رواية
( نصف قمر )
نوزت شمدين
انطفأ العالم ، لا اعرف بالضبط متى حدث ذلك . استيقظت فلم أجد الضوء . كنت أظن أن الأمر سيحتاج إلى نوع ما من الألم وليس إلى الاسترخاء الذي متعني بالدفء وخدرني بالكسل اللذيذ ، ربما كان من الواجب مقابلة هذا السواد المبكر بقليل من الخوف وتعميق الإحساس بثقل الظلام وقسوته . ولكن يبدو إنني كنت منتشياً بالسهولة التي غاب عني فيها الضوء . ومبتهجاً بالطريقة التي طال بها الليل حتى شبعت نوماً .
جرحني الصوت ما أن اخذ الصباح ينشط خارقا حجابات الجدران والنوافذ والستائر المسدلة مهاجماً سمعي بضجيجه وعنفه . لم أفكر بعزلتي كما يجب لأن أمامي كامل العمر لمعاشرة وجعي المزمن والتألم ببطء حتى الزوال . الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أن يتكرر أبدا هو شعوري السريع والخاطف بسعادة أنني لن اضطر إلى استعمال النظارة السميكة الخضراء التي أكلت نصف وجهي . كنت اعلم أن فوائد اللون الوحيد قليلة جداً وحتماً ستبدو مع الساعات القادمة سخيفة وغير مجدية ولكنها أثارت في رغباتي لهفة التمتع والمغامرة . لم انتبه إلى أنني بدأت احزن . شيء مؤلم أن نمتلك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الأسود . بحثت طويلاً عن ثقة تدفعني إلى حركة صائبة ، إلى مشية مستقيمة واعتيادية تبرهن لأثاث البيت ومنحنياته وطرقه أنني احترم فيه الجمود والثبات .
( 1 )
تركت فراشي ونهضت بالطريقة الآلية التي اعتدت عليها في حضور الصباح ولكنني وأنا افتح باب غرفتي بلا تعثر أو تخبط شعرت بحزن هائل انفجر في قلبي . حزن الأعمى الذي فقد بصره توا وعليه أن يعيش وحده في الظلام .
أحسست بالعيون تتطلع إلى باستفهام وحيرة وأنا اهبط السلم بتثاقل ، ارفع عن قدمي ذيول دشداشتي دون أي اكتراث بالوقت المتسارع . استسلمت لخسارة أن لا أرى أمي مرة أخرى . تخيلتها أمامي تمضغ خبزها بهدوء الخائف على صحته وهي على السجادة الزرقاء تتكئ بفقراتها المتوجعة أبداً على قائمة الأريكة . لا اعلم إن كانت ستنجح في نقل حنانها إلى الموجة الصوتية ولكن ذلك لن يمدني بالثقة الكاملة . ربما احصل على شيء من الشفقة ولكنني حتماً لن أستطيع استعادة زهوي بطفولتي المتأخرة .
سمعت زوجة أخي تقول لي بصوتها البلبلي :
- الساعة تجاوزت الثامنة يا عادل .
عثرت أصابعي على مفتاح الضوء فعلمت أنني احتاج إلى خطوة أخرى . قلت بهدوء :
- لن اذهب إلى العمل .
قالت أمي وأنا اسمعها تعيد تنظيم صينية الطعام بلا مهارة وبكثير من الضجة :
- ستخسر حوافزك يا بني .
قلت لها وأنا اقف بلا حراك في ظلامي الشاسع مثل الكون :
- لن أستطيع الذهاب إلى أي مكان .. أنا الآن أعمى يا أمي .
سمعت رنة صدرها وهي تضربه بقسوة . مات البيت فجأة . كنت أخشى ان لا املك القدرة على الصمود . وجدت أمي تمسك بي . لم اقل لها إنني ضعت تماما ولا اعرف أين يمكنني ان اجلس . تلمست وجهي وهي تلهث . أحسست بثدييها العريضين يسكنان تنفسي المضطرب . قالت سعاد إنها ستتصل بأخي مصطفى ، صاحت أمي وهي تمسح على عيني بكفها :
- هل صدقت .. انه يكذب .
( 2 )
أمسكت بمعصمها موقفاً عبثها بشعري :
- لم اعد اكذب يا أمي .. لقد فقدت بصري .
شعرت بجسامة خسائري . كان الحزن ينمو في أعماقي بسرعة وجنون ، يتسلقني مثل نبتة خبيثة ، الأصوات تبدو عنيفة تارة وخافتة وغير واضحة تارة أخرى وأنا في جمودي غير قادر على تكوين الصورة . من المؤكد إنني سأفقد الكثير من القوة ما دمت لا أستطيع إقناع الذين حولي بشكل تام ومؤكد أن الظلام انتصر . كنت أخشى أن لا أتمكن من تنظيم صدماتي واكتشافاتي المتكررة للألم فلم اكن أتوقع أن أضيع في صالة البيت الداخلية كما حدث لي . شعرت بالخجل فلابد لي من حركة ما أمارس فيها دوري الجديد . من الصعب الآن السير بثقة . ربما من المفيد أن أفكر بإعادة ترتيب البيت بنفسي . ولكن ظلامي لا يمنحني السلطة الكافية . كنت بحاجة إلى أن اغسل وجهي ولكنني إذا لم أجد قطعة الصابون على المغسلة فعلي البحث عنها في الحمام . كما إنني لم أتمكن من اكتشاف منشفتي الخاصة إلا إذا وضعت عليها علامة بارزة . من المؤكد أن أمي تعرف أنني انتظر أن تأخذني من يدي ولكنها تعلم أيضا أن ذلك سيؤلمني كثيرا .
وصل مصطفى بسرعة . أخذت أمي تبكي بانفعال ما إن بدأ أخي ينشر غضبه في إرجاء البيت محملاً إهمالي وبرودي نتائج ما أصابني .
تعامل مصطفى مع عاهتي على أنها وصمة عار فهو يظن على الدوام أننا نستهدف سمعته بأخطائنا . جرني من يدي إلى السيارة دون أن يطلب مني تغيير ملابسي وأمي تستحلفه برؤوس أطفاله أن لا يضرب الطبيب . بدا شديد الانفعال ونحن في السيارة وراح يضغط على الكابح بطريقة هستيرية ويستعمل منبه الصوت بعشوائية . قال بصوت عال ونحن نتأرجح يميناً ويساراً :
- كم مرة قلت لك يا عادل ان هذا الطبيب لا يفهم شيئاً .
أجبته وأنا أحاول التشبث بمقعدي :
( 3 )
- ربما كان علي إجراء العملية في وقت مبكر .. كانت هذه نصيحة الدكتور فاضل .
- وهذا ما سيقوله لنا الآن ، أليس كذلك ؟
- في الحالتين كنت سأفقد بصري .. ماذا افعل وحالتي تزداد تدهوراً يوما بعد يوم ؟
فتح مصطفى المذياع ثم عاد ليغلقه وهو يقول :
- أنت عنيد كالبغل .
سمعت الطقطقة المتكررة لمقدحته وما لبث دخان السيكارة أن تسرب إلى صدري ، قلت مهدئاً :
- ما حدث حدث وانتهى الأمر .
بدا صوته اكثر وضوحاً وقوة وهو يقول بعصبية :
- أنت ابرد من مؤخرة السقا .
* * * * * * * * * *
( 4 )
ما إن دخلنا المستشفى حتى هدأ مصطفى وانقرض انفعاله . تفاعل بشكل فوري مع الأجواء الهادئة للمستشفى الخاص وتأثر بالوجوه المبتسمة والهمسات اللطيفة .
تركني وحدي في الصالة بعناية موظفة الاستقبال وذهب لمقابلة الدكتور فاضل . كنت اعرف الكثير عن هذا المكان و أستطيع أن أتذكر بسهولة لون المقاعد والجدران وقطع السيراميك المليئة بالثقوب المجسمة والموزعة بسخاء على الزوايا والمناضد وكذلك تلك الهضاب الخضر المختلطة بالضباب والملتصقة بمساحات واسعة على القواطع التي تفصل بين الرجال والنساء . ولكنني كنت شديد الخوف من حقيقة أنني أتحرك خارج البيت وأنني أصبحت الآن على خلاف تام مع هذا العالم الواسع الذي لا يحتاج إلى عينين فقط . في تاريخي الطويل مع ضعف البصر كنت اصطدم مع هذا العجز الكبير الذي تتركه الحواس في الإدراك . كنت اشعر أن ما حولي يحتاج مني إلى معرفة اكبر . يحتاج إلى أن استخدم معه كل ما املك من وسائل التحقق أن آكل ما حولي وأشربه واتنفسه وأحتك به وألامسه بكل مساحات جسدي حتى أتعرف عليه بشكل صحيح . هذا الشبق هو الوسيلة الوحيدة لتجاوز الخوف من عالمي الأسود . اقتربت موظفة الاستقبال مني وأخبرتني أنها سترافقني إلى الدكتور فاضل .
أمسكت بي من ساعدي وعاونتني على النهوض . لم اكن وقتها قد انتبهت لمشكلة حركة الرأس فعملية انتظار الصوت تجعل عضلات الوجه في حالة شد دائمة وتتطلب يقظة وسرعة استجابة مثل الرمي ببندقية على هدف متحرك ، فعندما تنطلق الكلمة من فم محدثي أكون مجبراً على مطاردة ما يليها وان استخدم جسدي كله للحصول على التركيز والانتباه الكامل ، كانت يد الموظفة رقيقة مدربة على الرفق بالإنسان . ذكرتني على الفور بيد أسماء وهي تلمسني في آخر يوم لي مع الضوء ، قلت لها ملاطفاً وأنا أحس بطغيان ليونة ثديها :
- أستطيع ان أسير بشكل أسرع .
اعتذرت وهي تشد على ساعدي بقوة مستسلمة برحمة لخبث ترنحي والتصاقاتي المتكررة بها .
( 5 )
استقبلني الدكتور فاضل بترحيب يخالطه الشعور بالأسف . بدا ذلك من صوته الرفيع المنكسر الذي لا يتناسب مع جسده الضخم وكرشه العظيم . أخذتني الموظفة بيد فيها عنوسة وقادتني إلى مقعد دوار بلا مساند . انشغل الدكتور بالرد على أسئلة مصطفى الذي ظهر شديد الانبهار بملاحظات الدكتور فاضل وأجوبته الدبلوماسية . اخذ جسدي ينز عرقاً بارداً ما ان اقترب الدكتور متلمساً وجهي . قلت له على الفور لأجنبه الدخول في معالجات كلامية لافائدة منها :
- أنا بحاجة الى تقرير مفصل حول حالتي الصحية ، أقدمه إلى الدائرة ، رد وهو يباعد ما بين أجفاني :
- لا تتحرك .. دعني اعمل .
تعامل بخفة مدربة مع أدواته ، يلسعني بين الحين والآخر ببرودة حديدية متفوهاً بكلمات إنكليزية تستجيب لها الممرضة صاحبة اليد اليابسة وأخي يصف للدكتور صدمته لحظة أن شاهدني هكذا . لم يستغرق الفحص الكثير من الوقت ابتعد بعدها الدكتور ثم عاد ليربت على كتفي قائلاً :
- أنت تعلم أن حالتك الآن صعبة للغاية وتحتاج منك الى الصبر والعناية الفائقة بصحتك .. أنا لا أعدك ولكن عليك ان تعاونني . أجبته بفتور :
- اعلم هذا .
قال بحنان باهظ :
- علينا أن نجرب نوعاً جديداً من العلاج وبعدها نقرر صيغة المعالجة الجراحية ، ولكن عليك أولا أن تكون مؤمناً بوجود الأمل وبحتمية النجاح .
قلت له ببرود :
- أنا لا أؤمن بهذا .
( 6 )
أحرجته كلماتي ولكنه استدرك الأمر بضحكة بدت حقيقية :
- الحالة النفسية مهمة جداً فلا تكابر .
قال مصطفى :
- اسمع الكلام يا عادل .
عاد الدكتور فاضل ليربت على كتفي قائلاً بصوت حاد :
- سأنتظرك في عيادتي الخاصة بعد الثامنة مساءً فلا تتأخر .
طلبت من مصطفى ونحن نخرج من المستشفى أن يقابل الدكتور فاضل في عيادته مساءً ويحصل لي منه على التقرير الطبي لأنني لا أرغب في الذهاب أليه مرة أخرى فهو لا يفهم شيئاً . لم يعترض وواصل عبثه بالمذياع طوال الطريق إلى البيت دون أن يستقر على أغنية .
* * * * * * * * * * * * * *
( 7 )
وجدت البيت وقد امتلأ بخالاتي وعماتي وأختي فاطمة استقبلنني بالبكاء والنحيب وايديهن تتلمسني بمحبة كما يفعل التمني بهن أمام ضريح مقدس . تجاوبت مشاعري مع تلك الاحتفالية ورحت أبادلهن الحزن بالحزن . كنت اجلس بينهن مثل طفل أجريت له عملية ختان وشيئاً فشيئاً آخذت الأصوات تتفرع مخاطبة غيري وأنا أجاهد في البحث عما يخصني حتى أيقنت أن الأفواه قد توزعت على المطبخ وخلف الأبواب وأنني وحدي مثل مكنسة فعلت ما يجب أن تفعله وتركت مهملة في ركن بعيد .
بهدوء الأشباح انسحبت إلى غرفتي . أغلقت الباب بالمفتاح وجلست على السرير . في مثل هذا الوقت تكون الشمس قد اقتحمت غرفتي . ما زلت أجد في الحرارة المعنى الأكثر رسوخا في عالم الأصحاء . ربما يتوجب علي البدء في مكافحة الكثير من العادات المتعارضة مع الظلام . الشيء الوحيد الذي وجدته يلائمني اكثر من أي شيء آخر هو أن غياب الأصوات يخلق الشعور بالاسترخاء والنعاس ويقلل كثيرا من فداحة الكارثة . فكرت وقتها أنني سأعتاد على البحث عن حاجتي فقط وهذا ما يجعلني أتصرف بأنانية وربما بحقد أيضا . أنا في الثلاثين وأمامي الكثير لاعيشه وافعله وهذه هي المشكلة . في مراهقتي الطويلة مع ضعف البصر تعلمت أن المرء لا يستطيع الاعتماد على الآخرين مهما تشعبت السبل وكثرت الفرص . في عملي الإداري اجتهدت كثيرا في إظهار الحرص والالتزام لان هذا هو تفوقي الوحيد . عملت في الدائرة كالحمار متخطيا بذلك غرابة ان الصق الورقة بأنفي ورغم هذا استطعت ان آري الماسة الكبيرة المدفونة في قلب أسماء موظفة الأرشيف . العاهات تتجاذب باستمرار وتجد الطريق إلى ما يماثلها بيسر يشبه المعجزة ولكن ليس إلى حد الفوز بالأمنية . ألان أستطيع أن اعتقد بلا جنون أو تهور أن السيارة التي صدمتها عندما كانت تعبر الشارع خارجة من امتحان اللغة العربية للصف السادس الابتدائي محدثة هذا التباين الملحوظ بين الساقين كانت تعرف بأنني ساكون معها في حياتها الجميلة دون أن ارغب في رؤية الفرق وأنني في يوم ما ساكون شجاعا وانظرأليها من خلف نظارتي الثقيلة الخضراء وأنا أنق أمامها كضفدع عاشق دون أن اعرف على وجه الدقة لون الطلاء الذي تضعه على شفتيها . ليس للون أية أهمية ما دمت اعرف بأنها تبتسم .
( 8 )
سمعت طرقا خفيفا على الباب . وجدت أختي فاطمة ترغب في معرفة إن كنت اشعر بالجوع الآن .
سألتها :
- وانتم ؟
ردت باضطراب :
- سنأكل أيضا .
قلت لها :
- لا احب أن أتناول طعامي هنا … سأنزل معك .
عملت أمي على عزل أطباقي بعد ان حصرتني في ركن مفرش النايلون وبالمقابل أشعرتها حركة يدي السريعة والواثقة أنني اعرف أين أضع معلقتي وأنني لن أثير سخرية أبناء فاطمة الشياطين .
* * * * * * * * *
( 9 )
قديما كنت اعتقد بان الناس اكثر قدرة على الارتباط بالذاكرة . كان المستقبل بالنسبة لي ليس اكثر من امتحان صعب لا تتغير فيه القناعان وانما تزداد رسوخا مثل بذرة صغيرة تنبت لتصبح شجرة . كنت انظر إلى قرص الساعة فلا أجد أي جديد في حركة العقارب . وارى أن كل دقيقة ادخل فيها تشبه التي ذهبت . ظننت مدة أن بمقدرتي الحزن طويلا على الأشياء التي عادة ما تتعرض للضياع . كنت وفيا لأخطائي وفشلي ، ومعرضا في أي لحظة إلى الأيمان بان حياتي قد توقفت . يصعب الآن فعل هذا ، برغم قناعتي بأنني كنت اكثر تعقلاً . الأعمى لا يستطيع أن يحزن طويلاً على شيء واحد . في الماضي كان بإمكاني أن التزم زمنا شاسعا بتصرف يؤلمني . لا اقدر الآن على ممارسة هذا الوفاء الجميل ففي كل دقيقة اكتشف أنني فقدت شيئاً غاليا لا يمكنني العيش بدونه . عواطفي الآن مثل ثوب كبر جسمي عليه وبات من الضروري أن يستعمله غيري .
اكتشفت بسرعة أن من الجرم محاسبة نفسي وأنا بحواس أربع وان من الواجب التفاهم بشكل اكثر تحضرا مع شبح الضمير . اللون الأسود هو نصف الزمن ونصف مساحة الكرة الأرضية وهو الاختيار الوحيد للنوم والراحة . لاأحد يستطيع البقاء في الضوء مدة طويلة ، أبي مات منذ زمن بعيد . نحن نذكره كثيرا ، نترحم عليه ونزور قبره في الأعياد ، وأمي تفعل أشياء بالنيابة عن روحه الطاهرة ولكنه مع هذا لا يعيش بيننا وليس لأسمه أي سلطة . لماذا أنسى أذني وانفي ولساني وأصابعي واتذكر ببصري فقط ؟ لماذا احرم أذني من سماع صوت المذيعة عندما لا أستطيع أن أرى بعيني جمالها على شاشة التلفزيون . ما فهمته بشكل سريع وفوري منذ أول صباح هو ان علي الاستمرار في الحياة ولكن آسرتي لم تكن تدرك هذا . تجدني صابرا وهادئا ومستريحا برغم أنني في كل لحظة اشعر بالضيق من عدم انتمائي إلى هذا العالم . الليل يواسيني ، يلفني بحنان ورحمة . غياب البصر حالة معقدة وتسبب الضجر وتخلق الكثير من الأفكار المقززة ولكنها ليست مميتة . كنت كلما انتقلت من مكان إلى آخر شعرت أن البيت قد اضطرب وكأن جملاً تائها دخل عليهم وأربك
( 10 )
مرورهم أو أن قطاراً مسرعاً ثقب الجدران وحطم الأثاث ثم ابتعد بضجيجه ودخانه . حزنت كثيرا لأنني لا أستطيع رؤية إيمان واحمد أبناء مصطفى ، الولد في الصف الثالث الابتدائي ، عليهما أن يكبرا بسرعة وان يغيرا ملامحهما مع مرور الزمن دون ان اعرف ما حدث لوجهيهما . لم يدركا مثل الكبار خطورة وجودي في البيت بل على العكس شعرا بسعادة بالغة لأنني لم اعد اذهب إلى العمل صباحاً والى الكازينو مساءً .
تعلقت بهما وجندتهما لفعل أشياء تتعارض مع صلاحيات الدلال . أخذا على عاتقيهما مهمة تنظيف الطرق وتمهيدها لخطواتي . كان احمد يراقب بحرص فوضى الكبار ويعيد الأشياء إلى أماكنها بسرعة كي أتمكن من إجراء تمريناتي بيسر خاصة بعد أن طردت إلى الأبد فكرة الاستقلال في الطابق الثاني . في البداية لم انتبه إلى عدم امتلاكي حق التصرف وسرعان ما حرصت على عدم ترك ظلي الثقيل يعوق الحياة اليومية في البيت .
* * * * * * * * * *
( 11 )
لم يستطع مصطفى كتم انفعالاته . كان يستغل بدهاء هفوات امرأته ليعلن تذمره وانزعاجه ، وامي تهرب مني وتتصرف كالفئران ظنا منها أنها تعاقب نفسها على ظلمها إياي . مصطفى هو الأذكى وقد نجح في سلبنا الشعور بالأمان طوال السنوات التي عشناها معه في البيت . لم تتمكن أمي من الوقوف أمامه فهي تعرف إنني أتدحرج سريعا إلى مصيري المحتوم دون استراحة . ربما ظنت في لحظة أمومة أنها ستعيش لي إلى الأبد وأنها ستتصرف على الدوام كأم حريصة وقادرة على حماية ابنها لذلك جعلتنا نبيع حصتنا في بيت أبينا إلى مصطفى ونذهب أنا وهي وفاطمة لنستأجر بيتا صغيرا في أطراف المدينة . وعمل أخي جاهدا على إيجاد وظيفة لي في دائرة مشاريع الشمال . تخلصنا من فاطمة بسرعة وراحت بخصوبة أرنبية تلد الولد تلو الآخر حتى نستنا تماما . كانت أمي تسمع كلام مصطفى الذي برع في إدارة شؤوننا وتمكن بالتالي من إقناع أمي بضرورة تنمية ما في حوزتنا من مال . استرد مصطفى ماله مقابل أرباح لاتقبل الزيادة أبدا وتتعرض بين حين واخر إلى خسارات متفاوتة .
بعد سنتين طالبنا صاحب البيت بالإخلاء لانه يريد أن يزوج ابنه ويسكنه فيه . اكتشفت أن أمي جعلت عقد أيجار البيت باسم مصطفى وقد استغل مالك العقار هذه الثغرة لطردنا بعد أن اثبت أن مصطفى لا يملك بطاقة سكن في المنطقة ولا يستغل البيت . كنا نظن أن مصطفى سيعالج الأمر ولكنني عرفت بعد ذلك انه قبض مبلغا من المال مقابل الإخلاء . وفي يوم غائم جاءنا بسيارة كبيرة قائلا لأمي أن المحكمة لن تحكم لصالحنا ثم ملأ السيارة بأثاثنا وذهب بنا إلى بيته .
وعدتني أمي ان تبيع الأثاث والأجهزة الكهربائية وتضع ثمنها في البنك بأسمى ولكن خجلها غلب أرادتها وجعلها لا تستطيع جرح طيبة سعاد وإنكار فضل مصطفى علينا و أقنعت نفسها أنها هي التي تستعمل الغسالة والطباخ والمدفأة وباقي الأدوات إلى أن غابت في المطبخ إلى الأبد .
عاشت خالتي نجاة سنوات طويلة مع زوجها السوري في حلب إلا أن ابنتها سعاد كانت الأكثر قربا منا والأقدر على لجم طموحات مصطفى . كانت تتميز بذكاء غريب وقدرة فائقة على توجيه أهدافها بالاتجاه الذي يتفق مع مصالح الجميع وبرغم أن خالتي نجاة عادت إلينا مع ابنتها بعد وفاة زوجها وابنها البكر خالد في
( 12 )
حادث سيارة . إلا أن أمي تعامل سعاد على أنها ضيفة عزيزة فتحيطها بالرعاية وكأن ليس لسعاد دور في هذا
العالم سوى الجلوس لانتظار مصطفى وصينية الطعام واستكان الشاي . عاملتني سعاد برقة فقد كانت تتمتع بإرادة قوية وقدرة نادرة على ضبط النفس . وفي المقابل كنت أحاول أن أكون مثل أمي دائم البحث عن شيء يشغلني .
لم استطع إدامة علاقتي بالأصدقاء القدامى الذين كانوا يتغيرون بسرعة فائقة وينتقلون باستمرار من حال إلى آخر . كنت اكثر قربا من شيوخ الحي ولكن فائدتي كانت قليلة . فهم لا يستطيعون الاعتماد علي في الإمساك بقلم الرصاص الصغير جدا والكتابة به مسجلاً على البياض الورقي الضيق ، انتصاراتهم في الورق والدومينو . فأذا ما سقط مني القلم الذي بحجم فلتر السيكارة فلا أمل لي في إيجاده كما إنني لا أجيد الكتابة بخط مجهري كالمحترفين وكانوا يجدون في ابتسامتي البلهاء إهانة لهم لأنني لا أستطيع رؤية عبقريتهم بوضوح من خلال نظارتي الخضراء .
كنت مجبراً على الذهاب إلى الكازينو والعودة ليلاً برفقة جارنا الحاج محمود الذي يعيدني إلى البيت ويدق لي الجرس ليختم بي حسنات يومه ، لأن الليل يجعل من نظارتي مانعاً يصعب اختراقه . الآن وضعي افضل بكثير فلست مجبراً على الذهاب إلى أي مكان . الظلام ثقيل ومتماسك . يخيل ألي انه ليس محض لون او صبغة ثخينة انسكبت على ضوئي . انه شيء أستطيع المضي فيه عميقاً . ربما سأتمكن في يوم ما من اكتشافه ومصادقته إلى حد الحب .
كانت سعاد تمتلك حساً عميقاً وتحاول دائماً البحث عن فراغ تمنحني فيه سمعها . لم أتردد في إبلاغها بتفاصيل علاقتي الخاصة بأسماء . اعتقدت في البداية أنني أسعى إلى خطوة اكبر مثل أي رجل في العالم من حقه أن يفكر في تكوين أسرة . لم تكن تعلم أن ضعف البصر أورثني الخوف وجعلني لا أبحث عن حقوقي البشرية مثل الخلق . فيما مضى كانت النظارة اثقل من رأسي وغالباً ما تسقط مني وكانت أمي تزيد بكائي بكاءً كلما عدت من المدرسة والنظارة مكسورة في جيبي . كانت تظن أنني احب اللعب ولا أحافظ على نظارتي
( 13 )
كما يجب ، والحقيقة هي العكس تماماً . كنت قليل الحركة أسير ورأسي إلى الخلف ، أحاول التوازن مع نظارتي مثل لاعب سيرك يحمل كأساً من الماء على جبينه . لم يكن لي صديق العب معه لأنني لم استطع لعب الكرة والركض مثل الأولاد والاختباء وتسلق الأشجار ولا حتى مطاردة كريات الزجاج بأصابعي . حاولت مراراً إبلاغها بحقيقة الأمر ولكنها لم تصدق ، ربما لأن مظهري كان يوحي بالشر فعندما يطول شعري كثيرا حتى يصير مثل عش اللقلق يكون من الصعب النظر ألي دون امتلاك البرهان على إجرامي وسوء أخلاقي . في الصباح كانت تربط النظارة حول رأسي بشريط من المطاط يحصر الدم وأبقى ساعات عديدة بعد المدرسة احك موضعه بعصبية اجرب . أثارت هذه الطريقة سخرية زملائي . جلبت لهم العار ! . كنت أبدو مثل هر أخطأ في مد رأسه من شباك الصف منتهكاً قدسية العلم والشقاوة . أجبروني على البقاء في مقعدي الخشبي أتطلع إلى السبورة بغباء لأنني كنت نقطة الضعف الوحيدة في عصابة الصف الثالث – ب - . كانوا يأخذون مني النظارة في الفرصة وأستردها قبل دخول المعلمة ، وأجلس بمفردي يقيدني الخوف من العودة إلى البيت محتضناً حقيبتي بقوة خشية ان تسرق مني المسطرة وقلم الرصاص . عشت حياتي كلها لا أقوى على الحركة ، أسماء هي الوحيدة التي جعلتني لا أحب الجلوس في مكان واحد .
كان أخي مصطفى على علاقة وثيقة بمدير دائرتنا وقد توسط لأحصل على الوظيفة . وضعوني في صدر حجرة الواردة اكتب في سجل كبير أرقام الكتب التي تصل إلى دائرة مشاريع الشمال وتواريخها . كنت أجد اكثر من فرصة للنظر بتمعن إلى حجرة الأرشيف حيث مكتب أسماء . اعلم أن هذه العادة غير جميلة ومع هذا مارستها بشغف واستعملتها مع النساء في غفلة منهن لأنها الطريقة الوحيدة لي في دراسة هندسة الأنوثة . لم يكن الأمر يحتاج إلى قوة بصر ، فبنايتنا تمتاز بكونها صغيرة الحجم واقتصادية ومرافقها قليلة المساحة أسوة بالبنايات الحكومية التي تماثلها شكلاً ، وقد تراصت على امتداد الجهة الغربية من شارع الربيع . كانت المسافة بيننا قصيرة نسبيا والممر الذي يفصلنا شديد الضيق الأمر الذي جعلني أتمكن من رؤية أسماء وهي تنظر من نافذتها العريضة المطلة على الشارع الفرعي . لم يكن شكلها يثير أحدا ، تبدو قطعة
( 14 )
تعليمية ينقصها المهارة ، نحتها أو رسمها طالب مبتدئ في معهد الفنون الجميلة . شيء زائد مثل بقايا قماش أبعده المقص. كانت تبدو جامدة على الدوام تتطلع بانكسار إلى ما يمر بها . لم تكن تحدث تلك الضجة التي تفتعلها الموظفات اليائسات . ساكنة وهادئة برغم وصولها الثلاثين . تحب الشاي والتمر وجبس الذرة ونستله لؤي ( أم الفستق ) والخيار والنوافذ الكبيرة . تملك ثلاث تنورات وأربعة قمصان واشارباً واحداً أبيض اللون وحقيبة جلدية واحدة تكون منتفخة صباحاً بالصمون . كنت ارفع لها يدي اليمنى على طريقة تماثيل مدينة الحضر ، وأنقر بسبابتي اليسرى على المنضدة معلناً لها أن الشاي بدأ بالغليان ، فتنهض سائرة نحوي حاملة قدحها الخزفي الأبيض ، كانت حجرة الواردة مطبخنا الصغير ، نستخدم ( هيتر ) أم حسن ونتشارك في شراء الشاي والسكر ، كنا نتكلم عن أشياء تافهة عندما لا نعثر على عبد الكريم بيننا . نتحدث بشهوة طفولية عن أفلام الكارتون ونتناقل أخبار الفنانين . كانت تعلمني دائماً بنتائج دوري كرة القدم دون أن تعرف بأنني لا احب الرياضة .
كانت تقص علي أحداث الحلقة التاسعة من مسلسل ( القلب الكبير ) عندما خلعت نظارتي ورحت امسحها بمنديلي . انقط حديثها فجأة . قالت لي وأنا انظر في وجهها :
- أنت تشبه كاظم الساهر !
سألتها :
- هل تحبين كاظم الساهر ؟
قالت وهي تنظر الي بطريقة غريبة :
- احبه عندما يغني لنزار قباني ..
زاد الموقف غموضاً بالنسبة لي . سألتها من جديد :
- هل أشبه كاظم عندما يغني لنزار أم لكريم العراقي ؟
( 15 )
ردت على الفور :
- كلا .. أنت تشبهه عندما يتحدث في لقاء تلفزيوني ..
شعرت بخيبة لأنني كنت أظن ان كاظم شديد الخجل عندما يتكلم في التلفزيون . حاولت أن أضع النظارة على عيني فاستوقفتني قائلة :
- لا تفعل هذا يا عادل .. أنت جميل بدونها .
* * * * * * * * * * * * * *
( 16 )
قبل شهرين من فقدي البصر ظنت سعاد أنني لن اقبل أن تكون أسماء في بيت وأنا في آخر . أمي لا تفكر هكذا لأنها لا تؤمن بعدم قدرتي على تقديم إثباتات نضوجي التام . لم انجح في توفير الاطمئنان لغيري وفرض الإيحاء بقدرتي على التصرف السليم . كنت دائما بحاجة إلى المساعدة وهذا يتعارض مع ما كانت تظنه امي انه هبة ربانية للمخلوقات الذكرية وصفة لابد من توفرها في الرجل الذي يفكر في توسيع سريره .
سمعت ضجة كبيرة في الأسفل . أخي يفعل هذا بشكل يومي ، وعودته لتناول الطعام مناسبة لاستعراض همومه والثأر لها . لم اكن اشهد هذه الاحتفالات باستمرار إلا عندما يعود مصطفى في وقت متأخر أكون فيه قد أنهيت عملي وقطعت المسافة بين الدائرة والبيت مشيا . ورث أخي مهنة تجارة الزجاج عن أبي ، ولكنه توسع كثيرا وأخذ يتطفل بماله على المهن الأخرى فيشارك هذا ويضع ماله عند ذاك مشترياً لرأسه المزيد من الوجع . يفعل ذلك بسرية تامة وكنا في كل يوم نكتشف عن طريق الأصدقاء والمعارف وحب أمي الشديد لجهاز الهاتف انه دخل في مشروع جديد وخرج من آخر دون أن تظهر النعمة عليه ربما بسبب خوفه الشديد من الحسد . كان يمتلك جسدا ممتلئاً بالشحم ، سريع الاحمرار والغضب . في عينيه الغائرتين نظرة جوع ، وقد تكاثر الشعر فوقهما في خطين كثين زادا من سطوته . وجدت أمي وقد تبللت بالخجل ، افترسني مصطفى بعينيه قبل أن يقول لها بصوت مرتفع :
- إذا أراد عادل أن يأخذ دكان القيصرية فلن أعارض . انه ماله ويستطيع التصرف به كما يشاء .
نظر ألي وهو يملأ فمه بالرز . ابتلعه وعاد ليقول :
- وإذا أراد ان يتزوج فما عليه سوى أن يشير بإصبعه إلى أية امرأة .
ظهرت الدهشة على وجه أمي . انسحبت إلى المطبخ وأنا اسمعه يتابع :
- السوق واقف يا أمي .
وجدت سعاد تغسل استكانات الشاي وتضعها في صينية فضية مزخرفة . سألتها :
- ماذا فعلت خالتك أم مصطفى ؟
( 17 )
ضحكت وهي تقول :
- لم تفعل شيئا أنا السبب هذه المرة .
- وأنا كبش الفداء أليس كذلك ؟
مسحت يدها بثوبها وقالت هامسة :
- سأزورك غدا في الدائرة .
- لماذا ؟
- لدي صديقة أريد رؤيتها .
لم أتوقع أن تقوم سعاد بهذه الخطوة . طلبت منها ان تتصرف وكأنها لا تعرفني فأنا لا أريد أن أكون علكة في أفواه الموظفين . لا أدري لماذا ظننت أن أسماء ستغضب حال معرفتها بهدف الزيارة . حاولت تجنب الحديث معها طوال الساعات الأولى من الدوام ومن سوء حظي انني لم احظ بجلسة جمعتنا معا أطول من تلك التي حدثت في يوم زيارة سعاد . كان عبد الكريم قد ترك الحجرة في وقت مبكر والحركة في الدائرة كانت قليلة جداً الأمر الذي جعل أسماء تسترسل في الحديث معي مدة طويلة . هي مثلي تمتلك القدرة على عدم التفكير في كلامها قبل نطقه . وأحياناً تبدو تصرفاتها غير قابلة للتأويل . عفوية الى حد الجنون وغامضة الى حد الأنوثة . كنا نتحدث على الدوام في أمور بسيطة لا تحتاج إلى زمن كالذي نهدره . عادة ما تنغمس في كلام عن المطبخ وتربية الأطفال وأسعار الطماطم والباذنجان ، وغالباً ما نكرر الكلام بلا ملل وكأننا نريد أن نبرهن لأنفسنا أننا لا نملك شجاعة أن نقول الحقيقة . اكتشفت أنها لاتفعل هذا مع الجميع فهي تبدو لباقي الزملاء انسانة ينقصها الذكاء والجمال والموهبة . ملامحها آسيوية وجسدها منبسط يخلو من المنحنيات ولكنني كنت أجدها متوهجة الإحساس ومكتملة إلى درجة الخوف .
شعرت أسماء بارتباكي وظنت أنني ربما أريد الذهاب إلى التواليت . احمر وجهي أمام هذا التعبير الغريب وسرعان ما تضخم الأمر في نفسي حتى صار جرحاً . وجدتها مسترخية تماماً وغير قادرة على التراجع . أسرعت قائلة أنها هي أيضا تشعر بأن مثانتها تكاد تنفجر . ثم نهضت وغابت عني دقائق وعندما شعرت أنها
( 18 )
قد تغيرت . أظنها وضعت القليل من الكحل ولونت شفتيها فقد بدت لي جميلة ومضيئة مثل القمر . بعدها تكلمنا عن الأفلام العربية القديمة واستطعت ان اسالها ونحن نتلكم عن العواطف والعصر الرومانسي إن كانت تعرف عدد القبلات التي طبعها عبد الحليم حافظ على وجه ميرفت أمين في فيلم أبى فوق الشجرة . سألتني عن العدد وهي متشوقة للمعرفة ولكنني لم استطع استغلال الموقف كما يجب وقلت لها ببرود أنني لا اعرف . ظنت أنني لا أريد البوح بالعدد وراحت تخمن وتعصر ذاكرتها وأنا اشتم نفسي في سري على تهوري وانحلالي واخذ الضياء الذي في وجهها يخبو شيئاً فشيئاً حتى انطفأ مع نهوضها وعودتها مع قدحها الخزفي إلى حجرتها .
قبل نهاية الدوام بساعتين شاهدت سعاد تدخل إلى حجرة الأرشيف وتجلس مع أسماء التي ظهرت مرتبكة جداً . دام اللقاء قرابة الربع ساعة ثم رأيت سعاد تخرج مسرعة . أكلني القلق . حدث ذلك بعد أن شربت الشاي مع أسماء لذلك كان من الطبيعي أن لا نتكلم مرة أخرى ولكنني لاحظت أنها لم تنظر من النافذة كعادتها بل راحت تلعب بأصابعها وهي مطرقة .
عدت إلى البيت . صعدت إلى غرفتي دون أن اكلم أحدا . لم ارغب في حدوث هذا ولكنني لم استطع الاعتراض . كنت احب أن نبقى إلى الأبد نشرب الشاي معا ونتحدث عن برامج التلفزيون . صادتني سعاد في حجرة الجلوس . كانت أمي تنقل أطباق الطعام لتغسلها في الفسحة التي في ظهر البيت . جلست بجواري . مالت بجذعها إلى الأمام مستندة بمرفقيها على ركبتيها قالت بهدوء وهي تلصق كفا بكف :
- أنت يا عادل تستحق امرأة افضل .
لم اقل شيئاً . استخدمت إبهامي لعد أصابعي . مطرقا برأسي .
* * * * * * * * * * * * * *
( 19 )
استغل مصطفى فرصة وجود خالتي نجاة وأختي فاطمة ليوبخني على عدم رغبتي في مواصلة العلاج . كان الزحام قد خف في بيتنا بعد مغادرة خالي سعيد مع ابنه امجد وبناته : ابتسام وخولة ونضال . أجبرتني أمي على الذهاب إلى الحلاق برفقة احمد ، وعندما خرجت من الحمام أصرت على أن البس دشداشة بيضاء كانت قد كوتها أثناء غيابي ومسحتني بعطر زيتي فبدوت بزينتي ونظافتي وتقاطر الزوار كالعائد من الحج ولكن مصطفى افسد علي إحساسي بخفة الظلام وغياب الهم وراح يتحدث أمام خالتي عن زيارته للدكتور فاضل في عيادته وكيف أكد الرجل وجود الأمل وضرورة متابعة العلاج والخضوع بشكل مستمر للمراقبة الطبية .
وجدت صعوبة في النضال من اجل موقفي . قالت لي خالتي نجاة بصوتها الخشن :
- العناد ليس في صالحك .. عليك ان تفكر في شبابك ومستقبلك .
بدا الارتياح في صوت مصطفى وهو يقول :
- يشهد الله إنني لم اقصر في واجبي ، وأنا على استعداد لإرساله إلى الخارج إذا تطلب الأمر هذا ولكنه لا يريد مساعدتي .
قلت بتوتر :
- لا يمكن نسيان فضلك وأحسانك ورعايتك ولكنني لا أريد الركض خلف السراب .
شعرت بالضيق فقد كان علي الجلوس لسماع كل أنواع الكلام . النور حرية . من المفيد أن يفقد الإنسان بصره في وقت مبكر فهذا يجعله يدرك قيمة ممتلكاته . يعذبني الشعور بالذنب فحياتي لم تكن مسالمة كما كنت أظن فقد عشتها بتهور اكثر مما ينبغي . أنا الآن مثل مجرم سابق تطارده أخطاء الماضي ولا يجد لنفسه الراحة .
( 20 )
عشت عمري دون انتبه لأذني . في أحيان كثيرة كنت اكره هذا الثقب الذي ينزف صمغاً اصفرا وأفقد هدوئي كلما دخل فيه الماء أو الصابون . في هذه الأيام أتسلى بتدليك صيوان أذني ، أتلمس التجاويف
والمنحنيات . أشعر بفرحة كبيرة لامتلاكي هذا الجهاز العظيم والخارق . اعتقد أن علينا المحافظة على آذاننا بطريقة افضل فلا ننطق بأشياء غير مفيدة احتراماً لها . الأذن عضو عجيب وحضارة الإنسان تبدو زائفة وغير مجدية وضئيلة جداً مقارنةً بهذا الثقب الصغير في رؤوسنا . كيف يستطيع هذا العضو المسالم احتواء أصوات العالم وضجيجه ولا يرد بشيء ؟ إنها حالة فائقة من حالات الكرم والتسامح والصبر وأداة من أدوات الحب فالأذن هي الجهاز الوحيد الذي يملك ذوقاً رفيعاً ، يستنكر القبيح ولا يتأثر بالفقر . من الصعب الإمساك بهذه السعادة خارج حدود الظلام .
كان علي إقناع أمي أنني لا اشعر بالحزن . احتاج الأمر إلى نوع من خفة الدم . كنت اطلب منها أن لا تصدر صوتاً لأشعرها أن ظلامي الأبدي محض عصابة شدت على عيني لغرض التسلية فأبحث عنها لأفوز عند الإمساك بها . امتلكت شجاعة أن اضحك وأن أضمها بحب وأمسكها من ثوبها لتجرني خلفها كطفل صغير ، ولكنها هذه المرة لم تكن مستعدة لتصديق كذبتي . هي تثق دائماً بقدرة خالتي نجاة على التفكير بشكل سليم . فهي امرأة محبوبة وسافرت كثيراً وشاهدت الدنيا وقلقها يثير الوساوس في صدر أمي .
انتبهت إلى أن فاطمة تطارد سعاد في كل مكان . سمعتها تتحدث مع زوجة أخي في المطبخ وهي تجاهد في إسكات ابنتها مريم التي كانت تصرخ بشدة .
صاحت خالتي :
- البنت ماتت من الجوع فاطمة .
انقطع صوت مريم ما أن جاءت سعاد وأخذت مصطفى إلى الحجرة . سمعنا جرس الباب . نهضت أمي بتثاقل . ربتت خالتي على فخذي قائلة :
- أخوك يريد مصلحتك .
أجبت بفتور :
- أعلم هذا
( 21 )
عادت أمي لتخبرني أن شخصا يدعى عبد الكريم جاء لزيارتي . انتقلت إلى حجرة الاستقبال وتبعتني أمي لفتح الباب الخشبي ، ضمني عبد الكريم إلى صدره ، شممت من ثيابه رائحة البنزين . كانت هذه هي المرة الأولى التي يزورني فيها . خاطب أمي بود وكأنه يعرفها منذ زمن طويل واستجابة مبتهجة لمداعبته الكلامية وعتابه الساخر . تدفق الكلام من فمه بسرعة وحمد الله على انه سبق المدير وباقي الزملاء في زيارتي لان هذا التأخير سيجعله يقلب الدنيا على رؤوسهم في الغد ويترك الدائرة ويخرج غاضباً فهذه هي وسيلته الوحيدة بعد أن غدرت به وانقطعت عن العمل .
شرب عبد الكريم الشاي بسرعة ونهض قائلا انه سيكرر الزيارة برفقة المدير . لم تفلح محاولات أمي لإبقائه على العشاء . قال لي قبل ان يخرج :
- لقد جمعنا لك مبلغا من المال ليساعدك في أزمتك ..
- الأمر لا يستحق كل هذا .
- لا تقل هذا الكلام يا رجل .. أنت زميلنا وهذا هو الواجب .
سحبني من يدي وقال هامساً :
- أسماء تسلم عليك كثيراً .. كثيراً .
لم أجد ما أرد به فقرصني عبد الكريم من خدي وغادر على عجل . عدت إلى حجرة الجلوس لأجد فاطمة تجمع ملابس أولادها وسط دهشة الجميع وهي تدعو لمصطفى بالصحة والرزق الوفير ثم تركتنا مسرعة .
لم أستطع النوم . جثم الظلام على صدري مثل صخرة ثقيلة . بعد زيارة عبد الكريم شعرت بعجز كبير وكأنني في تلك اللحظة فقط اكتشفت عاهتي . لم أفكر بأسماء على أنها من مخلفات الماضي أو محض صورة فوتوغرافية تموت في الزمن وتحيا في الذاكرة . كنت أظن أنني سأتمكن من رؤيتها في الغد وأنها لا تستطيع الاختفاء أبدا مثل الضوء . أشعرني عبد الكريم بأن ثمة أسماء أخرى تتنفس بعيداً عن خيالي وإدراكي وأنني احتفظ لنفسي بنسخة مزيفة .
تركت فراشي ونزلت إلى الطابق الأرضي . وجدت سعاد ترش أرضية المطبخ بالماء . أعطيتها دفتراً صغيراً وطلبت منها أن تبحث لي فيه عن رقم هاتف عبد الكريم . أخذت الجهاز إلى غرفة الاستقبال . وصلني
( 22 )
صوت عبد الكريم قوياً مما أذهب عني خجل الاتصال في وقت متأخر :
- هل أنت بحاجة إلى شيء يا عادل ؟
- لدي سؤال .
- قل .
- إياك أن تضحك علي يا عبد الكريم .
ضحك وهو يقول :
- لن أضحك يا عادل ، تكلم .
- أنا لا أثق بك .
- أسأل يا أخي ولا تخف .
- كيف حال أسماء ؟
- ليست على ما يرام منذ أن تركت العمل .
أخذ قلبي ينبض وأنا أسأله :
- هل كانت تشرب الشاي معكم أثناء غيابي ؟
- كلا لم تفعل ذلك .
- شكراً جزيلاً يا صديقي .
* * * * * * * * * * * *
( 23 )
ما لبثت ضجة البيت أن خبت . وجدت نفسي من جديد في مواجهة الفراغ . الشيء الوحيد الذي كنت أستطيع فعله هو أن أتجول في المكان وأمتحن ذاكرتي . في البداية كانت خطوتي ثقيلة جداً وغير واثقة ربما لأن منظري يدفع الجميع إلى مد العون لي الأمر الذي جعلني أقلل من تنقلاتي وأحاول عدم عرض عاهتي بالشكل الذي يثير عواطفهم . مر الزمن ببطء ولكنه منحني حرية التحرك فشبحي بات مألوفاً وحزن أهلي لم يعد يعترض طريقي . حاولت أن لا أمد يدي إلى الأمام لأن تلك الحركة تثير أحمد وأيمان وتزيد من مرحهما وعبثهما معي . أمي أيضا لا تحب هذه الحركة لأنها تذكرها بأفلام الرعب الأمريكية . كنت أتوقف لأسأل سعاد عن الخطوات التي أحتاج أليها للوصول إلى المخزن وكانت هي تمر بي وتحذرني باستمرار :
- انتبه ستصطدم بأمك .
وعادة ما كانت تنقذني في اللحظة الأخيرة .
- ستقع في الطست ! .
تسببت في كسر العديد من الأقداح وأشياء زجاجية مختلفة وانسكب الشاي على ساقي وأحرقني . كنت أبدو مثل كلب بليد قليل الوفاء ولكنني مارست هذا الدور بأقصى ما أملك من شجاعة . لم أقل لهم شيئاً . فضلت أن ارتكب حماقاتي بطريقة هزلية دون أي إحساس بالمسؤولية . كان من الصعب علي التوقف عن أحداث هذا الإرباك بدأت أشعر بحاجتي الماسة والدائمة إلى الصوت . قديما كان هذا الشيء الأسود يبدو لي شديد الغموض وآمنت أن النهار للبشر والليل للجن والشياطين . مشكلة ظلامي هي العدم . يقظة في موت . ليس فيه أرواحا وكائنات خفية ودبيب مجهول الهوية . شيء يختلف تماماً عن الليل . لا يتحول ولا يتغير ولا يخضع لأي قانون . ظلام الأعمى كتلة ثقيلة ومحتبسة . شمس سوداء تشع حلكةً وتضيف الأسود إلى الأسود بلا انتهاء . عندما تتضاءل إلى حد التلاشي فرصة أن تظهر لي نجمة بحجم نقطة القلم لثانية واحدة أو يمر بي القمر للحظة خاطفة عندها يكون من غير الممكن ارتكاب حماقة التفاؤل . في الماضي كان باستطاعتي التطلع إلى عوامل متعددة . كنت احلم في امتلاك العديد من الأشياء الجميلة لأنني حتما سأمتلك المال في يوم ما . الحياة تكمن في النور فقط وما كنت أريده كان يعيش في الضوء . يتنفس الطيف الشمسي . ببساطة أنا
( 24 )
الآن لا أرى أي شيء . لا أستطيع أن أثق بوجود لا أملك الوسائل لإدراكه . كل ما أحلم به وأسعى أليه واتطلع إلى أحداثه وقد أموت من أجله ليس أكثر من ثقب إبرة أبيض . الهواء والماء وذكرياتي عن الخضرة والأشجار والطيور والسيارات والأبنية والنساء والتلفزيون تخيفني . تتحرك حولي في عالم آخر مثل الجن والشياطين وأنا هنا وحدي بآدميتي أعيش بداية أخرى . لم أقل لهم شيئاً . تركتهم لاعتقادهم أن الأمر محض عجز ما يلبث أن يذهب إلى المقبرة ولكنه قبل هذا لابد أن يحدث القليل من الفوضى ويخدش الديمومة التي هم عليها .
في أوقات متقاربة تنهار مناعتي وأسقط في العجز التام . كانت تلك الحالات شديدة الألم . تبدأ مثل الغثيان وسرعان ما يصيبني التشنج فأهرع إلى غرفتي . تخونني قوتي وتتصلب أطرافي وأجدني على الأرض . أبكي بحرقة مثل طفل ضائع وما ألبث أن انهض وأنزل من جديد لأمارس بوجه ضاحك سياحتي في سوادي الأبدي . كانت أمي تكتشف تلك اللحظات وتقول لي بألم وأنا أحس بثقل نظراتها على ملامحي :
- ها قد عدت إلى التهريج يا عادل .
أبحث عن كفها بصبر لأشد عليه قائلاً :
- إياك أن تتوقفي عن الكلام يا أمي .
ولكن الصوت ما يلبث أن يغيب . يبتلعه الليل والتعب وأنا بلا نعاس أدور في فراغي وعدمي بلا هدف .
* * * * * * * * * * * * *
( 25 )
سمعت طرقا قوياً على الباب . كانت سعاد تحاول باستماتة فصلي عن عالم النوم . وصلني صوتها متشنجاً :
- مديرك يسأل عنك .
اقتربت من الباب وسألتها :
- أهو هنا ؟
قالت بصوت فيه إيحاء :
- ومعه مجموعة من الموظفين . هيا انزل بسرعة وحاول أن تكون أنيقاً .
غاب صوتها ليتركني مع حيرتي وقلقي . ارتديت ملابسي بسرعة وهبطت السلم على عجل . وجدت أمي بانتظاري وهي تحثني على الإسراع . قادتني من يدي . وقفت بجواري وأنا أغسل وجهي وعاونتني على تمشيط شعري . كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر . شعرت بالحرج لكن سعاد خففت عني اضطرابي و أخبرتني وهي تتفحص ثيابي أن عبد الكريم اتصل هاتفيا و أعلمهم بالزيارة وان نومي الثقيل منعها من إخباري . وقبل أن ادخل عليهم في حجرة الاستقبال رشتني سعاد بعطر قالت عنه أن مصطفى اشتراه قبل سنة بخمسين دولاراً ولم يستخدمه أبداً لأنه لم يقابل شخصاً يستحق أن يشمه .
قلت لها :
- ولكن مديري لم يشم في حياته غير رائحة عرق إبطه وأخشى أن يدفعه هذا العطر إلى الاختلاس .
دفعتني وهي تقول ضاحكة :
- هذا ليس لمديرك .
لم أتوقع أن أجد هذا العدد من الزملاء . صافحني المدير بتأثر وتمنى لي الصحة والسلامة مبديا أسفه الشديد على حرمانه من موظف نزيه مثلي . ضمني عبد الكريم إلى صدره بقوة ورافقني وأنا أصافح الأكف الممدودة بتتابع وسط تعليقاته الساخرة ولكنه ما لبث أن سكت وتركني وحدي امسك بيد لينة ودافئة .
فوجئت بصوتها :
- حمداً لله على سلامتك .. كيف حالك يا عادل ؟
( 26 )
سقط قلبي بين ساقي وأنا أسمع صوت أسماء . قلت لها وأنا أرتجف مثل سعفه :
بخير .. شكراً لك .
ربت عبد الكريم على ظهري وهو يقول :
- لقد أصرت أختنا أسماء على المجيء ولهذا جئنا في هذا الوقت غير المناسب .
قلت بارتباك :
- لاتقل هذا .. انتم في بيتكم
- أجلس يا عادل
قال عبد الكريم هذا وأجلسني بجوار أسماء . ابتعد صوته وهو يوجه كلامه إلى المدير :
- ألم اقل لك يا أستاذ شاكر أن عادل يتمتع بمعنويات عالية ؟
رد المدير بصوت عال :
- هذا فضل من الله .
قال عبد الكريم :
- أنا لا أحسدك يا عادل .
تدخل المدير مقاطعاً :
- رفقاً بالجل يا عبد الكريم .
قال سعيد موظف الاستعلامات :
- الدائرة كلها تسلم عليك يا أستاذ عادل وتدعو لك بالخير والسلامة .. أجر وعافية إنشاء الله .
- شكراً على مشاعرك الطيبة يا سعيد .
سمعت جرس الباب . لحظات ودخل علينا مصطفى . رحب بالضيوف بحرارة ولامني على عدم إبلاغه بهذه الزيارة ليقوم بالواجب كما يجب . شكره المدير على كرم أخلاقه وأثنى على نزاهتي واستقامتي في العمل . أدار عبد الكريم الجلسة بمهارة بعد أن رفض مصطفى رغبة المدير في المغادرة وأصر على تناولهم الغداء .
( 27 )
تراجع المدير عن قراره بخجل وعندها ارتفعت حرارة الحديث . تحدث عبد الكريم عن كرامات الأولياء وكيف أن العديد من الناس وجدوا على أيديهم الشفاء التام بعد أن عجز الطب أمام مرضهم . شارك سعيد في الحوار وتكلم بإسهاب عن جارته المقعدة التي أنعم الله عليها بالشفاء بلا حبوب أو أبر .
قالت لي أسماء بصوت هامس :
- كيف حالك الآن يا عادل ؟
أجبتها وقلبي يكاد ينفجر :
- الحمد لله .
تحشرج صوتها وهي تقول :
- لقد تركت فراغاً كبيراً .
قلت باضطراب وأنا منكس الرأس :
- أنا أيضا أشعر بالفراغ والملل هنا .
- هل ستنقطع عن العمل نهائياً ؟
- أنا الآن أعمى يا أسماء .
انقطع صوتها لحظات وعندما عاد وجدته ينشج حزناً :
- لا تقل هذا يا عادل
- هذه هي الحقيقة يا أسماء .
- هذا ما يعتقده الناس والأطباء .
سألتها :
- وأنت ؟
- أنا مثلك .. أنظر بقلبي .
- هذا أكثر مما أستحق .
( 28 )
قالت بتوسل :
- افعل شيئاً !
- مثل ماذا ؟
- لا تنقطع عن زيارتنا .. نحن نريد أن نراك بيننا باستمرار .
أخذ صوت عبد الكريم بالارتفاع عندها شعرت أن أسماء فقدت القدرة على المقاومة فقلت لها مهدئاً :
- سأفعل المستحيل من أجل هذا .
- أهذا وعد ؟
أجبت بشجاعة :
- أنت في القلب يا أسماء .
* * * * * * * * * * * * *
( 29 )
اكتشفت قبل أن افقد بصري بشهر أن حزني السري لا يليق بقدرتي الفطرية على الاستمرارإلى أرذل زمن بخسارات متكررة . بلغت الثلاثين وما زلت اجهل الكثير عن بعض الأماكن الأكثر عزلة في جسدي . كنت عندما أرى مصطفى في أوقاته السعيدة يتجول في البيت وهو بملابسه الداخلية أشعر أنني محض خط فحمي تحرك بانحناءات متعددة باطنه بياض وخارجه بياض . لم أملك في أي وقت القدرة على الإعلان عن أي شيء أخفيه . كنت دائم الحرص حتى وأنا كبير على إبقاء أشيائي الخاصة في حوزة الأستار والحجب . هي وحدها أمي التي امتلكت الحق في تجريدي من ثيابي بطريقة فيها سخط وتوبيخ .
في سنواتي الأولى لم أكن أتمكن من حبس حاجتي إلى حين الشعور بالأمان وبأنني بمفردي . وعادة ما أصاب بالإسهال أو بتلك الاضطرابات التي تحدث فجأة وبخجل شديد كنت أتمنى أن يموت كل أهل البيت حتى لا تقع العين علي وأنا ادخل هناك بين تلك الجدران الصغيرة حيث تخرج دموعي باستمرار .
كانت أمي تأخذني معها إلى حمام النسوان أيام كانت تتردد بكثرة على بيت جدي القديم . أتبعها لاهثاً وهي تعبر من زقاق إلى زقاق في رتل من النساء الملفوفات بالسواد اللماع . وكنا ما أن نجتاز تلك الأبواب الثقيلة والطرقات الملتوية حتى تقرفص أمي وتشرع بقوة في نزع ثيابي . كانت تفعل ذلك بوجه متشنج وكأنها تريد ضربي ثم تدفعني أمامها لأسير بتوجس مثل جرو أعمى . في يوم بعيد اعترضت المرأة السمينة التي تقابلنا عادة بالترحيب الحار . كانت سمينة جدا وسوداء مثل الليل وتجلس خلف الأبواب وكرشها المرعب ينام على قطعة مستطيلة من حجر الحلان تقوم على قائمتين طويلتين من البلوك . قالت المرأة السمينة وهي تشير بإصبعها إلى جسدي العاري :
- ابنك يا أم مصطفى عينه كبيرة ولا يصح أن يدخل معك .
نظرت أمي ألي وكأنها تتحقق مما قالته المرأة ثم ردت بتحد :
- لا يغرك حجمه فهو ضعيف البصر ولا يتمكن من رؤية شيء .
( 30 )
كانت تلك المرة الأخيرة التي ادخل فيها إلى ذلك المكان المخيف ومحاولتي الوحيدة للاقتراب من تلك الأشياء التي لم اكن أستطيع رؤيتها في المرات السابقة . احتفظت في ذاكرتي بصور قليلة أشك الآن في صحتها ربما لأن تلك الأحجام الكبيرة ما أثداء وأرداف كانت تصيبني بالخوف وكانت تزداد تضخماً في ذا كرتي كلما تذكرت خجلي وأنا أرتجف أمام بصر تلك السوداء . اعتقدت مدة طويلة أن النساء ما أن يخلعن ثيابهن حتى ينتفخن لحماً وشحماً ويملأن الحجرات . كنت أظن أن الرجال هم في الحقيقة مخلوقات مسحورة وأن المرء عندما يبتعد عنهن يبقى صغيراً ولا يشيخ وتسقط أسنانه . لذلك حافظت على طفولتي لمدة طويلة برغم بلوغي الثلاثين .
أخذت أنمو بسرعة معتقداً أنني أجيد المحافظة على سري والتنكر بنزقي . لم يحاول مصطفى الاقتراب مني . أحب السوق وهو صغير وأخذه من البيت قبل أن يكبر بما فيه الكفاية . أما أبي فقد كان من أكثر الرجال إيمانا أن البيوت للنساء فقط لذلك لم تجد أمي سوى وسيلة وحيدة لمعالجة قلقها المتزايد وشعورها الفطري بالعزلة وهي أن تقيدني بمخاوفها ولا تمد لي غير الأطوال القصار . لم أرتكب الكثير من الأخطاء . ما كان يحدث في الغالب سببه أنني لا أفهم شيئاً ورغم أنني عشت طويلاً أستمع وأشاهد النساء إلا أن قسماً كبيراً من اللذة حصلت عليه من ارتكابي لحماقات غير مقصودة أو مصادفات قدرية أضافت إلى صوتي الشوكي وتقيحات حب الشباب التي طمست ملامحي ونظارتي الكبيرة المظهر اللائق بشرير محترف . كانت أمي تأخذني باستمرار من بيت إلى بيت معتقدة أن هذا افضل لي من البقاء في الشارع مدة طويلة . اعتدت أن أعود إليها وقد فقدت شيئاً من كمالي . فقديماً كنت أرجع إلى البيت باكياً وملابسي ممزقة والألم ينتشر في جسدي مثل الدم ولأن لسان أمي كان أقصر بكثير من ألسنة أم خليل وأم فتحي وأم جاسم لذلك كان لزاماً علي مشاركتها الإحساس بالفراغ وابتداع اكبر قدر من الالتزامات الاجتماعية .
كن وأنا أجلس بينهن ألتهم المعجنات وأشرب الشاي مثل عجوز مدمنة يظهرن لأمي قلقهن من احتمالات أن يهدد جلوسي بينهن رصانة شرفهن ويعرض أسرارهن الكثيرة إلى مخاطر الإفشاء ولكن أمي كانت تؤكد
( 31 )
لهن دائماً اعتماداً على شراهتي العنزية وفراغ عيني أن سمعي أقصر بكثير من بصري وكن في أوقات مختلفة يطلبن أن أغادر المكان . أمتثل للأمر بطاعة عمياء تشيع بينهن الأمان . ولأنني لا أعرف الزمن الكافي لحاجتهن . كنت أعود لأجدهن بمشدات الصدر فقط أو بأثواب خفيفة وبمساحات شاسعة من العري .
عشت لا أفهم لماذا النساء هن الأكثر شراءً للملابس وفي الوقت ذاته الأثر كرهاً لها فيخلعنها في كل مكان ويتجردن منها في أوقات غير مناسبة . وشيئاً فشيئاً وجدتني أتقن خجل أن لا أنظر إليهن خشية أن يصيبهن جنون خلع الملابس في لحظة أكون فيها غير قادر على إزالة ذكورتي بالسرعة نفسها ، وبمرور الزيارات ازداد حرصي على التشبه بالجماد فصرت لا أرى لا أسمع لا أتكلم .
لم تكن أسماء هي الكائن الأنثوي الوحيد الذي فكرت في الاقتراب منه ، ولكنها كانت تجربتي الأنضج والأقوى . التجاوب الوحيد الذي حصلت عليه في تجاربي السابقة كان من ابنة امرأة آثورية كانت تساعد أمي في أوقات متفاوتة . لم أحصل على شيء يصل بي إلى زهو الانتصار . كان الأمر بالنسبة لي معجزة ولكنني سرعان ما ظننت في لحظة عجز أن ابتسامتها الربيعية الغضة لم تكن لي وأن اختيارها الحضور في الأماكن الأمنية ضرورة من ضرورات الرزق . وبقيت في المرات التي جاءت فيها الى بيتنا أمر بها بسرعة فائقة أستخدم الماء الذي تعمل به أو التقط الأقداح التي تحك زجاجها بدقة مدخلة بتناوب رتيب قبضتها الصغيرة المدببة في عمقها . تمنحني الوقت الكافي بصبر ومشقة ولكنني فشلت في جمعي وتوجيهي . أسماء هي الوحيدة التي لا تمتلك ذلك الشكل الحصين الذي قد يصعب دكه أو إحداث ثغرة فيه . ليس المال فقط هو الذي يجد لنا الصالح من النساء وانما أيضا درجة التكافؤ في النواقص التي نشعر أنها موجودة ومتوغلة فينا . كان ذلك هو شري الوحيد وتفكيري الأكثر تطرفاً والأشد شذوذاَ . الشيء الذي مكنني من تدجين حيوانيتي هو الكم الكبير الذي أحمله من الشفقة وتلك الحساسية الشديدة والارتداد السريع عن الخطأ . ساعدني غياب عبد الكريم الدائم على تحسين عواطفي . كان يعمل أثناء الدوام الرسمي سائقاً في سيارة أجرة في البداية وضع سيارته في خدمة الدائرة وسرعان ما أستثمر ليونة المدير وكوارث مسؤولياته الزوجية والإدارية في الحصول على المزيد من التعاطف الإنساني وكانت الساعات القليلة التي يقضيها بيننا تجعله شديد التوتر والانفعال . لم تعجبه استقامتي الوظيفية ووجد في قلة خبرتي الوسيلة التي ينمي بها مواهبه الخاصة وعندما يشعر أنه بدأ
( 32 )
يرهقني في العمل يمدني بنصائح على قدر كبير من الأهمية ويحثني على بذل أكبر طاقة من أجل أن أكون ذئباً . هكذا وجدتني أنظر إلى أسماء بعين مريضة دون أن أعثر على الفرق ما بين القلب والجسد ولكنه ما أن يغادر الحجرة حتى أجدني قد اختلفت وأصبحت أكثر قدرة على امتلاك شجاعة أن أحترم أسماء إلى حد إشعارها أنني من الكائنات التي لا تعض . هو أيضاً أخذ يكتشف حقيقتي وبالتالي وجد أن ما تجمع لديه من نظريات لا تصح معي وأن منظومتي تعمل على وفق الأصول العذرية العتيقة .
بعد توسط مصطفى لأعمل في الدائرة أيقنت وأنا اجلس إلى مكتبي أن الذي مضى هو أفضل ما يمكن أن أحصل عليه فالمعنى الوحيد لجلوسي البليد في دائرة مشاريع الشمال التابعة لوزارة الري هو أنني وصلت إلى نهاية المستقبل وأن ما كنت أظنه قبل سنوات طويلة من الطموح والأمل كانا محض حلم وأن مستقبلي الحقيقي حصلت على ثمرته وجماله واستقراره . كان هذا بمثابة اكتشاف وأسماء هي وجه هذا العالم وتفوقه الذي انتهيت إليه لأكون قطعة منه .
لم اكن أملك أي خيار سوى الانتظار ومراقبة أسماء وهي تنمو أمامي وتزداد وضوحاً راتبا بعد راتب . كل ما استطعت أن أشخصه هو هذا المخلوق الذي ينظر باستمرار من نافذة لا يمر بها أحد هو حصتي وحقل تجاربي .
قبل أن ينطفئ بصري بأسبوعين وتحديداً في يوم الثلاثاء تجمعت الغيوم على نافذة أسماء وغرقت البناية في ظل قاتم أنذر بمطر وبرق ورعد . ساعدني استعمال الكهرباء على رؤيتها وهي تنكمش على رجفة خفيفة . خيل الي أنها تقترب من زجاجا نافذتها برغم تصاعد الرجفة في جسدها المتململ ، وجدتها تلم قماش تنورتها وتحشره تحتها وهي تدنو اكثر فأكثر من نافذتها العريضة المطلة على قطعة مربعة من الطين يليها سياج البناية الحديدي الذي يشبه قضبان السجن بأسياخه المتقاربة في فراغات قصيرة . لا ادري لماذا خيل الي أنها سترتكب حماقة ما أو أنها تريد تحطيم الزجاج لتحلق بعيداً فلا شيء يناسب أسماء أكثر من الأجنحة . هنا فقط شعرت بالخوف من فقدها . تركت مكتبي وذهبت إليها . لم تحس بوجودي إلا بعد أن وقفت
( 33 )
بجوارها في الفراغ الضيق بيم مكتبها وحمالة الأضابير الحديدية . ما حدث بالضبط هو أنني لم أقل شيئاً . أما
هي فقد قالت على الفور وكأنني انتصبت فيها منذ زمن طويل أو أن حواراً قد دار بيننا منذ وقت وهذه نهايته :
- أليس كذلك ؟
شعرت بالبرد وأنا أجيب :
- بلى .
أجفلها صوتي الخشن فانتبهت وعادت لتقول :
- ستمطر .. أليس كذلك ؟
أعدت كلمتي بالخشونة نفسها :
- بلى .
رفعت رأسها ومالت نحوي قائلة بصوتها المزقزق :
- أليس هذا هو أفضل وقت لشرب الشاي ؟
غسلت قدحها الخزفي ولحقت بي إلى حجرتي . خلعت نظارتي وأخفيتها في المجر . كانت تتحرك في المكان بحرية ومرح . في البداية قالت بأنها ستتكفل بإعداد الشاي . ثم عادت لتؤكد مؤنبةً :
- أنت لا تجيد رفع القوري عن الهيتر .. أعلم انك في كل مرة تحرق أصابعك ولكنك تكتم هذا الأمر .. أنظر كيف أفعل ذلك .
قالت هذا وانحنت في الركن على يميني . لم أستطع تحديد الحجم الحقيقي لجسدها . كانت ضائعة في ثيابها . الشيء الوحيد الذي استطعت معرفته هو أنها لا تملك الوقت لإزالة الشعر عن ساقيها ..! تنهدت بعمق وهي تجلس في مكان عبد الكريم . انفلقت حبة رأسها الفستقية عن ابتسامة عريضة وهي تصب الشاي لي ولها .
( 34 )
سألتني :
- لماذا تنظر الي هكذا ؟
لم ينبض قلبي بقوة كما كان يفعل سابقاً . أجبت بهدوء :
- لأنك جميلة ..
أرتجف جسدها ولكن يدها بقيت ثابتة وجامدة . امتلأ قدحي بالشاي وراح ينضح بقطرات توزعت على الجوانب . سمعنا صوت المطر وهو يزخ ضارباً النوافذ . قالت بصوت متشنج :
- أنت تكذب يا عادل ..
- والله العظيم لا أكذب . أنا أجدك جميلة جداً يا أسماء .
نظرت إلى قدحي للحظة . وجدتها تقرب رأسها منه ثم وضعت فمها على حافته وشربت القليل من الشاي .
قلت مخففاً توترها :
- شكرا لك .. أستطيع حمله .
ردت :
- خذ قدحي ..
- شكراً ..
احتل الصمت المكان . حاولت البحث في القدح عن المكان الذي لامسته بشفتيها . نجحت في العثور على صبغة خفيفة . كلفني البحث أن أدير قدحي عدة مرات . سألتني :
- ماذا تفعل .. هل لون الشاي لا يناسبك ، أتريده خفيفاً ؟
- كلا .. إنني أبحث عن طبعة شفتيك .
( 35 )
سألتني وهي متخشبة مثل فزاعة طيور :
- لماذا ؟
نظرت إليها بعمق وأجبت ببرود :
- التفسير الوحيد هو أنني أحبك .
لم تقل شيئاً . رفعت قدحها وعادت إلى نافذتها المغسولة بالمطر .
* * * * * * * *
( 36 )
الأصوات التي انتشرت في البيت بعد مغادرة وفد الدائرة تشير إلى أن الحياة هنا عادت طبيعية . لم يقل مصطفى غير كلمات الترحيب التي أطلقها خلف المدير . أغلق الباب واتجه إلى غرفته لينام . حاولت أن أكون قريباً . ترك هذا الفراغ في نفسي الشعور أن ما جرى لم يكن يخصني ، وجدتني أنقسم بين عزلة الظلام وعزلة الفرح . غالباً ما كنت أشعر أن شيئاً مزيفاً يغلف فضاء البيت عندما يرتبط الأمر بشيء غير عادي يخرق ركود المضي القسري إلى عادات اليوم المألوفة من نوم وطعام وكلام ، ولحظة أن ينتعش البيت بزيارة ما أو مناسبة خاصة تتغير الأشياء وتتلون الوجوه وتغمر الغبطة المكان ولكن سرعان ما يعود كل شيء إلى حاله مع انتهاء الوقت السعيد فينكمش البيت من جديد وتعود الرتابة حادة وغير سوية وكأن ما جرى محض خدعة .
كنت أقف في المطبخ عندما سألتني أمي وهي تمر بي دون أن تشفق على سباحتي الأبدية في سديم السواد :
- من هذه العرجاء ؟
لحق بها صوتي وهي تخفق بنعليها مبتعدة عني :
- زميلتي في الدائرة .
أعلمتني همهمة سعاد أنها بقربي ، سألتها بصوت أردته خافتاً ولكنه خرج مني دامعاً :
- هل غضب مصطفى لأنني استعملت عطره ؟
ردت بصوت مجهد :
- كلا .
قلت للصمت الذي حولي :
- سأصعد إلى غرفتي .
طلبت سعاد أن أتمهل . سحبتني من يدي وقادتني إلى السلم ثم قالت :
( 37 )
- لم أكن أعلم أنها تعزك إلى هذا الحد .
ما أن أغلقت الباب حتى مات مني ذلك الأعمى الأحمق . كانت الغرفة باردة . خلعت ملابسي واستلقيت على السجادة . نشرت ذراعيٌ وفتحت ساقيٌ مثل علامة مرورية وأخذت أحلق في السواد . اندفعت عميقاً في ذلك الأثير الحي . من المؤكد أن رائد الفضاء أشجع مخلوق في التاريخ لأنه عندما يخرج من مركبته ويسبح في الكون ناظراً إلى الأرض فأنه يدرك تماماً أنه أكثر المخلوقات البشرية عزلة وأنه بمفرده بقلبه الصغير وأعضائه الضئيلة العاجزة أمام جبروت الكون وعظمته ، وأن لا أحد يستحق الشفقة أكثر من تلك المخلوقات التي تذهب وتجيء على تلك الكرة البعيدة دون أن تدرك أن لاشيء أتعس من تلك المسافات القصيرة التي تحكم حياتها . أخذت أسبح وأسبح وأندفع في السواد ، أضرب بذراعي الفراغ مثل طائر خرافي ، وفجأة رأيتها تقف فوق غيمه من سواد . كانت جميلة وحزينة مثل زهرة لا تملك غير الربيع ، ملامحها صافية وبارزة يؤطرها الوهج الملائكي الأبيض ، تمد لي يدها المشعة وأنا أتبعها بلهاثي . رأيت ابتسامتها بوضوح وكدت أن المس يدها ولكن قوة ما جعلتها تتراجع بسرعة ضوئية . انسحبت أسماء من لونها الملائكي واستحالت يدها إلى خيط أبيض تنقطع نهايته في العمق الأسود . تبعتها بجنون وخوف . يرشدني الخيط المتوتر مثل سلك من حديد . خيل الي إنني لا أتحرك . اشتعل العمق الذي أمامي بالضوء ورأيتها ترجع مع ابتسامتها لتقف أمامي ويعود الخيط ليتحول مجدداً إلى أصابع من نور تشع في الظلام .
سألتها :
- أين كنت ؟
أجابت :
- كنت أبحث لك عن القمر .
( 38 )
قلت بحزن :
- لا قمر للأعمى .
أخذتني من يدي وقالت :
- ألمس قمرك .
وجدت أمامي صخرة صغيرة كروية ، قلت لها :
- هذا ليس القمر !
ردت :
- هو قمرنا .. نصفه لك ونصفه الآخر لي ..
قلت :
- هكذا لن يكون بدراً .. أنا الظلام وأنت النور .. هو لك حتى يضيء بأكمله .
قالت مبتسمة وهي ترفعني إليه :
- أحتويك وتحتويني .. تضمني وأضمك .. هكذا هو القمر لا يستقر على لون .
أيقظني البرد . كانت أطرافي متجمدة . فتحت الباب وسألت عن الوقت بصوت عالٍ ولكنني لم أتلق الرد . ارتديت ملابسي وغادرت الغرفة . وجدتهم في الأسفل يجلسون أمام التلفزيون يتابعون مباراة لكرة القدم بين فريقين أوربيين . كانت الحماية على أشدها عندما قلت لسعاد :
- قولي لمصطفى أن يشتري لي عصا .
( 39 )
سألتني أمي :
- ماذا ستفعل بها ؟
أجبتها :
- سأضرب بها الناس ..! ماذا أفعل بها ..؟ أنا أعمى يا أمي وأحتاج إلى عصا تساعدني على المشي في الشارع .
صاحت سعاد :
- هدف .
* * * * * * * * * *
( 40 )
لا أعلم بالضبط في أي يوم حدث ذلك ولكنه كان مشمساً وفيه الكثير من الألوان الجميلة التي تلمع في الضوء . عشت إلى ذلك الصباح معتقداً أن الناس الذين لا يتمتعون بالمزايا في حدودها الطبيعية لديهم الاستعداد الدائم لتقديم التنازلات . كنت أظن أن كل شيء سيختلف ما إن أمتلك شجاعة أن أقول لأسماء إنني أحبها . في ذلك اليوم بدت غاضبة وغير قادرة على النظر الي . عاش هذا الإصرار عدة أيام ولكنه تفاقم في صباح ذلك اليوم إلي حد اعتقدت فيه إنها اتخذت قرارها الصارم والنهائي بقطع صلتها بي .
التصق عبد الكريم بكرسيه بطريقة استفزازية ، لم يترك المكان برغم شعوره أن الأجواء غير صافية . لم أبح له بشيء . تركته يغفو على مكتبه يقطع أحلامه بالسؤال عن الساعة . استولى التوتر على أفعالي دون أن امتلك القدرة على التفكير في شيء نافع وجديد يزيل عني الشعور العميق بالفشل والعجز الذي تراكم بعد سلسلة طويلة من العمليات النزقة . اكتشفت في الأيام الماضية إنني اكتسبت مقدرة قتالية وعناداً يصل إلى حد البطولة . جابهت أسماء هجومي باسترخاء وبرود الأمر الذي أشعرني أن أزمتي أوصلتني إلى الانحراف . وبدلاً من إظهار الحكمة ومزايا الرجولة رحت ألح وبكل ما أملك من سلوك غير ناضج لكسر صمتها وجمودها وهي على إصرارها أن لاشيء في هذا العالم اسمه عادل عبد الرزاق .
ثلاثة أيام وأنا لا أجد الفرصة للانفراد بها . راقبتها بدقة في محاولة للعثور في ملامحها عن معنى يصحح انطباعاتي وهواجسي ويرفع عن قلبي تعب الظنون ولكنها كانت بلا روح مثل تمثال وملتزمة بمكانها كالحائط . بعد ذلك شرعت باستبدال أسلوبها المتحفظ وأخذت تحرق عقلي وتدمر أعصابي بتركها المستمر لمكتبها وغيابها الطويل خارج مديات استطلاعي وحصولها على قدح من الشاي بطريقة غير شرعية من مصادر بقيت مجهولة بالنسبة لي . حدث شيء في العالم لا ادري ما هو ، ازدحمت الدائرة بالمراجعين وتعرضت لغزوات متكررة من اللجان التفتيشية التي أخذت تفتح عيونها علينا وضاق بالعمل إلى حد غير معقول وكأن الدنيا كلها غير راضية عني ولا تريدني أن أحب وأعشق وفجأة وجدت كل شيء قد تغير بلا
( 41 )
سابق إنذار حتى البيت اشتعل بالخلافات وطفق مصطفى يتصرف بعشوائية مثل ديك مذبوح وأنا على استغرابي وبلادتي المعهودة أذهب إلى الدائرة وأعود مثل الأطرش في حفلة عرس .
في اليوم الثالث اقتحمت غرفتها وأنا ألهث وقلبي يدق مثل طبل افرقي . نظرت الي باستغراب وكأنها لا تعرفني . قلت لها بانفعال :
- ماذا بك يا أسماء ؟
أجابت ببرود وهي تقلب أوراق إضبارة بدهشة تليق بمجلة أزياء :
- لا شيء .
لم أمر بموقف أقسى من ذلك . رأيتها تنفخ في الإضبارة مثل منتصر ينفض الغبار عن ردائه بعد أن قتل جيشاًُ وأنا أطفو في خيبتي بكبرياء كاذب :
- الشاي على النار .
قلت كلمتي وخرجت وأنا اعتقد بأنني حققت التأثير المناسب ولكن انتظاري طال وبدأ الشاي يغلي نافثاً في الغرفة رائحة معدنية . رأيت عبد الكريم يدخل علي وهو يلعن اليوم الذي اشترى فيه السيارة . وضع على مكتبي قدحاً من الشاي وراح يبحث في أدراج مكتبه عن سلسلة مفاتيحه .
سـألته وأنا أشير بقلمي إلى القدح الذي أطلق بخاراً كسولاً :
ما هذا ؟
- شاي أرسلته إليك سندريلا الدائرة وتقول .. إنه سيلاني علامة البطة .. بطة يا بطة !
قال هذا وأخذ يحرك مؤخرته يميناً ويساراً وهو يستند بمرفقيه على المكتب .
( 42 )
قتلت الساعات المتبقية من الدوام في التفكير بخطة مناسبة . وهبني الشيطان فكرة جهنمية صممت على تنفيذها وهي أن أكلم أسماء ونحن خارج الدائرة . الخطة ذكية ولكنها تحتاج إلى الحظ . كانت المسافة بين بيتي ومكان عملي لا تكلفني أكثر من ثلث ساعة أقطعها مشياً على القدمين ، أما أسماء فهي على العكس مني تحتاج إلى استخدام الباصات الأهلية للوصول إلى بيتها الواقع في الطرف الشمالي من جانب المدينة الأيسر ولا تقطع على قدميها سوى خطوات قليلة لتنتظر في ظل شجرة كالبتوس عجوز حيث موقف الحافلة التي تستقلها وحدها دون رفيق . من الطبيعي أن لا أتمكن من فعل شيء تحت الشجرة لأنها عادةً ما تزدحم بالموظفين ولتحقيق هدفي يتوجب علي السير مسافة طويلة وانتظار الحافلة نفسها في الموقف الثاني على يسار التقاطع الأول حيث تأخذ حافلة أسماء بالانحراف عن المسار العام للحافلات الأخرى وعندها سيكون من السهل علي ركوب حافلتها والانفراد بها بعيداً عن الدائرة وموظفيها .
نفذت خطتي بدقة وحافظ الحظ على لطافته معي . لم أفكر بردة فعل أسماء ، أنشغل ذهني بمحاولة إخفاء فعلتي عن عيون الناس ظناً مني أنهم يصوبون نحوي نظرات الاستهجان والشجب وأخذ صدري يطلق صفيراً هوائياً مثل رئة مدخن سوداء . ما لبثت الحافلة الخضراء الكئيبة أن جاءت وهي تلوث البيئة بدخانها الخانق . استطعت الحصول على موضع قدم عند الباب وكان علي الانتظار مخاطراً بجسدي الذي أخذ يرفرف خارج الحافلة حتى يخف الزحام لأتمكن من العثور عليها وسط الحشوة البشرية إلا أن بقائي على هذا الحال طال بينما الحافلة تسير منهكة إلى غايتها . لم أتوقع أن أجابه هذه المشقة فعضلاتي العلوية غير مدربة على هذا النوع من الكفاح اليومي الذي يحتاج إلى نحافة خاصة تشبه نحافة أسماء التي أخذت منها الحافلات معالمها
( 43 )
وتركتها مستوية ودقيقة وشفافة مثل مسطرة . حاولت الحصول على موضع أفضل يجعل أسماء تتمكن من رؤيتي وتشفق على قلبي بيد أن الأجساد المتلاصقة كانت أصلب من حركاتي الفأرية وأنا لا أرى من خلف نظارتي غير البياض الساكن والأطياف المتحركة حتى تمكن اليأس مني وغلبني الحزن . فجأة هدأ كل شيء وكف زجاج النوافذ عن الطقطقة وأخذت الأجساد تتحرر نازلة من البابين بكثافة ووجدتني بمفردي بين مقاعد فارغة وبلا أسماء .
لم أشعر وأنا في البيت أنني ارتكبت حماقة من تلك الحماقات التي عادة ما تجعلني اكره نفسي ولا أحب إلى وجهي في المرآة . في الماضي كنت أمقت أفعالي وأجدها غير لائقة ولكنني هذه المرة أراني على صواب تماما ، وما قمت به جعلني لا أخاف من الكهرباء وأستطيع إشعال عيون الطباخ دون أي اكتراث لخطورة الغاز . لم أنزل كعادتي للتأكد من إطفاء جهاز التلفزيون ولم أتبول مراراً قبل لجوئي الى الفراش . أخذت أحلم بسهولة ويسر وكأنني لم أشاهد في حياتي أي فلم رعب . نمت مثل طفل رضيع وأنا أؤمن أن لا لصوص في الليل . غبت عن الدنيا وأنا أعتقد أن من الممتع رؤية الأشباح واللعب معها حتى الصباح .
في اليوم التالي بقي الموقف على ما هو عليه وبات من الواضح أن أسماء تمارس هذا التجاهل عن قصد وهو ما جعلني أخطط لتكرار العملية بشكل أكثر دقة . فكرت أن المهم إشعار أسماء بهذا التغيير الطارئ على خط سيري عملاً بأقدم نصيحة في تأريخ الحب البشري والقائلة (( استعمل ساقيك تصل إلى حبيبك )) لذلك عمدت إلى عبور الشارع من مكان وقوفها تحت أغصان الشجرة ورحت أسير في رعاية بصرها على الرصيف المقابل حتى أجتزت التقاطع بسلام وأقتربت من مكان انتظاري . جف زهوي قبل عرقي وأنا أشاهد حافلتين تتوقفان معاً أمامي وتزعقان ببوقيهما وأنا في حيرتي وترددي وملامحي متشنجة برغبة بكاء . أكذب إن قلت أنني استعملت ذكائي ، فالحقيقة أن مساعد سائق الحافلة الأولى كان ضخم الجثة وفي وجهه علامات إجرامية فارقة وقد أشار ألي بيده أن أصعد ولم أملك إلا أن استجيب له بعد أن أشعرتني الأوراق النقدية التي في
( 44 )
قبضته إنني رهن سطو مسلح ، وما أن سارت بي السيارة حتى اكتشفت خيانة الحظ وبات علي انتظار نجدة السماء ، تهالكت معنوياتي العاطفية وشعرت بحزن عميق لأنني لست من الشباب الذين يمتلكون سيارات فارهة يطاردون بها الفتيات ظهراً . لحظات واشتد التنافس بين الحافلتين في مساعدة من القدر للعثور لي على مخرج . حاول سائق أسماء أن يجتاز سيارتنا ويسبقها وهو ينفخ ببوقه الهوائي نفخة النفير . وقف شعر جسدي رعباً وأنا أشعر ومعي الركاب بانزلاقات غضروفية من قوة الأرتجاجات . صعدت الغيرة في رأس سائقتا وهو يعاتب الزمن على تركه المتطفلين يلطخون شرف المهنة بالعار . وراح المساعد الضخم يحثه على عدم فسح المجال لمنافسه والرجل يسحق بقدمه دواسة البنزين بحقد وهو يحضن المقود بذراعيه مقاوماً ارتداداته الطائرة عن مقعده ونحن خلفه صفر الوجوه . نذكر الله ولا نجرؤ على الاعتراض . أشتد غضب المساعد ما أن أظهرت حافلة أسماء إصرارها على المضي في تهورها وأخذ يرمقنا بنظرات نارية وكأننا نحن من خذله وليست السيارة التي انتهى عمرها منذ زمن بعيد . تمكن سائق أسماء من حشر حافلته بمحاذاتنا واحتلال الجانب الأيسر من الشارع . صادفتنا سلسلة من المطبات وبعض الثآليل الإسفلتية التي جعلتنا نتقافز كالأرانب في مقاعدنا وبدأت القلائد المعلقة على مرآة السائق الداخلية والتمائم الخزفية وسلاسل صور جميلات الشاشة تضرب الزجاج الأمامي بعنف حتى تمكن باص أسماء من اجتيازنا والانطلاق أمامنا بسرعة فائقة . كان من الواضح انني خسرت الفرصة وعلي اللجوء إلى خطة الطوارئ بلا تأخير . تركت مقعدي وأنا أصيح بصوت عالٍ :
- نازل .
لم أفقد الأمل أوقفت أول سيارة أجرت ظهرت لي . ركبت بسرعة دون أن أحدد وجهتي . طلبت من السائق أن يسرع لأنني مرتبط بموعد هام . سألني عن غايتي . أمرته أن يسير بي إلى الأمام بلهجة متعالية تدل على
( 45 )
أن يدي مبسوطة . تحمس الشاب واندفع بسيارته وهو يقول :
- لا تقلق سنصل في الموعد المحدد ، يعجبني الراكب المستعجل .
دفع بإصبعه في فم جهاز التسجيل شريطاً أطلق أغنية مجنونة بعثت فيه النشاط وما هي إلا لحظات حتى أجتاز الحافلة الأولى وانطلق في إثر الحافلة الثانية بهمة أكبر جعلتني أشعر بالارتياح رغم الوجع الذي كان يضرب جبهتي . أبديت نفوري من الدخان الذي تنفثه حافلة أسماء فاستجاب الشاب لملاحظتي على الفور وعالج الموقف بمهارة . ألتفت إلى الخلف في محاولة لقياس المسافة التي كانت تكبر لتبعدني عن أسماء : قال السائق بصوت منفعل :
- لا تخف سنصل .. أخوك حسين صاروخ أسرع سائق في المدينة .
طلبت من حسين صاروخ أن يتوقف . أمتثل الشاب وهو يبتسم بفخر .
شعرت بعطش شديد وانتشر الألم وهو يدق رأسي بانضباط كساعة سويسرية . نزلت إلى الشارع ما أن شاهدت حافلة أسماء تقترب مع مجموعة من السيارات كانت قد انتظرت طويلاً عند التقاطع وانطلقت بعنف مع اشتعال الضوء الأخضر . لم يكن بقدوري الوثوق بالحظ والنزول عند الإشارة المرورية لذلك فضلت الانتظار على مسافة مناسبة تجنباً للمفاجآت القاسية . أخذت ألوح بيدي حتى أكون مرئياً وأنا أسمع قلبي ينبض بقوة . أقبلت الحافلة مزمجرة ، رأيتها تنحرف شيئاً فشيئاً نحو جهة اليسار ومع ابتعادها كنت أتقدم إلى عمق الإسفلت والسيارات تصرخ بي منبهة بينما الحافلة تزداد انحرافا وسرعة وكأنها تفر من ذراعي الممدودة بتوسل ضائع . في نلك اللحظة الخاطفة والحزينة تمكنت من رؤية أسماء أثناء عبورها من أمامي وهي تنظر من النافذة بشفقة وانكسار بينما الحافلة تسير بها بلا توقف .
* * * * * * * * * * *
( 46 )
ذهبت إلى عملي في وقت مبكر . كانت الشمس لطيفة تشع بالدفء والألوان من حولي زاهية وبراقة . لم أقرر مخاصمتها ولكنني أظهرت عن غير قصد ما يدل على وجود شيء من عدم الاكتراث . حافظت أسماء على استقرارها وبدت مستعدة للتفاوض معي أو الاستجابة لأي مبادرة أقوم بها .
كلفني عبد الكريم بمراجعة قوائم المشتريات وتدقيقها إلى حين عودته من الشعبة القانونية ولكنه رجع بعد ساعة ليخبرني أنه سيذهب مع المدير إلى مشروع السد وأن علي إنجاز العمل مع نهاية الدوام . اعترضت قائلاً :
- خذ أوراقك إلى قسم الحسابات فهذا ليس من اختصاصي .
قال عبد الكريم مازحاً :
- أنت الوحيد الذي يحفظ جدول الضرب في هذه الدائرة ..! .
صحت بانفعال :
- ابحث لك عن حمار غيري .
- لا تقل هذا يا عادل .. لا أحد منا يعمل في مجال اختصاصه . أنا أحمل شهادة البكلريوس في القانون والمدير لا يملك غير شهادة ميلاده .. أسمع سأطلب من أسماء أن تساعدك .
- - عبد الكريم .
تجاهل ندائي . رأيته يتكلم ويضحك مع أسماء التي راحت ترمقني بنظرات فيها جرأة . غطست بين السجلات ، سمعت عبد الكريم يودعني :
- أراك بخير يا عادل .
( 47 )
عملت بمفردي لمدة ساعة . لم أنجز الكثير . كنت شارد الذهن أختلس النظر بين الحين والآخر وأنا أزخ
عرقاً زنخاً إلى أن سمعت صوتها الدافئ يهشم صمت غرفتي البارد وينعش الأثاث :
- مرحباً .. طلب مني عبد الكريم أن أساعدك .
قلت دون أن أرفع رأسي :
- شكراً .
وجدتها تبحث بنظرها في الزوايا وهي تنقر مكتب عبد الكريم بسبابتها . سألتني :
- أين الهيتر ؟
أجبت بصوت خامل :
- أعدته إلى أم حسن لم أعد بحاجة إليه .
قالت وهي تقترب مني :
- يبدو عليك التعب .. لم تنم جيداً ..؟
- هذا صحيح .
جلست على الكرسي القريب مني وهي تسألني بهدوء :
- لماذا تتعب نفسك معي يا عادل ؟
تركت القلم ونظرت إليها قائلاً :
- لقد أخبرتك .. أنا أحبك يا أسماء .
ردت وهي تلف قلادتها اللولؤية المزيفة حول إصبعها :
- أنت تمزح يا عادل .
( 48 )
- لماذا ؟ .. أ لأنني بلا وسامة وبصري ضعيف ؟
ردت بعد صمت :
- كلا .. بل لأنني عرجاء .
لم أتمالك نفسي . قلت لها بعصبية :
- لا يحق لك قول هذا ..
أحمر وجهها وارتجف فمها ولكنها سرعان ما استعادت بريقها وهي تسألني :
- لماذا كنت تلاحقني ؟
نظرت في عينيها وقلت بهدوء :
- أردت أن أكلمك خارج الدائرة .. سئمت من هذا الجمود المميت .. أنا بحاجة إليك يا أسماء ويجب أن نفعل شيئاً غير الذي نقوم به هنا .. علينا أن نخرج إلى العالم ..
أشرق وجهها بابتسامة خفيفة فعدت لأتابع :
- أردت أيضاً أن أعرف إن كنت سأبقى بمفردي في هذا العالم الموحش ..؟
ردت بصوت هامس وهي تنظر إلى أصابعها :
- لست وحدك يا عادل .. أنا معك ..
قاطعتها :
- أجل .. تكلمي ..
- أنا أيضاً أشعر بشيء ما .. هنا ..
( 49 )
أشارت إلى صدرها وتابعت :
- هنا في قلبي .
- هل هو حب أم كره ؟
ردت بسرعة :
- حب طبعاً .
أرجعت الكرسي إلى الخلف وانحنيت ساحباً من تحت المنضدة هيتر أم حسن الكهربائي . أطلقت أسماء ضحكة عالية . قلت وأنا أضع الهيتر على مكتب عبد الكريم :
- لنحتفل ..
* * * * * * * * * *
( 50 )
لم أستطع مجابهة إصرار أمي . أخذت منها القدح الساخن وهي تخبرني أن الحليب يقوي البصر . ضحكت سعاد قبل أن أقول :
- والله العظيم أنا أعمى .. متى تؤمنين بهذه الحقيقة يا أمي ؟
ردت غاضبة :
- أنا أؤمن بالله .. وإن شاء الله تسترد بصرك وعافيتك .
أخذت جرعة من الحليب وقلت :
- ثلاثون عاماً وأنا آكل الجزر مثل الأرنب حتى فقدت بصري والآن جاء دور الحليب ؟
قالت سعاد وهي ترفع أطباق الطعام من أمامي :
- لقد جلب لك مصطفى العصا .
صدمني الخبر . مر بسمعي واستقر بثقل على قلبي ، يبدو أن الحقائق المحزنة غير قابلة للتصديق مهما كانت ظاهرة وواضحة . لم أرد بشيء واصلت أدائي الرتيب ككائن حي إلى أن تسلمت سلاحي الجديد .
خاب ظني ما أن لمست العصا . كانت على هيأة أفعى . خفيفة الوزن ، ومن شكلها عرفت بأنها سوداء اللون ومزينة بخطوط بيض متعرجة وهي من الصناعات التراثية المزدهرة في المناطق الشمالية الأمر الذي أعلمني أن مصطفى لم يكلف نفسه عناء البحث عن عصا لائقة وأنه تنازل عن ذكرى قديمة لم تعد تليق به .
غرق البيت في صمت متعاطف . سلكت طريق المطبخ للوصول الى الباب الخارجي . قلت لسعاد قبل أن أخرج :
- أبلغي مصطفى شكري وامتناني .
( 51 )
سألتني :
- إلى أين ؟
- سأجرب العصا .
فتحت الباب الخارجي . إكتفيت بخطوة صغيرة وجدتها تصطدم بهواء صلب مثل سور هائل راح يكبسني محدداً حريتي بالخط الوهمي لامتداد سور البيت . كنت أعلم على ماذا يمكن أن يقع البصر من مكان وقوفي . أحببت هذا البيت لأنه يطل على فضاء بلا بناء تخترقه الطرق المستقيمة وترتفع أمامه المدينة القديمة على الضفة المقابلة من النهر . من الصعب على العصا مجابهة هذه المساحة الشاسعة من العالم . في الماضي كنت أستعمل قدمي ببربرية ، أقطع المسافات الطويلة باطمئنان معتقداً أن العالم خلق من أجلي وأن الأحجار ليست أكثر من أحجار وأن الشوارع شوارع والسيارات سيارات . أما الآن فعلي اكتشاف عوالم هذه الأشياء ومعرفة لغاتها والاعتراف بوجودها . لم أشعر في حياتي بهكذا نوع من الخوف يفترس مني مناعة التفكير وعنفوان القلب ويعطل القوة البدنية .
البصر نعمة قابلة للزوال منذ أن كانت البشرية أسرة واحدة تعدادها لا يتجاوز خمسة أفراد ولكن لا أحد حذرنا من خطورة الظلام ووجعه وعزلته . لا أحد علمنا بين خطوة واثقة وأخرى ضائعة . لا أحد كتب تأريخ العمى وقال للذين يتمتعون بالأبيض والأخضر والأحمر أن السواد هو البداية والنهاية . في الزمن الأبيض كنت أبتسم وأضحك لأنني أرى . احزن وأفرح لأنني أرى . أزداد علماً ووعياً وأيماناً لأنني أرى . أما الآن فعلي مرغماً أن أمارس ولادة أخرى .
وجدتني أمسك العصا من رأس الأفعى وأضرب بها الباب والحائط بعنف وقوة وأنا أدور حول نفسي مثل مجنون . انكسرت العصا وتهشمت . قذفت بجزئها الصغير المتبقي في وجه السواد وجسدي المنهار يرتجف رجفة الحمى .
( 52 )
خرجت سعاد من المطبخ مسرعة . سحبتني الى الخلف وهي تسألني بهلع :
- ماذا حدث يا عادل ؟ .
سمعت الباب يغلق . أخذت أرد بعجز تام :
- لا أستطيع .. لا أستطيع أن أخرج .
وصلت أمي متأخرة . قالت :
- عين و أصابتك يا بني .
* * * * * * * * * * *
( 53 )
قبل الدخول في السواد ، ظننت أن معاهدة الصلح مع أسماء ستستمر وأنها ستجعلني في حال أفضل إلا أن هذا لم يحدث . أوقفت مرحلة علاجي متعمداً بحجة عدم حصولي على أي تحسن طوال السنوات الماضية وزوال ثقتي بالدكتور فاضل برغم الإمكانيات الضخمة والسمعة الراقية التي يتمتع بها . بدأ مصطفى يشكو من نفقاتي العلاجية ويتذمر من زياراتي المتكررة للعيادة الخاصة . وما أن سمع بقرار الدكتور النهائي حتى أخذ يسافر كثيراً ويقلب البيت رأساً على عقب ويطبق سياسة تقشفية قاسية ويتكلم كالعاجز الذي في عقله جرثومة الانتحار عن أوضاعه المادية المتردية وصفقاته التجارية الخاسرة وديونه المتراكمة . وقد أفصح عن ارتياحه ما أن كفت أمي عن مطالبته بمد العون لي . ولكي لا أشعره أن قراري جاء بناءً على مواقفه المعلنة وبخله المرضي فقد أظهرت له عزمي على العيش بإمكانياتي البصرية المتواضعة مؤكداً له يأسي ونفوري من العلاج العقيم . حدث ذلك بعد أن أتخذ الدكتور فاضل قراره الحاسم بضرورة إجراء عملية جراحية في الأردن لتوفر الأجهزة المتطورة هناك الأمر الذي كان يعني إصابة مصطفى بسكتة قلبية ما أن نجبره على الدفع .
في أيامي الأخيرة مع الضوء كنت أكثر رغبة في الحياة من أي وقت مضى . وجدتني بحاجة إلى الشعور بالشبع كرد فعل على فقدي فرصة إجراء العملية وإيقاف انحداري المستمر نحو العمى . لم أخبر أسماء بهذا الأمر خشية أن أحطم حلمها في الحصول على رجل بمواصفات مقبولة حتى وإن لم تكن كاملة . شيء ما كان يقول لي ( أسرع ستفقد كل شيء في لحظة ) كل ما أستطعت فعله هو شرب كميات هائلة من الشاي ومراقبة أسماء من خلف نظارة سميكة خضراء تتآسن إذا ما غربت عنها الشمس .
امتلكت شجاعة أن أخبرها بعزمي على مطاردتها من جديد خارج الدائرة في محاولة لإجبارها على الاستسلام كليةً وتقديم التنازلات العاطفية . وفي نيتي أن أتبعها الى حيث تسكن وأقضي الليل تحت نافذتها العلوية كعشاق العصور الغابرة الشجعان . أسامر القمر وأنزف حباً . ولكنها أخبرتني أنها لا تمتلك أية نافذة
( 54 )
في البيت وأنها تنام مع أخوتها في غرفة المعيشة . وأن الحراس الليليين يتجولون باستمرار في حيهم ويطلقون النار على الغرباء بعد الساعة الواحدة ليلاً . هددتني بتقديم طلب إجازة لمدة سنة بلا راتب إذا ما قمت بتنفيذ خططي الصبيانية . لم أنجح في الضغط عليها ووجدتني والدمعة محبوسة في عيني أقسم ويدي على قرآن جيب أن لا أطاردها بعد الدوام الرسمي .
أستأنف حزني البركاني نشاطه ما أن أعلمني الدكتور فاضل أن هدر الوقت ليس في صالحي وأنني معرض في أي لحظة إلى فقد البصر . أجبرت نفسي على نسيان أمر العملية ما دمت لا أملك دفع ثلاثة ملايين دينار لشراء القليل من الضوء . وزاد حقدي على الأطباء وأقنعت قلبي أن تحذيرات طبيبي ليست أكثر من عملية ابتزاز من أجل الحصول على المزيد من الثراء . ومع ما كنت أشعر به من نشاط في الحب وقوة في الجسد ترسخ يقيني أن الأمر قد لا يحدث في المدى المنظور وأنه سيحتاج إلى سنوات . وبعد خمسة أيام فقط فقدت بصري إلى الأبد .
رفعت هذا الهم عن قلبي وواصلت حياتي بإرادة قوية متمتعاً بالتحويرات التي طرأت على أسماء . أعرف أن المرأة تتغير بعد الزواج ولكن يبدو أن هذا لا ينطبق على أسماء . وجدتها تمتلئ باللحم وتظهر لها منحنيات جديدة وأخذ وجهها يشع بالسعادة . في اليومي التاليين كانت أكثر جرأة مني وراحت تقاتل من أجل الحصول على فرصة تتحدث فيها معي . هدأت الدائرة فجأة حتى خيل ألي أن ساحراً طيباً مر بنا فسحر الموظفين وجعلهم كالدمى الطينية . أو أن قراراً إدارياً صدر وفرض فيه على الجميع غض البصر عن أوقاتنا العاطفية الجميلة وتقديم التسهيلات المطلوبة . اهتمت أسماء بي بشكل ملحوظ وأخذت على عاتقها مهمة تغذيتي بالفواكه والأطعمة البيتية الناشفة وأهدتني حزاماً من الجلد الطبيعي وسلسلة مفاتيح تتصل بدب إسفنجي
( 55 )
صغير من الشخصيات الكرتونية المشهورة . ورداً على مبادرتها اللطيفة اشتريت لها ساعة ذهبية رائعة الشكل غلفتها بورق هدايا وقدمتها لها وقلبي في فمي . وبدلاً من أن تحلق في فضاء الغرفة فرحاً ثم تهبط على صدري لتقبلني قبلة سينمائية طويلة . رأيتها تفقد الضوء وتخسر الزيادة القليلة في وزنها . وبدأت المنحنيات تندرس والابتسامة تتيبس .
سألتني :
- ماذا فعلت ؟
قلت بجفاف ريق :
- والله العظيم لم أفعل شيئاً !
عادت لتسألني :
- ماذا تريدني أن أصنع بهذه الساعة ؟
حاولت أن أبتسم :
- إنها هدية يا أسماء .. اشتريتها لك .
- بأي حق ؟
- إنها مجرد ساعة .
- ستذبحني أمي إذا رأتها .. وسيقتلني أخي إذا علم بوجودها معي .
- لماذا ؟ .. إنها ساعة فقط .
- كيف تقول هذا ؟ .. أليس لكل شيء ثمن ؟.. هل تستطيع أن تقول لي ما ثمن هذه الساعة ؟
( 56 )
- إنها رخيصة جداً .. هذه ليست ( رادو ) الأصلية يا أسماء .. إنها ساعة صينية لا قيمة لها .
- يبدو أنك لا تريد أن تفهم .
- أفهم ماذا ؟ .. إنها ليست أكثر من ساعة .
- خذ ساعتك ولا تفعل هذا مرة أخرى .
في آخر يوم لي مع الضوء كنت شديد الانزعاج والتوتر . لم تحاول أسماء إصلاح ما حدث و أكتفت بإظهار حزنها وشفقتها بنظرات حذرة ترسلها بين الحين والآخر وهي بجوار نافذتها . كان عبد الكريم في ذلك اليوم يشكو من التهاب في اللوزتين . نام على مكتبه لساعتين وعندما استيقظ نظر ألي بعينين منتفختين وسألني بصوت مبحوح :
- أما زلت هنا ؟
- أين تريدني أن أذهب ؟
قال وهو يفرك عينيه :
- أذهب إليها وكلمها ..
قلت بتوتر :
- كرامتي لا تسمح .
- إذا سأل عني المدير قل له بأنني مت .
حملت مجموعة من الأضابير وذهبت إلى أسماء التي قابلتني بابتسامة رقيقة .
( 57 )
قلت لها بخشونة :
- أرسلني عبد الكريم بهذه الأضابير ويقول بأنه لم يعد بحاجة إليها .
- شكراً .
تركتها بسرعة وعدت إلى مكتبي . جاءتنا أم حسن ببطنها المنتفخ . أطلقت ضحكة عالية ما أن سمعت شخير عبد الكريم الذي رفع رأسه فجأة وقال :
- كفي عن الصراخ يا أم حسن فهذه ليست ردهة الولادة .
وضعت يدها على بطنها وقالت :
- أعلم هذا يا عيني .. إنه فندق عبد الكريم أغا ومقهى عادل باشا ! .
وجدت أسماء تقف بيننا وراحت تتكلم مع أم حسن عن التعليمات والضوابط الجديدة الخاصة بالزيادة الممنوحة على الراتب . وما أن شاهدها عبد الكريم حتى غرق في نوم عميق . عادت أسماء بعد أن رافقت أم حين إلى الممر . نظرت إلى عبد الكريم وأشارت ألي بيدها مستفهمة . لفظت ببطء وبلا صوت .. ميت .
أشارت ألي أن أتبعها إلى الغرفة . قلت قبل أن أبرح مكاني :
- لا تستيقظ يا عبد الكريم .
رد بخمول :
- أذهب يا قيس .. كان الله في عوني .
( 58 )
وجدت أسماء هذه المرة على استعداد تام للتفاوض . قالت لي وأنا أجلس متخفياً بين حامل الأضابير والحائط :
- لم أقصد الإساءة إليك يا عادل .. أنا خائفة فقط .
قلت بشجاعة :
- نحن لا نقترف إثماً .. أليس من حقنا ممارسة حياتنا على الشكل الذي نريد .. أنا أحبك يا أسماء وأستطيع أن أقاتل من أجلك .
سألتني بهلع :
- ضد من ؟
قلت بصوت مرتفع :
- ضد العالم الذي لا يقبل أن أقدم لك هدية بسيطة أعبر بها عن مشاعري .
-أنت تبالغ يا عادل .
- لماذا ؟
قالت بعد تردد :
- أسمع يا عادل .. بصراحة شديدة أنا لا أستحق اهتمامك ومحبتك .
قلت بإصرار :
- العيب ليس فينا يا أسماء .. لقد أخبرني الطبيب إنني قد أفقد بصري في أية لحظة . ليس هذا هو المهم . الشيء الذي علينا أن نفكر فيه ونفعله هو خلق المزيد من الترابط والبحث عن وسيلة شرعية للبقاء معاً إلي أبعد زمن .
( 59 )
وضعت يدها على فمها وقالت بعد صمت :
- من الصعب تحقيق هذا .
- علينا أن نجرب .
- سيتهمك الناس بالغباء وستكتشف أنك كنت على خطأ .
شعرت بصدمة كبيرة . كانت جادة في الكلام وواثقة . وجدتها تنهض من مكانها وتقترب مني . أمسكت بيدي وراحت تضغط على أصابعي بشدة . اجتاحتني رجفة عنيفة وأنا أتطلع إليها بزجاجتين خضراوين . قالت بصوت هامس :
- حاول أن تتخلص من هذا الوهم بسرعة .
- ولكنني أحبك يا أسماء .
ردت على الفور :
- أنا أيضاً .
سألتها :
- أين الوهم في هذا ؟
أجابت :
- أنا لا أستطيع إلا أن أحبك .. أما أنت فتستطيع أن تبحث لك عن امرأة أفضل .
- علينا أن نخرج من هنا ونبحث لنا عن مكان نستطيع أن نتحدث فيه بحرية . أشعر بالضيق والاختناق هنا .
- مدينتنا صغيرة ولا بد أن نعثر على من يعرفنا كما أنك لن تشعر بأية متعة وأنت تسير مع امرأة عرجاء .
( 60 )
قلت بغضب :
- لا أريدك أن تقولي هذا .
انسحبت إلى مكانها وقالت بهدوء :
- إنها الحقيقة .
- الحقيقة الوحيدة التي أعرفها وأؤمن بها هي أنني أحبك .
نهضت من مكاني وأنا أقول :
- لك الحق في إظهار مخاوفك وشكوكك ولكنني أقول لك برجولة وتصميم إنني أحببت فيك كل شيء بما في ذلك ساقك القصيرة هذه وسأمنحك الفرصة الأخيرة يا أسماء ، سأنتظرك بعد انتهاء الدوام في الشارع المجاور بالقرب من نافذتك لنسير معاً في المنطقة السكنية التي خلف الدائرة ، لدي أشياء مهمة أريد أن أقولها لك .
سبقتني أسماء في الخروج من الدائرة وما أن وصلت إلى رأس الشارع المجاور حتى رأيتها تركب الحافلة دون أن تنظر خلفها .
* * * * * * * * * * *
( 61 )
- الخطوة 1740-
ظن الجميع أنني مقدم على ارتكاب حماقات خطيرة . في الصباح ذهبت أمي إلى السوق لشراء عصا . وسمعتها تطلب من سعاد أن تراقبني جيداً وأن لا تدعني أقترب من الباب . تناولت طعامي بشهية عالية وعزمت على حلاقة ذقني بنفسي . لم تعترض سعاد ولكنها بقيت واقفة إلى جواري تراقب حركاتي . كانت الفكرة في ذلك الوقت قد اختمرت في ذهني بعد أن قضيت مدة طويلة في معالجتها فكرياً والتخطيط لها بدقة . ووجدتني أمتلك اليوم القدرة على تحقيقها . الشيء الوحيد الذي يحتاج مني استعمال الدهاء والمكر هو الجزء الصعب والمهم في الخطة والمتعلق بأحمد فلابد لي من مساعدة تمكنني من اجتياز المرحلة الأولى بسلام .
كانت سعاد قد أنجزت القسم الأكبر من واجباتها المنزلية الأمر الذي مكنني من محادثتها وإزالة الشكوك التي زرعتها مخاوف أمي في رأسها . جاءتني الفرصة عندما أخذت سعاد تكلمني عن ضرورة البحث عن سبل تخرجني من عزلتي البيتية . أخبرتها إنني عازم على فعل هذا في الوقت الحاضر لذلك طلبت الحصول على عصا و أعلمتها أنني سأعمل على استعادة علاقاتي القديمة بشيوخ الحي . أظهرت ارتياحها وفرحها بقراري . عندها أبلغتها برغبتي في اصطحاب أحمد بعد أن يعود من المدرسة ليرافقني إلى بيت صديق يسكن بالقرب من الدائرة . أبدت موافقتها ما أن أكدت لها بأننا سنسير على أقدامنا لقرب المسافة ولن نستعمل أية وسيلة أخرى .
عادت أمي من السوق ظهراً . كانت مجهدة وهو ما أضطر سعاد إلى إسعافها ومساعدتها في التخلص من ثيابها الثقيلة . لم تنقطع عن إبداء أستغربها من التردي الحاصل في أخلاق الناس الذين انقلبوا إلى وحوش كاسرة لا تعرف الحلال من الحرام . وتأوهت قائلة :
- لم يعد السوق للنساء يا سعاد .
( 62 )
سألتها بخبث :
- لماذا .. هل تحرش بك أحد ؟
زجرتني قائلة :
- اسكت .. أنت السبب في كل هذا .. مفاصلي تؤلمني .
أعطتني سعاد العصا التي اشترتها أمي مظهرةً إعجابها بها . كانت مستقيمة تميل الى الشكل المخروطي ومنقوشة عند الوسط . قلت وأنا أدق بها على الأرض :
- إنها ثقيلة .
ردت أمي بعصبية :
- حتى أكسر بها رأسك عند الحاجة .. لست عجوزاً لتستعمل هذه الأشياء .
قلت لها :
- أنا أعمى يا أمي .
صاحت بانفعال :
- أعلم هذا .. خذ عصاك واغرب عن وجهي .
قالت سعاد :
- لا تضايقها يا عادل .
- كنت أمزح .
انتظرت حتى تناول أحمد طعامه ثم طلبت منه أن يصعد ألي . كان الهدف شديد الوضوح أمامي وهو الوصول الى أسماء مهما كلف الأمر . وهذا يتطلب مني التدريب على السير في اللون الأسود للوصول إلى الدائرة . الوسيلة الوحيدة التي وجدتها تعينني على تحقيق غايتي هي أن أعد الخطوات التي أحتاجها للانتهاء عند
( 63 )
نافذة أسماء وتحديد المواقع الخطرة والأشياء التي يمكن أن تصادفني في الطريق بلغة الأرقام وتكرار المحاولة أكثر من مرة للحصول على الدقة والمهارة .
تحمس أحمد للمغامرة . طلبت منه أن يحضر معه ورقة وقلماً بينما أنتهي أنا من ارتداء ملابسي موضحاً ضرورة كتم هذا الأمر والمحافظة على سريته . إستجاب الولد لأوامري على الفور وهو فرح بالمتعة التي سيجنيها في الخروج مع عمه الأعمى . تلمست الحائط بحثاً عن المرآة . وقفت أسوي ملابسي . أخذت العصا المتكأ على منضدة الزينة وضربت بها الأرض على الطريقة المسرحية وقلت لشكلي المظلم المنعكس على المرآة :
- هيا يا عادل الوردة .. انطلق بحفظ الله إلى أسمائك الجميلة .
قالت سعاد لأحمد وهي تودعنا :
- حافظ على عمك يا أحمد .
قال الولد بحماس :
- إنني أمسك به .. لن يضيع مني .
قلت له وأنا أضغط على كفه بيدي اليسرى :
- سنشرب الببسي احتفالا بالنجاح .
كان علينا السير في خمسة شوارع وعبور شارعين عريضين . طلبت من أحمد العمل على تطبيق القاعدة الذهبية القائلة _ الخط المستقيم هو أقصر الطرق بين نقطتين _ اتجهنا يساراً . سرت بمحاذاة الرصيف للمحافظة على الاستقامة والوقع المنتظم للخطوات . بدأت بالعد بصوت مرتفع ، شاركني الولد في هذا . توقفنا في نهاية شارعنا وطلبت من أحمد تسجيل عدد الخطوات بعد كتابة عبارة الشارع رقم واحد في أعلى الورقة . كانت
( 64 )
أن أكتشف تلك اللغة النغمية السرية بين العصا وعالم الطريق . في البداية كانت لغة صعبة ومجهولة وتحتاج إلى تنسيق وتفاهم بين اليد والأذن . الغريب أنني اصطدمت بجهلي التام لعمل القدم الانفرادي و لخارطة الطريق الأرضية ، وجدت معرفتي تتحد في المحيط البعيد وفي الطبيعة التكوينية للمواضع التي أخطو عليها . كنت أتوقف بين الحين والأخر لإصدار التعليمات وأجراء المسح البصري وتحديد الاتجاه . صادفتنا مشكلات عديدة أصعبها الأعمدة الكهربائية الضخمة الحاملة للمصابيح المزدوجة والمتقاربة على حافة الرصيف وهو ما جعلني التزم بالجهة البعيدة عن الشارع وجعل العصا تندفع بين التراب والارتفاع البسيط للكونكريت إلا أن هذا الوضع ما لبث أن أختلف وانتهت المساحات الفارغة وجاءت المباني لتضعني من جديد في مواجهة الأعمدة الكهربائية .
تمكنت من تحديد الأماكن الشاذة التي تعترض الطريق فعند الخطوة ( 514 ) يوجد قطع في الرصيف لمسافة أربعة خطوات ، وفتحة مجاري عند الخطوة ( 570 ) ، وهناك عند الخطوة ( 623 ) منطقة مغمورة بالماء بسبب كسر في أنبوب الماء . احتجت إلى الكثير من الوقت لأن أحمد كان شديد البطء في تسجيل الأرقام ولا يستطيع كتابة وصف الحالة ، الأمر الذي كان يتطلب مني التدخل لحسم الموقف كما أنني تجاوزت العديد من التخسفات والمطبات ولم أدون مواضعها كسباً للوقت .
شربنا الببسي قبل الوصول إلى الهدف . أشارت الدلائل الى صعوبة غير متوقعة ولكنني قاومت بكل ما أملك من قدرة و إصرار . لم يكن بحوزتي أي تصور لما سيحدث بعد ذلك ولكنني كنت على يقين من أن محاولتي هذه ليست الأخيرة وأن أهدافي في المستقبل ستتنوع وتشمل الكثير مما لم أكن أجرؤ على اقترافه في زمن النظارة الخضراء . أسماء هي محطتي الأولى وتصميمي الأكثر قوة على صنع الضوء .
( 65 )
أزداد الأمر تعقيداً ما أن وصلنا إلى شارع الربيع الذي في ثلثه الأخير تقع الدائرة . العقبة الصعبة التي واجهتني هناك هي كثرة المحلات التجارية وتباين أرضية الرصيف تبعاً لطبيعة الدكاكين المنتشرة على طرفي القسم الأول من الشارع ووجود العديد من الأعمدة الكونكريتية الضخمة التي ترفع الشقق السكنية والمكاتب المختلفة حيث تزدهر هناك مهن عديدة منها الطب والمحاماة . وجدت صعوبة في لجم انتباه أحمد وإبعاده مؤقتاً عما تعرضه المحلات في واجهاتها من مغريات كانت تستوقفني كثيراً وتثير أحلامي المكبوتة وأنا في طريقي للعودة إلى البيت . اضطررت إلى أجراء عد مزدوج يشمل الأعمدة الضخمة وذلك لصعوبة المحافظة على الخط المستقيم والخوف من زيادة محتملة في الخطوات . حرصت بشدة على الخروج بنتائج دقيقة والالتزام بالإيقاع برغم الزحام وضجيج السيارات وقيامي بطرح العديد من الخطوات الزائدة .
اجتزنا القسم الأكبر من شارع الربيع ودخلنا في منطقة البنايات الحكومية المتشابهة بعد عبور التقاطع والإشارات الضوئية . بدأ التعب ينال من أحمد ولكنني استطعت مده بالطاقة ما أن وعدته بتعليمه لعبة الشطرنج . شعرت بسعادة ونشوة طافحة بالبهجة ما أن اقتربت من مستوطنة أسماء الكوكبية . الغريب أنني كنت على صلة بجمال المكان وهذا شيء ظننت أنه سيذهب مع البصر . أنا من البشر الذين يرتبطون بعاطفة قوية مع مدينتهم ويفرحون عندما يجدونها متزينة بالنظافة والأبنية الحديثة ، ولحظة أن أمر بألواح النصائح التي تزرعها البلدية مناشدة المواطن المحافظة على جمالية المدينة ، ألتزم بما جاء فيها وأعمل على تطبيقها بدقة . طالبت أحمد بالانتباه واليقظة . لم أنجح في التآلف مع العصا حتى بعد قطع مسافة طويلة ولكنها كانت مفيدة برغم تمردها وجموحها . توقفنا عند البناية رقم ( 4 ) . وصف لي أحمد واجهة البناية بدقة وقرأ لي اللوحة المعلقة في أعلى المدخل كانت دائرتنا هي الوحيدة التي ألغت الأزهار من حديقتها الأمامية واهتمت بتربية العديد من أشجار الزيتون . اتجهنا يساراً وسرنا في الشارع الفرعي ويدي تلامس السور الحديدي حتى وصلنا الى نهايته .
( 66 )
سألت الولد ونحن نقف عند الخطوة ( 1740 ) :
- أحمد .. هل ترى نافذة عريضة بستارة زرقاء ؟
أجابني بعد صمت :
- نعم .
تساءلت قائلاً :
- هل أقف الآن أمامها ؟
- نعم .. أين بيت صديقك يا عمي ؟
* * * * * * * * * * *
( 67 )
أربعة أيام متتالية وأنا أقطع الطريق إلى الدائرة عصراً برفقة أحمد . أخذت النتائج تتحسن شيئاً فشيئاً برغم جسامة الخسائر المادية والتنازلات التي قدمتها في سبيل المحافظة على متعة أحمد . أثار خروجي المتكرر الكثير من التساؤلات ولكنني واجهت الموقف بحكمة وقمت بالانضمام مرغماً إلى ثلة الحاج محمود كي يبدو الأمر أنه محاولة للخروج من العزلة ومواجهة السواد بقلب مؤمن متحاشياً تقديم التفسيرات والأجوبة الصحيحة . ويبدو أن ما قمت به شجع الجميع على القيام بالشيء نفسه ، وما لبث البيت أن استعاد حريته واستقلاله و أعادت سعاد تنظيمه من جديد وقامت بملء الفراغات التي أوجدها العمى وظهرت مرة أخرى المزهريات والتماثيل الجبسية والحيوانات الخزفية منهية حصانة عاهتي ومحددة انتمائي الأسري بالطريق الواصل بين الباب الخارجي وغرفتي العلوية .
سرعان ما عثر أحمد على تسلية أذهبت عنه الملل وشدته إلى مغامرتنا . حدث ذلك في اليومين الأخيرين عندما استخدمت طاقات العمى الخارقة والكامنة في الحواس لتحديد مواضع الخلل في الطريق والاهتداء إلى الأماكن بلا بصر . في اليوم الرابع تمكنت من الوصول إلى الهدف بالخطوات المحددة سابقاً ، وللحصول على ضمان أكبر أخذت سلكاً معدنياً وربطته بإحكام في أعلى السور الحديدي في الموضع المقابل لنافذة أسماء كأجراء لمنع وقوع الخطأ بأي شكل من الأشكال وبذلك انتهت الحاجة إلى أحمد وبات علي أجراء زيارة عصرية خاصة أقوم بها بمفردي كتمرين أخير قبل الشروع بتنفيذ العملية في يوم السبت .
أزدحم البيت في يوم الجمعة ولكنني استطعت الهرب . وخزني الحزن ما أن لامست العصا إسفلت الشارع . وجدتني لا أستحق ما حدث لي . أنا أحترم في الأشياء وجودها واستقلالها ولا أستعبد أعضائي وهناك الملايين من المجرمين يعيشون بعيون مفتوحة ويدنسون الضوء .
( 68 )
كانت الأرصفة لا تخلو من المارة والعصا تفهمني فتخطو أمامي في السواد . يكبر مقترباً كلما تقدمت الى الأمام . لم أشعر أبداً بقوة الرؤية وسحرها الواقعي كما شعرت بها في تلك الأوقات وهي تفصل عن مشاغل الحواس وتنفرد بعذابي وعاطفتي مستدرجة الروح إلى برزخ الأمان . ازداد وجه السماء اقترابا حتى تمكنت من رؤية ابتسامتها البلورية وهي تتموج مندفعة نحو قبضتي التي كانت تمسك بالسلك المعدني الملفوف على الحديد عندها أصطدم وجهها السريع بي وراحت اللمعة الأسمائية المتشظية تلج إلى مسامات جسدي منعشة يقيني .
* * * * * * * * * * *
( 69 )
الضوء
في الساعة العاشرة تقريباً من صباح يوم السبت وقفت أمام نافذة أسماء وعلى وجهي ابتسامة مرتبكة . أعرف أنها تمل العمل في هذه الوقت وتبدأ معدتها بالجوع وشهوة الشاي تضرب في رأسها الصغير المتوجع أبداً ، لذلك لا شيء يجعلني أنكر حقيقة أنها تنظر من نافذتها وفي قلبها شيء من الحزن على فراقي . وجدتني أتحرك يميناً ويساراً وكلي يصرخ .. أنا هنا .. ، أسماء من الكائنات البسيطة التي لا تشعر بوجود العالم ، تعيش في خدر أبدي ، محقونة الدم بالغياب ، يتلبسها الانطواء مثل جني عنيد وإذا ما وقع بصرها على يدها فجأة تندهش ويصيبها الذهول من اكتشافها أنها أكبر بكثير من ورقة زيتون يابسة ! .
هذه هي المرة الوحيدة في حياتي التي لم أشعر فيها بالخوف والقلق . كانت نافذة أسماء هي الأخيرة ولكنها ليست الوحيدة في هذه الجهة من البناية . فهنا أيضاً تقع نافذة المدير والمعاون ونوافذ الحسابات ولا أحد من الموظفين يجد ما يفعله في هذا الوقت سوى النظر إلى الشارع وعلى الوجوه حزن السجناء . ولأن الرصيف الذي أقف عليه يخلو من المارة فحتما سيكون وجودي فيه لافتاً للنظر .
وبما أنني لا أتسول ولا أمسك ببندقية فسأكون عادل الأعمى الذي أضاع الباب ولا يعرف كيف يدخل لكن يبدو أن لا أحد أنتبه إلى وجودي في تلك الساعة وأنا أتحرك مثل ذراع الطابعة كلما ابتعدت قليلاً أعود إلى السلك المربوط لأبدأ من جديد في الأنزياح كالدودة تلصق مؤخرتها في رأسها ثم تعود إلى سيرتها الأولى .
الشيء الذي سقط من حساباتي وسبب لي الحيرة هو عدم تحديدي للوقت الذي أقضيه في الوقوف وكذلك افتقاري إلى الدليل الذي يؤكد أن أسماء شبعت من رؤيتي وأنها علمت أنني لم أخرج من حياتها كما أوهمها العمى . تملكتني الرغبة في عبور السور والاقتراب من النافذة ونقرها بإصبعي ولكنني اعتمدت على غريزتي
( 70 )
التي سرعان ما أشعرتني أن أسماء تنظر ألي وعلى وجهها ابتسامة مشرقة . رفعت لها يدي اليمنى مسلماً على طريقة تماثيل أهل الحضر وعدت إلى البيت .
كشفت لي سعاد عن مفاجأة مذهلة أعدها مصطفى وأخبرتني أن أحد الأصدقاء أهدى زوجها قماشاً إنكليزياً فاخراً وتثميناً لنزعتي الحياتية الجديدة قرر أخي أن يهبني القماش . وبالفعل ذهب به الى أبن خالي الخياط وقد عاد اليوم ببنطلونين جميلين وضعتهما سعاد على سريري . عززت هذه الهدية في نفسي الثقة وأعلمتني أن ما أقوم به قريب الشبه بالعيد وأن أحداثاً مهمة ستقع لي تجلب الخير والسعادة .
بأناقة وقفت أستعطف انتباه أسماء وأنا أزهو بابتسامة صامدة وقلبي يرفرف فرحاً . لا أعلم لماذا امتلأ الشارع فجأة بالسيارات المتقاطرة على الجانبين وازدهر بالبشر . الأمر الذي منحني القدرة على البقاء لفترة أطول . من المؤكد أن أسماء رأت شكلي الجميل وهي الآن تنظر الي بمتعة وتنادمني في قلبها . كم وددت أن أرقص أو أن أقوم بحركات بهلوانية أستخدم فيها العصا على الطريقة الشابلنية وعوضاً عن ذلك وجدتني أضم يدي على صدري وأحرك عضلات وجهي بتعابير تقول أن الشاي على النار ! . تنفست بعمق وأنا أظن بأنها قامت لتغسل قدحها الخزفي . وما أن أخذت بالاسترخاء ودب الدفء في جسدي حتى رفعت يدي اليمنى مسلماً على طريق تماثيل أهل الحضر وسرت عائداً .
في يوم الاثنين كان البرد شديداً وقد أنذر بالمطر . حاولت أمي منعي عن الخروج ولكنني جابهت مخاوفها بقبلات عنيفة جعلتها تفر مني مختنقة بالضحك . استوقفتني سعاد طالبةً أخذ المظلة معي لأن السماء بدأت
( 71 )
تبلل الأرض . انتظرتها عند الباب وأنا أتطلع بعينين سوداوين إلى الأعلى متنفساً الرائحة المطرية التي تنبعث في الجو . قالت سعاد وهي تفتح المظلة فوق رأسي :
- سيسلخ مصطفى جلدي لو علم بهذا .
قلت لها :
- لم أقابل في حياتي رجلاً محظوظاً مثله .
أشتد المطر شيئاً فشيئاً ولكنني ما أن وصلت الى شارع الربيع حتى تمتعت بغطاء من الأبنية وأنصب اهتمامي على عدم تعريض ثيابي لمخاطر الظروف الجوية . شعرت بالبرد يلسع وجهي وأنا أقف أمام نافذة أسماء . لم تكن الساعة قد بلغت العاشرة ولكنني أعلم أن المطر هو النداء الوحيد الذي لا تستطيع أسماء تجاهله . منحتني المظلة تخفياً جيداً ولكنني لم أستطع مقاومة البرد ووجدتني أرتجف وأنا أرفع يدي مسلماً على طريقة تماثيل أهل الحضر . هدأت رعشة يدي ما أن أحسست بأصابع دافئة تلفها بحنان وتخفضها برقة . قفز قلبي إلى حلقي وأنا أسمع أسماء تقول :
- صباح الخير ..
- أسماء ؟
- كنت أعلم بأنك ستأتي ..
أردت إخبارها أن هذا اليوم هو الثالث ولكنها دخلت تحت المظلة وتعلقت بذراعي وهي تلتصق بي قائلة :
- إلى أين سنذهب ؟
أجبتها باضطراب :
- لا أعرف .
( 72 )
سألتني :
- هل ستسير تحت المطر كالمجانين ؟
قلت لها :
- هذا أجمل .
حاولت أن أجعل العصا تتكئ على السور الحديدي ولكنها سقطت منبهة أسماء التي حاولت الانحناء لالتقاطها . ضغطت على ذراعها ممانعاً وأنا أقول :
- اتركيها .. لم أعد بحاجة إليها .
تمت
2002
( 73 )