ؟
- الانتقال إلى مهنة أخرى مسألة صعبة جدا ، وأنا أجبرت على ذلك بسبب الكساد الحاد الذي أصاب مهنة بيع القماش بتأثير من الظروف الأمنية الخانقة ، فلقد كانت تمضي علي أسابيع لا أبيع فيها مترا واحدا من القماش ، وأحياناً كنت أعمد إلى ترك محلي مقفلاً لليأس الذي انتابني جراء ذلك ، ولم يكن الأمر متوقفاً علي وحسب بل على الجميع في سوق ( هزار بزار ) ، وغيرها من الأسواق المختصة ببيع القماش ، والضربة القاصمة التي تلقيتها في عملي السابق كان في رمضان الماضي وهو موسم يملئ فيه الباعة محلاتهم بالبضائع لأن الناس معتادون على التسوق فيه بشكل كبير وخصوصاً الملبوسات ومنها الأقمشة استعداداً لعيد الفطر المبارك . لكن الذي حدث هو أن الوضع الأمني ساء لدرجة أن الناس ظلوا ولأيام طويلة في بيوتهم لا يغادرونها ، وأصبحت عملية بحث احدهم عن قماش يشتريه جنوناً مطبقاً . وكانت النتيجة أنني قررت ترك محلي بعد أن دفعت الإيجارات المتراكمة ، والتجأت إلى هذا الحي البعيد عن مشاكل مركز المدينة وأضفت لمسة جديدة إلى عملي بأن حولته إلى الألبسة جاهزة تكون في متناول الناس لأنها قريبة من بيوتهم ولن يضطروا للذهاب إلى الأسواق البعيدة .
شامل عزيز ( طالب ) : لو قارنا شراء قطعة جاهزة من الثياب بأخرى نشتري قماشها ثم نفصلها لدى الخياط ، لوجدنا أن الأخيرة تتطلب البحث في سوق القماش ثم شراء النوع الملائم والذهاب إلى الخياط ثم العودة بعد ذلك بأيام ، أنها عملية باتت تستغرق وقتا طويلاً فيما أنك سوف تحصل على نفس النتيجة وفي لحظات بسيطة بمجرد الدخول إلى محل لبيع الألبسة الجاهزة .
منال تحسين ( ربة بيت ) : كنا والى زمن قريب نذهب للتسوق أنا وبناتي وأخواتي في السرجخانة أو باب السراي وكنا نجد متعة كبيرة في البحث عما يناسبنا أو يلائم أطفالنا خصوصاً في الأيام القليلة المتبقية قبل كل عيد أو موسم دراسي ، الآن أقتصر أمر خروجنا للذهاب أما لزيارة العيادات الطبية أو لشراء الأمور الأساسية وفي المحلات القريبة من بيوتنا وكثيرا ما اصطحب أحد أبنائي لمرافقتي خشية حدوث شيء . وحتى زوجي الذي كان يحرص على تفصيل ثيابه لدى الخياط أصبح يشتري ثيابه جاهزة وأقوم أنا في البيت بكيها إن كانت قمصاناً ، والبناطيل أعالج طولها بنفسي دون الحاجة إلى ذهابه إلى الخياط .