PostPoems Be Artistic. Be Creative. Be Inspired!

نصف قمر  .. الإنسان والإرادة



أنور عبد العزيز





  هي رواية في ستة وسبعين صفحة ، للقاص نوزت شمدين ، من إصدار دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد / 2002 .

      وهي رواية الصبر والتحمل والتكييف وقوة إرادة الإنسان فيما يواجهه من محن وكوارث .. عادل موظف بسيط يصاب بالعمى وبشكل مفاجئ ، الكارثة التي داهمته لم يكن سببها غير مرض عادي ولم يمهله ، وكان يعاني قبلها من ضعف في بصره يستعين عليه بنظارات ، وقد اتهمه أخوه التاجر مصطفى الأناني المتغطرس والواقعي ورغم كل ذلك فهو الأخ ، أتهمه بإهمال عينيه ، وبأنه هو السبب لما حصل لهما .. ولأن هذه ( الرواية ) هي أول عمل مطبوع يصدر للكاتب إذ لم يسبقها سوى ( قصص قصيرة ) ناجحة نشر القاص عدد منها في الصحف والمجلات العراقية والعربية ، لذا كان حريصا أن يلم بصنعة الرواية ، وأن يكون منتبها لشروط تقنياتها وأهمها كيفية بناء المعمار الروائي وتحريك الشخوص وإدارة الحوار والتعامل مع المكان والزمان وفق ما تفرضه طبيعة الأحداث .. شخصيات الرواية متعددة : عادل موظف الأرشيف والأضابير الذي أصيب بالعمى وأمه وأخوه مصطفى وزوجة أخيه سعاد والموظفة أسماء التي تعمل معه في قسم الارشيف وكانت قد أصاب رجلها عرج سببه حادث سيارة وثمة خالة له مع زوجها السوري في حلب وأبنة لها هي سعاد ، ومن الشخصيات أيضا الحاج محمود ولعادل خال أيضا يأتي ذكره مع اولاده ومن الشخصيات المتحركة عبد الكريم وهو موظف طيب وظريف مما نلحظ الكثير من أمثاله في الدوائر الرسمية، ثم مدير الدائرة والعاملة أم حسن وشخصيات أخرى هامشية .. الموظفة أسماء نراها غالبا _ بسبب عقدة عوقها _ معزولة عن الآخرين وهي امرأة ساكنة وهادئة بلغت الثلاثين من عمرها ولم تتزوج ( تحب الشاي والتمر وحب الذرة ونستله لؤي والخيار والنوافذ الكبيرة ، تمتلك ثلاث تنورات وأربعة قمصان وإيشاربا واحدا ابيض اللون وحقيبة جلدية واحدة تكون منتفخة صباحا بالصمون ) ص 19 ، ويكفي هذا الوصف لعرض هيئتها وطبيعتها وصورتها الشبيهة لعشرات من غيرها الموظفات ، ويمنح القاص أيضاً حيزاً للدكتور فاضل في حوارياته الطبية والإنسانية مع مريضه …

    أول ما نلحظه هو شخصية عادل القلقة المتذبذبة من خلال تصرفات لم تغب عن إنتباهة الآخرين ، وحتى هو قد شخصها كعيوب في نفسه ، ونراه وقد أخذ بصره ينطفئ يوما بعد يوم يحاول التكيف مع حالة العمى الجديدة ويتدرب للتعود عليها ، ونراه في معاناته يهجر كثيراً من سلبياته السابقة مع نفسه ومع الحياة ، وهو مازال يستطيع التذكر لصور ومرئيات الحياة قبل حالة العمى رغم : ( شمس سوداء تتسع حلكة وتضيف الأسود إلى الأسود بلا انتهاء ) ص29 وأيضاً يقول : ( ذكرياتي عن الخضرة والأشياء والطيور والسيارات والأبنية والنساء والتلفزيون تخيفني ) ص30 ، ثم يلتجئ لسماع أصوات الآخرين في محاولة لاستبدال النظر بالصوت فحاسة البصر الملغاة خلقت عنده حساسية فائقة للأصوات …

    استطاعت الرواية أن تنقل لنا وعبر حوارات حية بسيطة اللغة والتعابير ما كان يدور في أهم مكانين : البيت والسرة وعلاقة العمى بمحيطه العائلي ، ثم في الدائرة .. وفي ( حواريات ) البيت والأسرة نجد الوضوح والبساطة في طريقة التعامل وبدون أي تكلف أو تعقيد مما يحدث لهذه      ( الحواريات ) خارج البيت ، وفي هذا استطاع الروائي أن يفرز بين عالمين ك البيت والمحيط الخارجي ، غير انه يجد نفس السلاسة والأنبساطية في دائرة عادل عند الموظفين المخلصين    البسطاء ، خاصة إذا دار هذا الحوار في شعب مثل ( الواردة ) و ( الأرشيف ) ، فمن خلال هذه الأحاديث وتشعباتها نتعرف على الملامح العامة لمثل هؤلاء الموظفين ، وغالباً ما تكون ملامح مشتركة _ وإن تفاوتت _ في العادات والطباع وفي نقل أخبار حياة بيوتهم وأسرهم اليومية ولحالات الفرح أو الحزن التي تنحصر غالبا في مسائل الزواج ونجاحات الأولاد المدرسية         أو إخفاقاتهم ، وفي الهموم اليومية للعيش ، إذ لا نجد فيها ما يقترب من ( الخصوصيات ) بل يظل أغلبها عائما في ( العموميات ) التي يجدونها ويرونها حميمة ، ولا يهنأون ويرتاحون إلا إذا أحسوا بتعاطف الآخرين معها وإشراكهم في سماع تفاصيلها ، ثم تلك التقاليد الوظيفية التي خلقت        و أوجدت فترات استراحة لعمل الشاي والحكايات ، وغالباً فأن اللاتي يقمن بإعداده وتهيئة شبه فطور إضافي أو لمن جاء مسرعاً متأخراً صباحاً وبلا فطور ، المنظفات من ربات البيوت وحتى العازبات هن من يتكلفن _ وبمحبة _ تنفيذ مثل هذه الأنشطة ، ومع فترة الشاي والإعداد لها تنشط الأحاديث بينهم كأسرة واحدة لا تخفي أو تخبئ إلا نادرا من الأسرار .

     في علاقة عادل بأسرته نجد شكواه من ذلك الأخ التاجر ( مصطفى ) الذي فرض هيمنته على كل أفراد الأسرة ، أما علاقته بأسماء فهي مشاعر الحب أو الشفقة والتعاطف التي تنتابهما وتكبلهما معاً ، إذ لم يستطيعا تحديد و إقرار موقف مبكر لهما بسبب معاناتهما من عوقيهما ومن مجمل حياتهما التي بدت أنها لم تكن سهلة .. ومما لوحظ في الرواية ، أنه بقدر ما كانت العلاقة طيبة وحنونة بين الأعمى وزوجة أخيه الذكية النبيهة ، فأن علاقته بأمه _ رغم كل تعاطفها وحنانها الظاهرين _ كان يشوبها نوع من البرود واللامبالاة خاصة عندما كان عادل يلح على طلب عصا تعاونه وتهديه إلى المواقع والدروب دون معرفة أحد .

      إن ابرز واكثر ما في الرواية ظهوراً ووضوحاً هو تأكيدها على الاضطراب الذي عاناه الاثنان : عادل وأسماء ، هو بعماه المهدد بإحالة حياته إلى ظلام كامل ، وهي بعوقها الذي تخجل منه ، رغم أن وسط الأهل والوسط الاجتماعي في الدائرة لم يكونا يشيران أو يعيبان أي من العوقين ، بل كان العكس ، إذ أن الرواية وفي كل تفاصيلها ومداخلاتها أكدت على الجانب الإنساني الإيجابي عند الآخرين تجاه هذين العاشقين رغم أن الحب المضطرب بين المبتلين بمحنة العمى والعرج ظل هو المساحة العريضة الممتدة والتي وظفها الروائي بنجاح في كشف النوازع النفسية الإنسانية عند أمثال هذين النموذجين .. معالجة الكاتب كانت في عمومها إيجابية دون الغرق في السلبيات واتهام الناس بمحاولة السخرية من هذين الكائنين ، بل كان القاص يعمق كل الدلالات الموحية بالتعاطف لا الشفقة مع محنتيهما الكارثية رغم أن لم يرفع الناس لمصاف الآلهة ، بل قدم مجتمع البيوت والدوائر وبما فيهما من بعض النقائص والسلبيات .. ومواقف مثل هذا الإسناد لعادل وحبه ومحنته كثيرة إجتزيء منها فقط موقف زوجة أخيه بشخصيتها القوية الآسرة وتفهمها لمشاعره وأمنياته وعلاقاته حتى بخصوصية علاقته بأسماء والتي كانت زوجة الأخ على علم بأدق تفاصيلها وإشكالياتها .

  الرواية بعد هذا وذاك حافظت على محور رئيس و ( موضوعة ) أعادتها وكررتها وناقشتها أكثر من مرة بتلك ( الحواريات ) السلسة الطبيعية المتوازنة في طروحاتها .. موضوعة الإصرار وقوة الإرادة وعشق الحياة من خلال أطروحة حبه ، وأيضاً من إصراره على الاستمرار في عمله الوظيفي في السنوات التي عانى فيها من ضعف بصره _ ربما الوراثي _ واستعانته بالنظارات ، ثم في مرحلة المرض المفاجئ الذي هدد عينيه بالعمى الكلي ، والى المرحلة الأخيرة وقد فقد أو كاد أن يفقد آخر ضوء يعينه على تبصر المرئيات وإدراك حركتها ، وهو لم ييأس أبداً عندما استدل وبدأ يتأمل عظمة وروعة الخلق لحاسة السمع التي وظفها القاص بشكل واقعي وتحليلي مقنع ومن خلال ( مونولوجات )  داخلية ظل الأعمى يحاور بها نفسه ليصل إلى قناعة أن أحداً لم يكتب     ( تاريخاً للعمى ) حتى الآن ، وانه يستطيع بحاسة السمع المذهلة مواصلة الحياة ، وأنه لم يكن منتبها لأهمية السمع وجدواه يوم كان يتواصل مع الحياة بالنظر ، وبعد أن استفاد مكتشفاً عوالم الناس ودواخلهم من خلال رنين كلماتهم  واهتزازاتها وكشف قدرتها على التعبير صدقاً أو كذباً وتحسسه وانتباهته إلى أدق خفايا الأصوات وهي تصل لأذنيه وروحه ..

  عنوان الرواية : ( نصف قمر ) لم يكن دقيقاً ، ولم يأت معبراً عن أفق الرواية وشموليتها وحركتها الداخلية وصراعاتها وإرهاصاتها النفسية الحادة ومجمل عوالمها ، وهو _ العنوان _ وإن بدا جميلاً في رومانسيته ، إلا أنه ظل شاحباً ضئيلاً ومحدوداً في قوة إيحائه .. الرواية رواية أقدار وعاهات وإحباطات ومواجهات الروح تجاه دواخلها ومع الآخرين ، وجاء العنوان _ مع أهمية تأثير عاطفة الحب في الرواية _ من عبارة وردت ضمن  ( حوارية ) بين عادل الأعمى وحبيبته الموظفة المعوقة وبلسان العمى : ( سألتها : أين كنت ؟ أجابت : كنت أبحث لك عن القمر ، قلت بحزن : لا قمر للأعمى .. أخذتني من يدي وقالت : المس قمرك ، وجدت أمامي      صخرة صغيرة كروية ، قلت لها : هذا ليس القمر ، ردت : هو قمرنا نصفه لك ونصفه الآخر لي ،    قلت هكذا يكون بدراً .. أنا الظلام وأنت النور .. هو لك حتى يضيء بأكمله ، قالت مبتسمة وهي ترفعني إليه : أحتويك وتحتويني .. تضمني وأضمك .. هكذا هو القمر لا يستقر على لون ) ص 45 .

  الرواية جاءت ( موضوعتها ) معبرة عن قوة الحياة النشيطة وإرادة الإنسان ، لم يكن العنوان منسجماً معها ، بدا منفصلاً ، ولم يستطع ترجمة دفقها وحركتها وانفعالاتها ، رغم أن القاص نوزت شمدين أجاد _ ولحد كبير _ في تصوير وتحسس هواجس واضطراب الأعمى واضطراب مشاعره .. كان يمكن للقاص أن يكتفي بتلك ( الحوارية ) طريقاً يوصله بالقارئ ، لا أن ينقل عبارة منها إلى ( عنوان )  _ أعود وأكرر _ بدا ضئيلاً في خضم مجريات روايته الجميلة حتى في نهايتها وقد أستأنس الحبيبان ببعضهما في لحظات تفاؤل وإشراق وثقة بالنفس ، وبعد أن شطبا ومسحا ترددهما الماضي وحسما أمرهما بالتطلع نحو أفق الفرح اللاهب المضيء بأنوار القلب والروح .. عرفنا ذلك من جملة مكتنزة بخمس كلمات انتهت بها الرواية ..

حاولت أن أجعل العصا تتكئ على السور الحديدي ولكنها سقطت منبهة أسماء التي حاولت الانحناء لالتقاطها ، ضغطت على ذراعها ممانعاً وأنا أقول : ( اتركيها .. لم أعد بحاجة إليها ) .