ضياع الهويَّة أم هويَّة الضياع؟
كثيرًا ما يقذفونني بأسئلة من مثل: "ما هو انتماؤكَ الطائفي و/أو المذهبي و/أو الديني و/أو القومي و/أو الحزبي؟"
ويكون جوابي دائمًا بأنني، حتى الآن، لا أعرف – ذلك أنني لم أقررْ بعد!
ويعتبرون مثل هذا الجواب مؤشرًا واضحًا على ضياعي وفقدان هويتي.
أقول: إذا كانت الأمَة التي أنا منها ضائعة، فمن المنطقي أن أكون مثلها بحكم أنها ولدتني.
أظن أن الهوية التي ألصقوها بي هي "هوية اللاهوية" أو هوية اللُّـقَطاء.
كثيرًا ما يقذفونني بأسئلة يكون جوابي عليها بِـ"لا أدري" – ذلك لأنني لم أتَرَبَّ لا على طرح الأسئلة، ولا على الإجابة الصريحة عليها، ولأنني لا أعرف إلى الآن من أنا، ولا أدري إلى أيِّ قطيع أنتمي.
هذه هويتي – هوية الضياع.
ولستُ متأكدًا تمامًا من حصولي عليها.
*
نحن، في صراحة، عبيد لما أنتجه مفكِّرو القرون الوسطى، عبيد لتقاليد أجدادنا وعاداتهم. لذا كان من السهل جدًّا أن نكون عبيدًا لغيرنا، لأننا تلقَّينا بذرة العبودية بالوراثة.
وإذا كنَّا قادرين على التحرر من طريقة حياة أجدادنا وتفكيرهم (التي ابتدعوها لعصرهم وليس لعصور أحفادهم)، فسنكون حتمًا قادرين على التحرر من عبودية الآخرين. ولا أظن ذلك ممكنًا في الوقت الراهن لأننا لم نعترف، إلى الآن، لا بعبوديتنا، ولا بضياع هويتنا.
*
لقد تحرَّرنا من كلِّ شيء لا يستعبدنا.
تحرَّرنا من كلِّ شيء يمكن أن يحرِّرنا.
عرفنا كلَّ شيء – إلا الحرية.
حصلنا على كلِّ شيء ليس له وجود في هذا العالم.
*
إن أجدادنا الذين جاءوا بالإسلام لم يخضعوا لمنطق أجدادهم، إنما تجاوزوه وخلقوا منطقًا خاصًّا بهم. وإذا خضعوا لمنطق فإنما خضعوا لمنطق التغيير. وأظن أنهم نجحوا وفشلنا، بدليل أننا نحتمي من فشلنا بنجاحهم.
إنهم جاءوا بمنطق جديد لعصرهم الجديد.
لهذا أظن أننا في حاجة (لكي ننجح) إلى مفهوم دين جديد، ونبيٍّ جديد، وحتى إلى إله جديد. فنحن في حالة من الاهتراء، حتى إنه لا ينفع معنا ترميم الدين القديم، ولا النبي القديم، ولا الإله القديم.
أظن أنه لن يقيَنا من البرد ثوبٌ لبسه أجدادُنا قروناً طويلة – مهما رمَّمْنا فيه وأصلحنا.
نحن الآن في حاجة إلى خيوط جديدة لنسج ثوب جديد – قبل أن يقتلَنا البرد.
*
لا أخفي عليكم أنني أحب معلَّقة امرئ القيس التي مطلعها: "قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ"، وأغنية طوني حنا: "شروال جدك يا جدي"، وأغنية فيروز: "بيتِـكْ يا سِتِّي الخِتيارة". لكن ما الذي يمنعني من أنْ أحب أغنية:
كان غير شِكْل الزيتون
كان غير شِكْل الصابون
وحتى إنتَ يا حبيبي
مش كاين هيك تكون.
وأغنية:
كِلْمِة كِلْمِة يا حبيبي تا افهم عليكْ
أو فتِّـش عن غيري بيفهم إذا رَحْ تبقى هيك.
وأغنية:
بِتذكَّـركْ كِلْما تِجيْ لَتغَـيِّـم
وِجَّكْ بيذَكِّـرْ بالخريف
بترجَـعْـلي كِلْما الدِّنيْ بدَّا تعتِّـم
متل الهوا اللي مبَـلِّـش عالخفيف
القِصَّـة مِشْ طقس يا حبيبي
هَـيْ قِصِّـةْ ماضي كان عنيف
بس هلَّـقْ ما بتذكَّـر شكل وِجَّـكْ
بس بِذْكُر قدَّيش كان أليف
بَـعدو أليف
بَـعدَكْ ظريف
بَعدو بيعنيلَك
متل الخريف
خبِّرني إنْ
بَعدَك بتْـحِـنّْ
ما بعرف ليش عَمْ بحكي ولا كيف.
*
والله، يا جماعة، أنا أحب "سروال جدي" إلى درجة أنني لا أحب أن ألبسه!
أريد بنطالاً على مقاسي. وهذه مهمة مصمِّمي الأزياء. وأطلب منهم أن لا يعيدوا طرح سراويل الأجداد القديمة في الأسواق الجديدة، بل عليهم أن يسلِّموها إلى مديريات الآثار والمتاحف ويفكِّروا في تصاميمَ جديدة.
وإذا كانت لا توجد سراويل جديدة، ولا أحذية جديدة، ولا هويات جديدة، فإنني مضطر إلى استخدام سروال جدي، وحذاء جدي، وهوية جدي، ريثما تصدر السراويل والأحذية والهويات الجديدة.
*
لا تستهزئوا بي ولا تلوموني إذا قلتُ لكم إنني ضائع، ضائع، ضائع!
واعترافي بضياعي هو بداية الطريق لكي أجد نفسي.
*
أذكر أني قرأتُ مرة أن أحد الباحثين عن الحقيقة كان يبحث عن أبي يزيد البسطامي، وصادفَ أن التقى به فسأله: "إني أبحث عن أبي يزيد البسطامي. أأنتَ هو؟" فتنهَّد أبو يزيد وقال: "وأنا أيضًا أبحث عن أبي يزيد منذُ سنوااااااات!"
*** *** ***
محمد عبد الجليل
منشورة في موقع معابر
http://maaber.org