مفهوم الوحدة
الوحدة هي تعدُّد مختلِف يتكامل. فلا وحدة بلا تعدد ولا وحدة بلا اختلاف، ولا وحدة بلا تكامل. الجسم البشري لا ندركه إلا بتركيب متناسق متكامل لجميع أعضائه. فلا يمكن أنَّ اليد مثلاً تمثلُ الجسمَ كلَّه. ولا يمكن أن نجعل أعضاء الجسم نسخاً عن بعضها، وإلا فلا داعي لوجودها. يجب أن يكون كل عضو مختلفاً عن الآخر، لكن منسجماً معه ويعمل معه لا ضدَّه. فلا يمكن مثلاً أن يعمل القلب بلا دم والدم بلا شرايين والشرايين بلا لحم واللحم بلا عظام… وهكذا…
ومن يجعل الأعضاء نسخاً واحدة متماثلة فإنه يلغي وظيفتها أي يلغي علة وجودها، أي يلغي وجودها، وبالتالي يلغي وجود الجسم ككل. ومن يفصل الأعضاء عن بعضها يلغي وجود الجسم ككل متكامل. يجب أن تكون الأعضاء مختلفة لأن وظيفتها مختلفة، لكن تتناغم في وحدة متكاملة تشكل الجسم. فالجسم إذاً ليس تجميع الأعضاء مع بعضها فقط، بل الجسم هو أكثر من مجموع الأعضاء، هو مجموع الأعضاء + تكاملها.
"مجتمع" الحيوان هو تجمُّع فرديات متشابهة مكرَّرة، و"مجتمع" الإنسان هو تجمع شخصيات مختلفة متكاملة.
والتكامل يتحقق بالعمل الذي يعود بالفائدة على الفرد وعلى الآخر في تكامل.
الغاية من الوجود المعرفة، والغاية من المعرفة العمل، والعمل يقلِّص الأنا لصالح الكل المتكامل دون أن يلغيها، وبذلك تُحقِّق الأنا ذاتَها في إطار الكل. والأنا المتضخمة المتكبرة لا تعمل لصالح الكل، لأنها لا تعترف بالكل، بل لصالح ذاتها، وبذلك تخسر ذاتها. والأنا التي لا تعمل لصالح الكل لا تعمل أصلاً، والأنا التي لا تعمل تفقد ذاتها، وإن ظنَّتْ أنها تحقق ذاتها؛ كالغصن الذي لا يعمل لصالح الشجرة لا يعمل أبداً والغصن الذي لا يعمل أبداً ييبس والأحرى أن يُقطَع ويُلقى في النار، كما قال يسوع المسيح معبِّراً عن الوحدة: "أنا الكرمة الحق، وأبي الكرَّام. كل غصن فيَّ لا يثمر يفصله. وكما أن الغصن إن لم يثبت في الكرمة لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك أنتم لا تستطيعوا أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان… من لا يثبت فيَّ يُلقَ كالغصن إلى الخارج فيجمعون الأغصان فيلقونها في النار فتشتعل". [1-2 من إنجيل يوحنا الإصحاح 15]. لهذا يقال أن المتكبر لا يدخل الجنة أي لا يدخل في الوحدة التي هي مملكة الله، بل يُلقَى في النار، لأنه لا يحق للجزء أن يتكبر على الكل، لأن الجزء لا يوجد إلا بوجود الكل، والذي يعمل ما لا يحق له لا يحق له أن يكون في الكل. والغصن الذي لا يعمل لصالح الشجرة التي منها يستمد وجوده لا يحق له أن يكون أصلاً في الشجرة.
فالغصن الذي يثبت في الشجرة يعمل إذاً لصالح نفسه ولصالح الشجرة فيحقق نفسَه. والغصن الذي لا يثبت يموت فيخسر نفسه ويخسر الشجرة، بينما تستمر الشجرة في الحياة.
المشكلة إذاً تكمن في الأنا. والأنا في الحقيقة كقطرة المطر النازلة من السحاب إلى النهر أو البحر، ليس لها وجود بذاتها بل بانصهارها. والنهر أو البحر ليس إلا مجموعة قطرات...
فالأنا هي مصدر كل ألم. ولا يُلغَى الألم إلا بخلع الأنا للدخول في الوحدة كما ورد في القرآن: "اخلع نعليكَ إنكَ بالوادي المقدَّس طوى". أي اخلع نفسكَ.
ومما ورد عن النِّـفَّـريّ:
"وقال لي: ترى نفسَكَ وأنا أقربُ إليكَ من نفسِكَ، ذلك هو البُعد.
ما بقيَ بيني وبينكَ شيء فأنتَ عبدُه ما بقي.
بيني وبينكَ حبُّكَ لنفسكَ."
وقال الحلاج:
- بيني وبينكَ إنِّـيٌّ ينازعُني فارفعْ بلطفِكَ إنِّـيِّـيْ منَ البينِ.
لكي ندخل إلى الـ (هو) يجب أن نعدم الأنا، لأن الـ (هو) هي مملكة ما فيها لا أنا ولا هو ولا هي. فالوجود في جوهره واحد ساكن تعدَّدَ وتحرَّكَ فتمايزَ. الأنا لا وجودَ حقيقياً لها.
الأنا وَهْـم.
والوجود، بحسب ما يقول الشيخ أحمد حيدر، هو مادة، والمادة طاقة، والطاقة نور وإشعاع، والنور هو أصل الأشياء. والأنا وهم.
أما الوجود، بحسب الفيثاغوريين، فهو أرقام منسجمة متناغمة كالموسيقى والعالم نغم ورقم (أي موسيقى وعدد). والكون ليس إلا سكوناً يهتز ليعطي المادة التي تختلف باختلاف درجة الاهتزاز.
الوجود وحدة. وفي الوحدة لا وجود للأنا.
فأين الوحدة العربية التي تعج بالأنوات المتناحرة من مفهوم الوحدة ؟؟؟
وأين الحل ؟
أو بالأحرى أين المشكلة ؟؟؟
المشكلة، ربما، تكمن في أنَّ الفكرة التي يرى فيها البعض خلاصاً لنا يرى فيها الآخرون عينَ المشكلة. فبينما يرى الأصوليون الإسلاميون أنَّ حلولَ مشاكل الأمة وتطورها يكمن في طريق واحد هو التطبيق الحرفي للإسلام، يرى المتنوِّرون أن المشكلة هي في وجود مثل هذه الأفكار عند الأصوليين بل وحتى في وجود الأصوليين أنفسِهم.
إنّ السكَين - مثلاً - التي يستفيد منها شخصٌ ما في وقتٍ ما لإعداد طعامه ربما تكون هي نفسُها التي يقتل فيها شخصاً آخر في وقت آخر.
ربما يكون الإسلام الذي أدى، فيما سبق، إلى نهوض العالم العربي هو نفسُه الإسلام الذي يؤدي الآن - حتماً - إلى تخلف العالم العربي، فيما لو طُبِّقَ على الشكل الذي كان عليه في القرون الوسطى. هو نفسُه وهو غيرُه في آنٍ معاً.
ولو قبِلنا بأن الطريق الوحيد للخلاص هو في تطبيق الإسلام الحرفي أو الظاهري، ستواجهنا مشكلة بل مشاكل تتلخص في السؤال: أي تطبيق لأي إسلام وعلى أية درجة ومن قِبَل مَن؟؟؟؟
ربما يكون تطبيق الإسلام القَـرْوَسطي هو الطريق الوحيد للخلاص، لكن للخلاص من بقايا الحرية، من بوادر المساواة بين الجنسين، من علامات المحبة، ومن اللاعنف. ربما يكون الإسلام القَرْوَسَطي هو أقصر الطرق للخلاص من عناصر التطور. ربما.
لقد طُبِّقَ إسلامٌ ما في قرنٍ ما، ونجحَ إلى حدٍّ ما. وعندما سقطت الاشتراكية قالوا: "إنها طُبِّقَتْ بشكل خاطئ. على أية حال، فإنهم طبّقوها بطريقةٍ ما ولم تنجحْ "بطريقةٍ ما".
أما عن المسيحية فكما قال تيودور مونود: "لا أقول إنّ المسيحية أخفقتْ، بل إنها لم تجرَّبْ بعد". فإذا كان الإلحاد الحالي هو ثمرة المسيحية الأوربية، فأية مسيحية كانت مطبَّقة إذاً؟
المسيحية لم تُطَبَّقْ بعد. ربما سيكون الزمن القادم هو زمن المسيحية الإسلامية أو الإسلام المسيحي، وليس زمن اللادين؛ لأنه، كما قال أندريه مالرو: "القرن الواحد والعشرون إما أن يكون متديناً أو لا يكون".
والكنيسة الكاثوليكية تقوم حالياً باتخاذ مواقف جريئة ومهمة تستدعي الانتباه، وتعدِّل من مواقفها تجاه الأديان غير المسيحية، إذ لم تعد تحكم عليها بأنها ضالة وخاطئة، وأنّ أتباعَ الأديان الأخرى يمكنهم بلوغ الخلاص. وقد أكد الفاتيكان في الآونة الأخيرة على أهمية الحوار، حيث عبر المجمع الفاتيكاني عن موقف الكنيسة بالقول: "... وفقاً لمهمتها في دعم الوحدة والمحبة بين البشر، تنظر الكنيسة، قبلَ كلِّ شيء، إلى ما هو مشترك بين الناس ومن شأنه أن يقودهم إلى الشركة بعضهم مع بعض".
فموقف الكنيسة الحالي مثال يُحتذى من قبل الأديان الأخرى.
أن التأخر المادي للعالم الإسلامي ليس إلا نتيجة أو صورة لتخلف أعمق أو ليس إلا تخلفاً على صعيد مهم رئيسي أدى إلى تخلف آخر على صُعُد فرعية منها الصعيد الاقتصادي والسياسي والعلمي. يقول الأصوليون إن العالم الإسلامي تخلَّف لأنه لم يطبِّق الإسلام، فلماذا إذاً تقدَّم العالم الغربي مع أنه لم يطبق الإسلام ؟؟؟
هذا ربما يعني أن التقدم لا يرتبط بتطبيق نظام ديني ظاهري معين؛ بل ربما يرتبط التخلف بتطبيق نظام ديني ظاهري غير منسجم مع الباطن.
إن المسلمين الأوائل أبدعوا طريقة خاصة لتطبيق فهمهم الخاص. فجاء التابعون ليخلطوا بين الفكرة وبين طريقة تطبيقها وجعلوهما شيئاً واحداً.
عندما أخذ المسلمون الأوائلُ الدينَ، إذا صح التعبير، ابتدعوا طريقة منسجمة مع فهمهم لتطبيق هذا الدين. فجاء التابعون وأخذوا طريقة الأولين ونسوا الدين. وظنوا أن طريقة تطبيق الدين هي نفسُها الدين، فطبقوا الطريقة دون أن يعرفوا الفكرة. وكلما تشددوا في طريقة تطبيق الطريقة ضاعوا وتخلفوا.
عندما تصبحُ العاداتُ والتقاليدُ ديناً أو عندما يصبح الدينُ عاداتٍ وتقاليدَ، يتخلف المجتمع.
وعندما يصبحُ المسلمونَ مسلمين وعندما يصبح المسيحيون مسيحيين، يتقدَّم المجتمع.
لستُ أدري لماذا يعتبر العالم الإسلامي أن الغرب عدو له بينما يقلده حرفياً ؟؟؟
المشكلة ربما هي أننا لا نعرف.
لكن ماذا علينا أن نعرف ؟ وكيف نعرف ؟
ربما أننا لا نعرف إلى الآن ما هو مفهوم الوحدة.
لكن ما هو مفهوم الوحدة ؟؟
محمد علي عبد الجليل
الجمعة 28/11/2003
منشورة في موقع معابر
http://maaber.org