نحو نظرية لاهوتية للرُّوحانية

Folder: 
ترجمات

نحو نظرية لاهوتية للرُّوحانية؟[1]

  

ستيفان فالتِر[2]



تختلفُ صورة الله باختلاف كلِّ مجتمع؛ أي أنها تتوقف على عوامل بشرية: تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية إلخ. ومن جهة أخرى، فقد اتَّسع الصراعُ الإيديولوجي العريق الذي شُنَّ باسم الحقيقة اتساعًا جديدًا ضمن الإطار غير المُقَوْنَن للعولمة: إذ أخذَتْ في الظهور نظرياتٌ لاهوتية متناقضة، دخلَتْ فيما بينها في تنافُس مباشَر بفضل وسائل التواصل الجديدة وتبادُل الأشخاص والأفكار أيضًا؛ وهي كثيرًا ما تجعل التوتر بين الأفراد والمجموعات أو الدول يحتد. بيد أن العروضَ المتنوِّعة للدين يمكن لها أنْ تخفِّفَ من صعوبة الحواجز العقائدية القديمة، وبالتالي من حدة النزاعات، وذلك من خلال تشجيع روحانية جديدة تكون منفتحة ومتسامحة ونسبوية relativiste و"توفيقية" إلى حدٍّ ما. وسنقوم فيما يلي بإجراء مقارَنة بين الغرب وبين العالم العربي الإسلامي.

عندما ابتدع المسيحيون صورتَهم عن الإله

[...] وكلُّ امرأة تصلِّي أو تُنبِئُ وهي مكشوفة الرأس تشين رأسَها [أي زوجها] كما لو كانت محلوقة الشعر. وإذا كانت المرأة لا تتحجَّب فلتقصَّ شَعرَها. ولكن إذا كان من العار على المرأة أن تكون مقصوصة الشعر أو محلوقتَه فعليها أن تتحجَّب.

أما الرجل فما عليه أن يعتمر لأنه صورة الله وشعاعه، وأما المرأة فهي شعاع الرجل. فليس الرجل من المرأة، بل المرأةُ من الرجل، ولم يُخلَق الرجلُ من أجل المرأة، بل خُلِقَتِ المرأةُ من أجل الرجل. لذلك يجب على المرأة أن تجعل على رأسها علامة الخضوع من أجل الملائكة. [...]

احكُمُوا أنتم بهذا: أيليقُ بالمرأة أن تصلِّيَ لله وهي مكشوفة الرأس؟ [...] (الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 5-10 و13)

وأريد أن يكون على النساء لباسٌ فيه حشمة وزينةٌ فيها حياء ورزانة، لا بشعر مجدول وذهب ولآلئ وثياب فاخرة، بل بأعمال صالحة تليق بنساء تعاهدْنَ على تقوى الله.

وعلى المرأة عند التعلم أن تحافظ على السكوت بكلِّ خضوع. ولا أجيز للمرأة أن تعلِّم ولا أن تتسلَّط على الرجل، بل عليها أن تلزم الهدوء. [...] (الرسالة الأولى إلى طيموثاوس 2: 9-12)

استقينا هذين المقطعين (المنحازَين ضد المرأة؟) من رسائل بولس. ومن شأنهما أن يستفزَّا اليوم كلَّ ذهنٍّ مسيحيٍّ منفتح يكونُ لِزامًا عليه، من أجل التوفيق بين الإلهام الرسولي والاتِّساق الإنجيلي، أنْ يعيد وضعَ كلام "رسول الأمم" ضمن سياقه التاريخي، وبالتالي أنْ يُضْفيَ صفةَ النسبية على تعاليمه المحابية للذكور. ولو قُيِّضَتْ لبولُسَ المشارَكةُ في النِّقاش، لكان قطعًا اعترف، من جهته، بنسبة هذه الأقوال إليه، ولَكان اعترفَ بكلِّ تواضع أنه لم يكن سوى النتاج الفكري لبيئته. ولَربما دفَعَتْه استقامتُه جَزْمًا إلى إعادة صياغة رؤيته الرجعية (بالمقارَنة مع قيَمِنا الحالية) للنساء في فكر حديث، منفتح ومناصِر للمساواة، وذلك لو أتيحَ له أن يقيم مدةً قصيرة في مجتمعنا وأن يعيدَ فيه تأكيدَ مواقفِه العقائدية. أليس هذا مثالاً واضحًا على الخاصية الظرفية لأيِّ بحث يتعلَّق بالعقيدة؟ فلنورِدْ قولَ الفيلسوف:

ليس مشروعًا ضيقًا وخسيسًا موضوعُ إنجاب إله. لأن الإنسانَ وحدَه يتمخَّض عن الآلهة. إذْ تُفيد هذه الصورُ النابعة من عقله هو كأساسات أسطورية للقيم الأخلاقية والفكرية التي يحملُها الإنسانُ وينتجُها ويَلِدُها. فصفاتُ أيِّ إله هي شواهد مؤثِّرة على عظمة البشر وبؤسهم. لذلك رَسَمَ مُوَلِّدو maïeuticiens الإله يسوع، من حيث لا يدرون، صورةً سياسية ونفسانية أخَّاذة للجنس البشري.[3]

مافتئت التوراة العبرانية (العهد القديم عند المسيحيين)، منذ حوالى قرن، تئن تحت وطأة الاكتشافات الآثارية والنصِّية. وهكذا بات يُنظَر إلى التاريخ المقدَّس للعلاقات المميَّزة بين يَهْوَه وشعب إسرائيل من خلال رؤية جديدة، نقدية ومزعِجة طبعًا للذهنية الأصولية التي تقبل على مضض أن يشير المؤرِّخ بإصبعه إلى تدخلات الكُتَّاب والمفسِّرين في وديعة رواية قومية تريد لنسيجها أن يكون مقدسًا ومتعاليًا.[4] أما فيما يخص العهد الجديد، فلا ندَّعي تقديمَ دراسة مفصَّلة عن تكوُّن الدراسات حول المسيح [المسيحيات] la christologie، بشكوكها وصراعاتها الداخلية، لكنْ يمكنُ لنا، مع ذلكَ، إيرادُ بعض المؤشرات التاريخية الأساسية التي من شأنها أن تُتيحَ إضفاءَ النسبية على الخاصية المقدَّسة والسرمدية التي غالبًا ما توصف بها، اليوم، طبيعةُ الله (إنْ كانَ موجودًا أصلاً!)، وبالمثل، على مشيئته وشرائعه أيضًا. ربما يكون من الممكن إذًا إعادةُ النظر في مختلف العقائد المسيحية، الرسمية منها أو الانشقاقية، وعدم النظر إليها إلا كثمرة نزاعات سياسية وخلافات إيديولوجية خاصة، محدَّدة تاريخيًّا وثقافيًّا على أية حال. وحتى لو طوَّرَ الفكرُ الديني للمسيحيين الأوائل منطقًا متماسكًا مَبْنِيَّا على الفلسفة اليونانية النظرية، فمن الخطأ أن نتقيد باستنباطات اللاهوتيين الأوَّلين الذينَ ابتدعوا إلهًا يتناسبُ وآمالَهم وهمومَهم. فحتى إنِ احتفَظَتْ تصانيفُ لاهوتيةٌ عديدة بقيمة أبدية، مع بقاء الإنسان، في النهاية، هُوَ هُوَ، مهما تغير الزمانُ والمكان، فإن تصانيفَ أخرى تتطلَّبُ تفكيكًا من شأنه أن يؤدِّيَ إلى تصورات جديدة حول طبيعة المسيح ومشيئة الله.[5]

[...] عبثًا تحاوِلُ دراسةُ المسيح [المسيحيات] la christologie أنْ تمسك بطرفَي السلسلة: إله ميتافيزيقي لا يُسبَرُ كُنْهُه، من جهة، ومسيح يُفتَرَض فيه أن يقيمَ جسرًا بين المُطْلق والإنسان، من جهة أخرى، لكنه محكوم عليه تارةً بالتلاشي في غيب "جوهر" الله، وطورًا بالغرق في الخاصية الطارئة لشخص مغالٍ في بشريَّته. [...] فالإشكالية الحقيقية لمسألة ألوهية المسيح هي إذًا إشكالية توازُن القوى السياسية التي لم يكن لاهوتُ قربان المذبح غير ترجمة لها. وهذه الإشكالية هي، بالفعل، حاضرة بكلِّيتها في التأرجُح ما بين مأزقين. إذ إن العقل النظري يتبدى عاجزًا عن الاستعاذة من الاستبدادَين المُطْلقَينِ اللذين يتبطَّن عليهما لاهوتُ التثليث. فتارةً يكونُ المسيحُ فيهما من الغلوِّ في الألوهية بحيث لا يقدر على كبح تسلُّط الكنيسة والدولة اللتين تعلنان نفسَيهما معًا ممثِّلتَين مباشرتَين للمطلَق على الأرض ووكيلتَين معصومتَين عن مصالح جنس بشري يرتقي إلى مرتبة الملائكة؛ وتارةً أخرى يكون المسيح فيهما من الغلوِّ في بشريَّته بحيث يعجز عن تغيير استقلالية الغضب الإلهي، مما يجعل الاستبداد الكنسي متعذرًا، منتزِعًا من الذبيحة القربانية سلطانَها الفدائي في إطار سياسة طاعة الشعوب لسادتها، الذين "خلاصُهم" هو التعبير الديني عن هذه الطاعة. فدراسةُ المسيح la christologie، بتصاديها مع الشرط البشري ومجاراتِها للأنظمة السياسية، هي القدرة الكاشفة عن البُعد اللاوعي لعلاقات التضحية الذاتية للإنسان مع نفسه.[6]

جديرٌ بالتأمل – جَزْمًا – هذا التحليل البصير للفيلسوف!

ظلَّت المسيحيةُ مضطَهَدةً زمنًا طويلاً حتى جاء قسطنطين ومنح المسيحيين امتيازاتٍ من خلال مرسوم ميلانو في العام 313. وقد أعطى هذا التسامح دفْعًا مذهِلاً للكنيسة، أو بالأحرى لمختلف الكنائس كما للبِدَع العديدة: المندائيين (الصابئة) الذين كان يوحنا المعمدان في نظرهم النبيَّ الحقيقي الوحيد (والذين تقوم مناسكُهم على التعميد في النهر)؛ والمريميين والكوليدوريين، الذين كرَّسوا عبادةَ العذراء؛ ومُعارِضي المريميين، المنكرين للبتولية الدائمة للسيدة مريم؛ واليهود المسيحيين الناصريين والإبيونيين ("الناصري" هو لقب يسوع الذي كان يعني "قدوس الله" أو "المنسوب إلى الناصرة" أيضًا)؛ ومُعارِضي اليهود المرقيونيين[7] (حوالى 85-160 م) الذين اختزلوا الكتابَ المقدس إلى إنجيل لوقا وإلى عشر من رسائل بولس؛ والقربوقراطيين (بداية القرن الثاني)، المتأثِّرين بالفلسفة الأفلاطونية (الإسكندرانية) وبالفلسفة اللاأخلاقية المتمردة؛ والباسيليديين[8] الغنوصيين المتأثرين بالفلسفة الإسكندرانية (النصف الأول من القرن الثاني)؛ والفالنتينيين[9] الغنوصيين، المستقرين في روما (منتصف القرن الثاني)؛ والدوكيتيين (القرنان الثاني والثالث الميلاديان)، الذين يرون أن المسيحَ، لكونِه الله، لا يجوز عليه أنْ يعيشَ ثمَّ يتألَّمَ على الأرض إلا من حيثُ الظاهر (نفي طبيعته البشرية). هذا فيما يتعلق بالاتجاهات الرئيسية.

ثم جاء مجمع نيقية في العام 325، فأدانَ الآريوسية، المنتشرة بين القرنين الرابع والسادس. كان آريوس، المبتدِع المسيحي، ينكر وحدةَ الابن مع الآب في الجوهر. فمذهبُه، الذي انتشر في بلاد الغال وشبه الجزيرة الإيبيرية [إسبانيا الحالية] وبين الشعوب الجرمانية، أفضى بعد موته إلى نظريات متعارضة: جوهر مشابه، لكنه غير مساوٍ، تشابُه غير جوهري، اختلاف جذري، بين الآب والابن. وعندما أصبحَت المسيحية الدينَ الرسمي للإمبراطورية في العام 380، لم تَعُدْ التعدديةُ العقائدية مسموحةً تحت طائلة انقلابات سياسية خطيرة. فقد قرر مجمع القسطنطينية، في العام 381، التأكيدَ علنًا ورسميًّا على إدانة مذهب سابيلليوس، وهو مبتدِع مسيحي آخر (بَرْقَة [ليبيا]، بداية القرن الثالث) تبنَّى في روما "وحدة الرئاسة" (أو مذهبَ الكيفية)، وهي نظرية تقول بأن الآب والابن والروح القدس ليسوا متمايزين، بل يشكِّلون ثلاثَ كيفيات للإله. وإبان مجمع إفِسُس في العام 431، أُدينَ مذهب نسطوريوس، الراهب الأنطاكي المبتدِع، الذي أصبح أسقفًا للقسطنطينية لتبشيره بنفي اتحاد الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية في المسيح. وبذلك كان هذا المذهب يقول بجواز أن تُدعى مريمُ "أمَّ المسيح" Christotokos، وليس "أمَّ الله" Theotokos. وعلى الرغم من إدانة هذه الكنيسة سريانية اللغة، فقد تفرَّقتْ في الإمبراطورية الفارسية القديمة (العراق وإيران)، ثم انتشرتْ في آسيا الوسطى والهند، حتى الصين (بلغَتْ أوجَها في القرن الثاني عشر). وبعد عدة سنوات، في العام 451، أدانَ مجمع خلقيدونية مذهبَ الطبيعة الواحدة [المونوفيسية] الذي كان يؤكد على أنَّ طبيعة المسيح كانت لاهوتية فقط، أما الطبيعةُ الناسوتية للمسيح فقد انصهرَتْ في طبيعته اللاهوتية (مذهب وحدة طبيعة المسيح المتجسِّد). وقد أخذ يعقوب البرادعي (المتوفى سنة 578)، وهو راهب من القسطنطينية، يجاهر بالطبيعة الواحدة، فاضطُهِدَ، ثم رُسِمَ سِرًّا أسقفًا للرَّها [إديسا]؛ وطاف فيما بعدُ سوريةَ، متنكِّرًا في زيِّ متسوِّل، من أجل تنظيم هذه الكنيسة سريانية اللغة. وقد انتشرَ مذهبُ الطبيعة الواحدة، أو اليعقوبية (نسبةً إلى المؤسِّس)، فيما بعد في مصر (الكنيسة القبطية)، وفي أرمينية وإثيوبية. فضلاً عن ذلك، فقد أُدينَ أيضًا إدانةً قطعية في أثناء انعقاد هذا المَجمع مذهبُ أفطيخيوس، المبتدِع البيزنطي (حوالى 378-454)، المعارِض للنسطورية والمؤيِّد لمذهب الطبيعة الواحدة. ولعل من المفيد أن نتكلمَ قليلاً على الموارنة، هؤلاء المسيحيين ذوي الثقافة السريانية والإيمان الخلقيدوني، الذين يعود أصلُهم إلى منطقة أفاميا [سورية] والمنتسبين إلى مار مارون، الناسك من القرن الرابع. وبعد ذلك بزمن (القرن السابع)، أضحتْ هذه الطائفةُ "موحِّدةَ المشيئة" (كانت تقول بوجودَ طبيعتَين متمايزتَين في المسيح، إحداهما لاهوتية والأخرى ناسوتية، لكنها تخلَّتْ للطبيعة اللاهوتية عن كاملَ المشيئة)، ونصَّبَتْ أسقفًا خاصًّا بها، ثم التجأت إلى جبل لبنان. إن هذه الأمثلة القديمة على مذاهب متعارضة فيما بينَها من المفروض أنْ تجعلَنا ننظر نظرةً نسبية إلى كلِّ عقيدة تخص الإيمان. نيقية، القسطنطينية، إفِسُس، خلقيدونية: كلٌّ منها محطة من محطات كثيرة في التعريف البشري لله... فلِمَ لا نتابع هذا التفكر في المسيحيات؟

وفي وقت لاحق، نشير أيضًا إلى مذهب لوثر (1483-1546)، المشروح في سِفْر الوِفاق، الذي كان يَعتبِر الكتابَ المقدَّس المصدرَ الوحيد للشرعية في التعريف بالإيمان، ويرى أن الإنسانَ ليس في مقدوره أنْ يُعفَى من الخطيئة الأصلية إلا بالإيمان والنعمة فقط، كما لا يقيم وزنًا إلا لسرَّين اثنين (هُما سِرُّ المعمودية وسِرُّ القربان [الشكر الإلهي])، ويرفض، أخيرًا، التراتُبية الكهنوتيةَ والنذورَ الرهبانية، بغية العودة إلى الكنيسة الأصلية الأسطورية. أما نظريةُ كالفِنْ اللاهوتية (1509-1564)، المُبيَّنة في كتاب أركان الدين المسيحي، فكانت تَعتبِرُ هي أيضًا الكتابَ المقدَّس المصدرَ الوحيد الذي يتيح تعيين الإيمان (لكنها تُقِرُّ عقائدَ المجامع الخمسة الأولى)، وتؤمن بمذهب التقدير المسبَّق والنعمة، وتدافع عن البساطة الفطرية للمعمودية والقربان بوصفهما السِّرَّينِ الوحيدين. ولا يفوتُنا هنا أن نشيرَ إشارةً خاصة إلى الصلة بين انتشار الكالفِنية وتوسع الرأسمالية، تلك الصلة التي أجاد تعليلَها ماكس فيبِر[10] في كتابه: أخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية. ولكي لا نطيل، لنقلْ إن النجاح الاجتماعي، بحسب تحليل فيبِر، ربما كان علامة إلهية، وإن البرجوازي هو مُقاوِل [متعهِّد] للدين! وبعد المَجمَع المسمَّى بمَجمَع الفاتيكان الأول (1869-1870) الذي حدَّدَ المذهبَ الكاثوليكي فيما يخص الوحي والإيمان، والذي يُقِرُّ عقيدةَ العِصْمة الحَبْرية عندما يبتُّ البابا في أمور العقيدة ex cathedra، عرفَتْ الكنيسةُ إصلاحًا أكثر جدية من خلال مَجمَع الفاتيكان الثاني (1962-1965): نوعًا من تحديث aggiornamento للدين في وجه العالم الحديث بقصد التحضير لوحدة المسيحيين. وبالإضافة إلى تجديد الليتورجيا [الشعائر]، فقد رُفِعَتِ التكفيراتُ المتبادَلة بين الكنيستين الرومانية [الكاثوليكية] والأرثوذكسية باستلهام روح مسكونية. كما أنَّ الإلغاء الأخير لمادة العقيدة التي تُحَمِّل الشعبَ اليهودي جملةً مسؤوليةَ صَلْبِ الإله ينبثق عن الروح التوفيقية نفسِها، كما يَكشِف، في المقابل، أن قانونَ الإيمان ليس إلا ابتكارًا بشريًّا متأثرًا باعتبارات سياسية. وإذا رغبَتْ الكنيسةُ الكاثوليكية (على سبيل المثال، لا الحصر) في الحفاظ على سلطتها الكهنوتية على رعاياها، فمن المحتمل أنْ يعملَ التساهُلُ الجنسي (النسبي) الغربي (مثلاً)، الذي يشكِّل إحدى المعطيات الاجتماعية والثقافية المعاصرة، على تطوير مفهوم الخطيئة الأصلية، بحيث يتم التعريف بمنع الحمل والزواج الثاني والمعاشَرة بلا زواج [التسرِّي] وتعدُّد الزوجات (التعاقبي) والحب غير الحَصْري إلخ تعريفات عقائدية جديدة، أقلَّ تأثيمًا وأحسن تكيفًا وروحَ العصر.

لنقلْ بضعة كلمات (نأمل أنْ تكون مفيدة) حول موضوع استخدام الله في الولايات المتحدة لمآرب سياسية فظة[11]: ففي أمريكا الشمالية، يؤمن حوالى 90% من السكان بالله، وهو ما يمثل معدلاً أعلى بكثير من نظيره في أوروبا. فجميع الرؤساء الأمريكيين الشماليين، من جانبهم، يلتمسون تبريكَ الله خلال الاحتفالات الرسمية ويعاهدونه على الامتثال لتعاليم الكتاب المقدَّس. وفيما يخص بوش الابن، المنتمي إلى جماعة "المسيحيين المولودينَ ثانيةً" Born again Christians، فإنه يَدْرُس فقرةً من الكتاب المقدَّس كلَّ يوم، وتبدأ جميع الاجتماعاتُ الوزارية بتلاوة صلاة. وجماعةُ "المسيحيين المولودين من جديد" هم أناس تنجم "ولادتُهم الثانية" من علاقة مباشرة مع يسوع. وهم يؤلِّفون إحدى الحركات الإنجيلية التي يمتلك أغلبُ أتباعِها رؤيةً عن العالَم مسيحانيةً [مخلِّصية]، إحيائيةً، ألفية[12]، وقيامية[13]. يبلغ عدد الإنجيليين حوالى 70 مليون في الولايات المتحدة، أي ثلث مجموع الناخبين. والإسلامُ بنظر الكثير من الإنجيليين هو دين منحرِف وشيطاني، يؤدي عضويًّا إلى الإرهاب. وهكذا فإنَّ عبارةَ ريغَن السابقة "إمبراطورية الشر" قد صارتْ "محورَ الكراهية" (العراق، القاعدة، حزب الله)؛ وهي عبارةٌ تطوَّرتْ في النهاية (بين نهاية 2001 وبداية 2002) إلى عبارة "محور الشر" (العراق، كوريا الشمالية، إيران)، بحسب العقيدة الرسمية. ويقوم التاريخ الأمريكي على الفكرة التوراتية بأن الشعب الأمريكي قد اصطفاه اللهُ ليؤسِّسَ مملكتَه في العالم الجديد. وبسبب ذلك، كانت هذه الرسالة الخاصة تنزع نزوعًا طبيعيًّا إلى ضمِّ أجزاء أخرى من العالم. وعليه، فإنَّ الإمبريالية الأمريكية مبْنيَّةٌ إذًا على الكتاب المقدس والدولار، وذلك بخَلْطِها بين الاعتبارات الأخلاقية والإيديولوجية وبين المصالح الاقتصادية، من دون أنْ تنسى أنها أمَّة متفوِّقة. ولكنْ لا تسعى هذه الإمبريالية، على نحو ما، إلى توسيع حدودها بمقدار ما تسعى إلى توسيع أرض الحرية الوهمية. وهكذا تَعتَبِر عقيدةُ عصبة بوش أن للشعب الأمريكي، الفاضل والمصطفى، مهمةً أخلاقيةً هي: تصديرُ نموذجه للديموقراطية. بالإضافة إلى ذلك، وبحسب رؤية الهيمنة الأمريكية، فإن أوروبا ربما أهملَتْ، من جهتها، اللجوءَ إلى القوة من أجل أنْ تعيشَ في عالمٍ من القوانين والتواكلات، في حين أن القوة (التي يسوِّغُها الله) هي الشرط الأخير للأمن القومي. وكأمثلة معبِّرة، فقد صرَّح رئيسُ الاستخبارات في وزارة الدفاع أن جي دبليو بوش قد اختاره اللهُ بنفسِه رئيسًا (في العام 2000)؛ وفي كانون الثاني 2004، كشفَ مبشِّر إنجيلي تلفزيوني شهير، من جهته، أنه سمعَ الله يبشِّرُه بإعادة انتخاب بوش في تشرين الثاني 2004!

التصورات المتعددة عن الله في الإسلام

ربما تطلَّب مفهومُ الله في القرآن بحثًا معمَّقًا، آيةً فآية، ثم بطريقة تعاقبية، وأخيرًا بطريقة تأليفية؛ إلا أن هذه مسألةٌ معقَّدة نوعًا ما. نقول فقط، بهذا الصدد، إن السوَر المكية تؤكد على حرية الاختيار، بينما تؤكد السوَر المدنية على قدرة الله المطلقة وعلى وجوب طاعة الرسول؛ ومن هنا جاء انطباع نهائي بالجَبْرية (التي كانت النزعة الأخيرة التي تركها محمد لأمَّته).[14] غيرَ أنه يمكن لنا، في المقابل، أنْ نعاين، في التكوين اللاحق للعقيدة، عدةَ نقاط مثيرةً للاهتمام تُبيِّن أنه كان هناك في الإسلام فعلاً تنظيرٌ حقيقي في طبيعة الله ومشيئته. فبادئَ ذي بدء، نذكر المُرجِئة، أي التيار القديم الذي كان يميِّز بين الإيمان والأعمال. واسمُ هذا المذهب مأخوذ من القرآن، ويحمل فكرةَ التأجيل والإمهال.[15] ويأتي، متزامنًا مع ذلك، التفكيرُ في الإرادة الإلهية المطلقة (القَدَر) والقضاء الإلهي (الجَبْر). لأنه إذا كان اللهُ قد حدَّدَ، منذ الأزل، مسارَ العالَم، أفلا يشمل هذا التحديدُ أعمالَ البشر؟ ألا تؤثِّر أعمالُ البشر في المصير الأبدي لكلِّ إنسان؟ أسئلة جوهرية كثيرة يطرحها قليلٌ من المتكلِّمين الحاليين. وللمناسبة، تجدر الإشارةُ إلى أن السلالة الأموية كانت مؤيِّدة للجَبْرية بغيةَ شَرْعَنَة سلطانها الزمني.

أما فيما يخص الاعتزال، أو مذهب الحالة الوسَط (المنزلة بين المنزلتين)، فقد نشأتْ أيضًا من السِّجال حول الإيمان والأعمال: هل مرتكبُ الكبائر كافرٌ أم مؤمن أم هو في بساطة منافق، أي بين بين؟ هاهنا تكمن مسألةٌ كلامية مهمة جدًّا، ذات صلة وثيقة بشرعية الأمويين والعباسيين من بعدهم. فالمذهب السنِّي في تصنيف الأحاديث وروايتها، الذي غالبًا ما كان يعتنق تشبيهًا فظًّا لله بالبشر، قد حَكَمَ على الاعتزال بكونه بِدعة. ومن المعلوم أن أقوالَ المعتزلة كانت تشكِّل المذهبَ الرسمي من العام 817 م/202 هـ (في عهد الخليفة المأمون) إلى العام 848 م/234 هـ (أُلغِيَ في عهد الخليفة المتوكل). ولنُذَكِّرْ هنا في إيجاز بميزات هذا المذهب: الاعتزال مذهب عقلاني، لذا فهو يستخدم حُججًا تقوم على العقل؛ إلا أن تأثيرَ الفلسفة اليونانية يكمن بخاصة في توسُّله النَّظر العقلي، الأمر الذي لا يعني إطلاقًا نفيَه للوحي. ومن بين مبادئ عقيدة المعتزلة نذكر مقولةَ عدالة الله بالضرورة: لا يمكن للهِ أنْ يظلم خَلْقَه، وهو يثيبُ بالضرورة على الأعمال الصالحة. إن فكرةُ الضرورة مطبَّقةً على الله هي فكرة جديدة على الإسلام! بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد أمرٌ بالجَبْر لأنَّ النجاة أوِ الهلاكَ يتعلَّقان بالإنسان. وفيما يخص صفات الله، فإن كلامَه، كما هو معبَّر عنه قرآنًا، ليس أزليًّا: القرآنُ إذًا في نظرهم مخلوق وليس غيرَ مخلوق (بخلاف معظم الفقهاء الذين يرون أن مسألةَ خَلْقِ القرآن مسألةٌ غيرُ مطروحة أصلاً!). وعلى وجه أعم، هناك نفيٌ لكلِّ تماثُل بين صفات الله وصفات الخَلْق: أدانَ المعتزِلةُ، بناءً على ذلك، تشبيهَ الله بالبشر، الذي أقرَّتْ به، ونادت به حتى، مذاهبُ أخرى، ومازال عوامُ المؤمنين آخذين به.[16]

من خلال هذه الأمثلة التقليدية (التي من المفروض التوسع فيها طبعًا)، نرى أنه لا يوجد أبدًا – لحسن الحظ – إجماعٌ للفقهاء على طبيعة الله، وأن هذه ليست إلا مِن وَضْع البشر. وإذا استطاع الأقدمون أن يقدِّموا صوَرًا لله بهذا الاختلاف، فلماذا يجب علينا اليومَ أن نحصرَ عقولَنا في التعريفات الكلامية القديمة ونرفضَ القيامَ بتفكُّر جديد في طبيعة الله، منسجمٍ مع مشكلات عصرنا؟ أما فيما يخص الآياتِ القرآنيةَ التي تدعو طائفةَ المؤمنين إلى قتال الكفار، فهي كثيرة. والسؤال هو: هل هي خاصة بأسباب نزولها أم أنها محمولةٌ على الإطلاق؟ لا جرَمَ أن المسألةَ هي مسألةُ تفسير، لكنْ ما أهمها! ولما كان الجذر كَفَرَ يعود إلى فكرة الجحود بالنِّعَم الإلهية وإنكار الميثاق (الأبدي بين الله والبشر)،[17] فإنه يجب على وجه الخصوص أنْ نفهمَ آياتِ الحرب على أنها الإرادةُ (البشرية) في إنزال قصاص قاسٍ جدًّا بالمشركين الذين يلجؤون إلى العنف بحقِّ الطائفة المسلمة الناشئة: فالخيانةُ والقتلُ يتطلَّبان الاقتصاص بالمثل بحسب الأعراف المحلِّية التي تُحَتِّمُها ضرورةُ البقاء. وفي نظر بعضهم أن الوضعَ الحالي للإسلام لم يختلفْ كثيرًا، وإنْ تغيَّرَ الأعداء! وعلى الرغم من أن اليهودَ والنصارى يُعتبَرون "أهلَ كتاب"، فليس نادرًا أنْ نرى، بالأمس واليومَ أيضًا، مسلمين متطرِّفين يَعتبِرون أنَّ هؤلاء اليهودَ والنصارى يجب في الواقع أنْ يندرِجوا، جملةً، ضمن الفئة اللعينة من الكَفَرة، وبالتالي تجب محاربتُهم!

يشكِّل الإلحاد واللاأدرية agnosticisme، من جهتهما، مفهومين حديثين لم يكونا موجودين في زمن الوحي القرآني. مع ذلك، فإن التفكيرَ الفقهي والشرعي الحالي، بالإضافة إلى الضغط الاجتماعي، قد صنَّفاهما (في الغالب) ضمن الفئة التقليدية للكَفَرة الذين تجب مقاومتُهم (عسكريًّا في الغالب). من المؤسف إذًا ألا يَعترِفَ الفكرُ الإسلامي المعاصر بعدُ، على مستوى العقيدة والشَّرْع، بهذين الموقفَين الفلسفيَّين كشكل جدير بالاحترام من مقارَبة الوجود، وحتى كنمط من أنماط الروحانية، لا يمكن مقارنتُه قطعًا بوثنية الجاهلية. أما فيما يتعلق بالسياق الأوروبي، حيث تتجاوَرُ دياناتٌ قديمة (بمعنى الاستيطان الإقليمي) مع الإسلام، فيجب عليه أنْ يَدفَعَ هذا الأخيرَ إلى الانفتاح وإلى إعادة النظر جوهريًّا في جزء من عقيدته وتشريعه الديني باتجاه روحانية جديدة إنسانيةِ النزعة، وإلا تعرَّضَ للتحجُّر. ففي فرنسا (كما في بلاد أخرى)، سَبَقَ أن قامت بعضُ تيارات الكنيسة الكاثوليكية – على كونها هي الغالبة – بجهود جبارة، وأحيانًا مضنية (على عدم كفايتها)، في سبيل الاعتراف بأشكال أخرى من التديُّن.

لننظر الآن في السُّنَّة[18] النبوية التي، على الرغم من كونِها موضوعة في جانب كبير منها، تُفيد كأساس في صياغة شريعة إلهية (مزعومة)، يُدَّعى أنَّها مستمَدَّة من القرآن: الشريعة. يجب، والحالةُ هذه، أنْ نقابل هنا مقابلةً جوهريةً بين الدعوة الكونية لرسالةٍ مُوحى بها وبين الصياغات التي يقوم بها بعضُ الناس تلبيةً للمتطلَّبات المجتمَعية sociétales المحدَّدة تاريخيًّا. فحالةُ علم الكلام الإسلامي وتحجُّر فكره الشَّرعي–الفقهي لا يختلف بهذا المعنى عن باقي الأديان.[19] أما بخصوص الأحاديث النبوية، فهي سَرْدٌ للسُّنَّة يروي ما يُسمَّى (يجب التأكيد على هذه النقطة) بأفعال النبي وأقواله، وهذا فارق دقيق مشكوك فيه، يمكن فهمُه فهمًا أفضل إذا تذكَّرنا أن بيئةَ الوحي القرآني هي غربُ جزيرة العرب، ذو البِنْيَة القَبَلية والثقافة الشفهية، في حين أن بيئة جَمْع السُّنَّة النبوية هي العراق المتمدِّن والإمبراطوري في العصر العباسي بعد حوالى قرنين.[20] فضلاً عن ذلك، إذا قُدِّمَ محمَّد في السُّنَّة كأسوة حسنة، فلا شيء من هذا في القرآن، الذي لم يَحظَ فيه نبيُّ الإسلام قطعًا بهذا الوضع كمؤسِّس لمجتمع مثالي.

فلنبحثْ الآن في نتاج محدِّث وفقيه معاصر، هو محمد ناصر الدين الألباني، لنُظهِرَ عيوبَ التيار الأصولي وحدودَه، ذلك التيارِ الذي لا يأخذ إلا برؤية جامدة للشريعة،[21] والذي أحدُ زعمائه هو الفقيه المذكور آنِفًا. فمؤلَّفاتُه تثير الإعجابَ أو النقد، وحتى الاستهجان، ليس فقط في العالم العربي، بل في الغرب أيضًا (بريطانيا، إيطاليا، ألمانيا، إلخ)، وكذلك في إندونيسيا وغيرها، لأن هذا الشخصَ هو أحدُ الوجوه البارزة في التيار السلفي ذي التبعية الوهَّابية. وتُعتَبَر أفعالُ كبار الصحابة (السَّلَف الصالح) وتصرفاتهم، التي ترويها السُّنَّة النبوية، نماذجَ غيرَ عَرَضية، أي خارجةً عن الزمان والمكان. وكذلك هي الحال طبعًا، بحسب هذه الرؤية، بالنسبة لأفعال النبيِّ نفسِه وسلوكه. وهكذا، فإن الإدراكَ الأصولي للإسلام يقول بأن القرآن والسُّنَّة وحدهما فيهما الأصول الحقيقية للدين: وعليه، فإن هذين المصدرين الكتابيَّين يَدْرُسُهما الأصوليون على أنهما مراجعُ معصومة، لا تطالها المحاكمةُ العقلية.[22] وقد قَدَّمَ السيرةَ "الرسمية" للأستاذ أحدُ طلابه، الذي ألبَسَه لقب "إمام"[23] المهيب: وُلِدَ في ألبانيا في العام 1914، ثم أقام في دمشق، قبل أن يُطرَدَ من سورية ويستقرَّ في عَمَّان، حيث توفِّيَ في العام 1999. وهو يوصَف بأنه محدِّث وفقيه حنفي المذهب، عَلَّمَ ثلاثَ سنوات في الجامعة الإسلامية في المدينة، حيث التقى بمفتي السعودية الأكبر ابن باز. ويشير مرجع آخر[24] إلى أن الألباني ربما حصَّلَ معارفَه الأساسية من المخطوطات والكتب، والقليلَ منها، في المقابل، تحت إشراف مرجعيات دينية معترَف بها: يا للعار! ويذكُر مصدرٌ آخر[25] طَعْنَ الشيخ الفيلادلفي (أي العَمَّاني) حسن بن علي السقَّاف، وهو عالِم شافعي معاصر في الفقه والحديث، بالألباني، في مؤلَّفه تناقضات الألباني الواضحة. ويبيِّن مصدرٌ أخير[26] أن الألباني ليس إلا مجدِّدًا وهَّابيًّا وسلفيًّا. وكان – وهو مُصَلِّحُ الساعات في بداياته – عصاميًّا في اكتساب معارفه، وربما كان يقرُّ (بحسب نُقَّادِه اللاذعين) حتى بعدم حِفْظِه القرآن أو أيِّ مؤلَّف أساسي في الحديث أو الفقه أو العقيدة إلخ. قد يكون إذًا عالِمًا كاذبًا وقليلَ التحرُّر، نجح في تسويق نفسه كمرجعية دينية للجمهور العاميِّ الجاهل المتحدِّر من موجات الهجرة، أو المعتنِقِ للإسلامَ حديثًا، بفضل الأموال الضخمة التي ترصدها الوهابيةُ السعودية (عن طريق الترجمة أو النشر). يؤكد المؤلِّفُ موضحًا:

لقد انصرفنا إلى دراسة الآياتِ القرآنيةَ والسُّنَّة الصحيحة ونصوصَ السَّلَف الشغوفة [كذا] بهذا الموضوع العظيم الأهمية؛ [وقد] تبيَّنَ لنا أن المرأةَ، عندما تخرج من بيتها، يجب أنْ تغطِّيَ جسمها بكامله وأنْ لا تُظهِرَ شيئًا من زينتها، ما عدا وجهها وكفَّيها (إنْ أرادت)، بأيِّ نوع من الثياب، ما دام يجمع الشروطَ التالية […] [التي هي شروطُ] الجِلباب: أنْ يغطِّيَ الجسم كلَّه ماعدا الوجه والكفين؛ أنْ لا يكونَ زينةً في ذاته [كذا]؛ أنْ يكونَ سميكًا غيرَ شفَّاف؛ أنْ يكونَ فضفاضًا وغيرَ ملتصق بالجسم؛ أنْ لا يكونَ معطَّرًا؛ أنْ لا يشبِهَ ثيابَ الرجال؛ أنْ لا يشبِهَ ثيابَ الكُفَّار؛ أنْ لا يكونَ ثوبًا للتباهي.[27]

لن نذكر إلا بضعة نقاط من مقالة الألباني تكفي لإقناعنا أنه لم يدركِ الله إلا كمشرِّع ذَكَر مُحَرِّم. وقد أورَدَ المؤلِّفُ روايةً عن النبي (أطول من أنْ تكونَ صحيحة)[28] بمعنى الرفض العام للتبرُّج أو أن تُبْديَ المرأةُ "زينتَها ومحاسنَها وعورتها لأن هذا يثير شهواتِ الرَّجُل"[29]. ويضيف الألباني بهذا الصدد أن الجِلبابَ لا يمكن أنْ يكونَ زينةً بذاته. وبهذا المعنى، يورِدُ رأيَ رجل دين من القرون الوسطى[30] يرى أن الله – شخصيًّا! – لا يحب التبرُّج! وباستثناء التشبيه الفظ لله بالبشر، نشير إلى الادِّعاء الباطل بمعرفة مقاصد الخالق (إنْ وُجِد)! وهناك حديث آخر ("حَسَن"، بحسب المحدِّث نفسه الذي نَقَلَه) أورَدَه الألباني: وبَّخ الخليفة الثاني عمر رجلاً سمح لزوجه بارتداء ثوبٍ أبيضَ رقيق... وملتصق بالجسم! وقد يكون المغزى من الرواية النبوية هو أن الثوبَ الذي يُلبَس في الحياة الخاصة لا يثير أيَّ استنكار، لأنَّ الله نفسَه يُفترَض فيه أنْ يحبَّ الجَمال[31]! ويؤكد الحديثُ الأخير الذي يورِدُه الألباني هنا (ويَعتبِره صحيحًا) أن الله لن يقبل صلاةَ امرأة تعطَّرَتْ قبل الذهاب إلى المسجد.[32] وخاتمةُ الكُتَيِّب[33] ليست إلا تضخيمًا عُصابيًّا لأوامر التحريم. فالألباني، الفقيهُ الرديء، هو إلى ذلك عالِمُ دين لا قيمةَ له، لأنَّ الإسلامَ عنده ليس إلا تمسُّكًا بالشَّكليات – أليس كذلك؟ – وليس تقوى وتسامحًا بخاصة. وأخيرًا، فإنه لا يستحب الفصلَ بين الديني والدنيوي، بحسب مفهوم قابل جدًّا للنقاش، لأنه حتى بعضُ التيارات في الإسلام تُقِرُّ بهذا الفصل.

وبطريقةٍ أكثرَ تبسيطًا، موقفُ المسلمين من المرأة هو علامة مَرَضية على رؤية مناقضة كليًّا لرؤية الغرب (الليبرالي)، ليس في هذه المسألة بوصفها كذلك فحسب، بل أيضًا، وعلى نطاق أوسع، في مجمل المسائل السياسية والاجتماعية والفلسفية إلخ. فالله، بوصفه مبرِّرًا وذريعةً للاستدلالات المعادية للمرأة، متخيَّلٌ إذًا، بالدرجة الأولى، بحُكْم تصوره للأنوثة، وبخاصة مظاهرها، وبخاصة بحُكْم مظهرها الخارجي الذي يتناوله اهتمام عصابيٌّ. وبما أن كشفَ جسم المرأة يشكِّل رُهابًا حقيقيًّا، فإنَّ أدنى تساهُل تجاهَ المرأة يُفهَم، على ما يبدو، على أنه بِدْعةٌ مخالِفة للسُّنَّة والقرآن، وتؤدي بالضرورة إلى النار! لأنه في المجتمعات العربية والإسلامية ذات الطابَع الذكوري، وحدَه الرجُلُ يملك سلطةَ إدراك علم الكونيات وتحديد الدور المنوط بكلٍّ من الجنسين على أرض الواقع. ولكنْ ماذا عن الإسلام الأوروبي؟

الشكوك الفقهية للإسلام في فرنسا

من المؤسف أن يكونَ المفكِّرون الإسلاميون المتنوِّرون،[34] على كثرتهم، أقلَّ تغطيةً إعلامية من جماعات أصوليي فكرِ القرون الوسطى الذين يسيطرون على الساحة اللاهوتية والشرعية. ففي فرنسا، مثلاً، تركَتْ السلطاتُ الحكومية إسلاميين قريبين من الإخوان المسلمين يحتكرون مجلسَ الدين الإسلامي الفرنسي، بأقل ما يمكن من ديموقراطية (الانتخابات غير المباشرة في 6 و13 نيسان 2003). وحتى لو أن الخيارَ كان صعبًا بالتأكيد، نظرًا لوجود بدائل قليلة، بمعنى أن شبكة المساجد والرابطات يمسِكُ بزِمامَها على وجه الخصوص مختلَفُ الجماعات المتشدِّدة والأصولية، فإن الاتجاهاتِ المستنيرةَ في إسلام فرنسا، الموجودة فعلاً، تجد نفسَها، مع ذلك، مهمَّشة. ومن المحتمل جدًّا أنْ يكون لهذا الوضع شِبْهِ المحتكِر للمقدَّس، الذي تعترف به الدولةُ (لأسباب انتهازية سياسية؟)، عواقبُ وخيمةٌ على تطور العقيدة الإسلامية في فرنسا إلا إذا حدثتْ هبَّةٌ مُواطِنية (بين المسلمين، في المقام الأول).

ونورِدُ أيضًا الحالة الغريبة لمجلة Le monde diplomatique التي تفتح بانتظام صفحات أعمدتها لطارق رمضان، حفيد حسن البنا، مؤسِّس جماعة الإخوان المسلمين. فتَحْتَ غطاء الكفاح ضد الليبرالية الرأسمالية الهمجية والدفاع عن الأقلِّيات المقموعة واحترام التنوع الثقافي ودَمْج الشباب القادمين من موجات الهجرة إلخ، تسمح هذه المجلة، على كونها معارِضة، لطارق رمضان ببسط فِقْهٍ مزيَّف هدفه التعبئة الطائفية. أهو خطأ مذموم أم استخفاف بالخطَر؟ قد يكون الرجل، كما يقولون، "مُحاوِرًا اجتماعيًّا لا يمكن الالتفاف عليه". فَلْيَكُنْ! لكنْ إذا بدا أن طارق رمضان لم يقم بتفكير جديد حول طبيعة الله وإرادته، فإنه، مع ذلك، يستولي على جزء كبير من التراث الشرعي التقليدي والمحافظ الذي يُضفي عليه أساسًا بُعدًا سياسيًّا (وهنا يكمن الجديد). وبهذا، يؤكد فكرةَ أن الإسلام، كما أراده اللهُ، يَرمي إلى فَصْلِ جماعة المسلمين عن محيطهم غير المسلم، حتى وإنْ كان الغالبيةُ متسامحين ويحترمون الآخر (ضمن الإطار العلماني المعتدل). وبهذا يطالب باستقلالية الطائفة الإسلامية، دينيًّا بالطبع، ولكنْ ثقافيًّا واجتماعيًّا (ولِمَ لا قانونيًّا عندما يحين الوقت؟)، على أساس ما يسمونه رسالة إلهية يَدَّعي هو أنه مفسِّرُها المعتمَد. مِثلُ هذه المُطالَبة الانفصالية هي طبعًا اعتداءٌ على قوانين النظام الجمهوري، على التوازن الهشِّ للأديان في بلادنا، وأخيرًا، على حرية كلٍّ منَّا: فبالفعل، كلُّ مسلم له الحقُّ في عدم الانضمام بالقوة إلى إخوانه بالدين، مفضلاً أن يكون نَكِرَة، ميالاً إلى الروحانية وحدَها على حساب مراعاة شكلانية جافة للوصايا الدينية الاستبدادية البالية.[35]

إضافةً إلى ذلك، وعلى سبيل المثال، أليسَ إلزاميًّا الامتناعُ عن أكل لحم الخنزير حتى يصحَّ إسلامُ المرء؟ وهل يعرِّض تناوُل لحم الخنزير تلقائيًّا للعقاب الإلهي والطرد من أمَّة المؤمنين؟ – أي طائفة الناس المتعاشرين فيما بينهم. تذهب عدةُ آيات قرآنية في منحى تحريم لحم الخنزير، الحيوان الوحيد المحرَّم اسمًا في القرآن (البقرة 173؛ المائدة 3؛ الأنعام 145؛ النحل 115). بينما يبدو أن القرآن، في سبيل تمييز الحيوانات الطاهرة من غيرها، يرجع فقط إلى العوائد الغذائية السارية لدى معاصري محمَّد؛ ويحرِّم، إلى ذلك، استهلاكَ اللحوم المقدَّمة للبانثيون [مجمع الآلهة] المكِّي أو لحوم الحيوانات التي لم يُسفَكْ دمُها – وهو مبدأ مقدَّس. وقد وضعَ الاجتهادُ الإسلامي، في المقابل، قوائمَ مفصَّلةً بما يكفي – على اختلافها بحسب المذاهب – للُّحوم التي يجوز أكلُها. كان الخنزيرُ يؤكَل، على الأرجح، في الجاهلية، وخصوصًا في القبائل النصرانية. وظلَّ الخنزيرُ البرِّي يُصاد في عهد الإسلام. يبدو إذًا أن هذا الحيوان لم يُعتبَرْ نجِسًا في حدِّ ذاته. هناك سبب ممكن للتحريم، ربما يكمن في الاعتقاد القرآني (وبالتالي اعتقاد الجاهلية بالتأكيد) بنوع من التحول البشري إلى حيوان (للمناسبة، القردة في الأعراف 166 والبقرة 65، وكذلك الخنازير في المائدة 60)، بالإضافة، بالتالي، إلى نبذ أكل لحم البشر (فيما يخص الخنزير). كما أن التفسيرَ المقدَّم للتحريم القرآني للخنزير قد يُعزى إلى طابَعِه الطوطمي (الذي له صلة قرابة، فردية أو جماعية)؛ إلا أن هذه الفرضية تبقى بالتأكيد قابلة للردِّ عليها.[36] مهما يكن من أمر، فمن الواضح أن تحريمَ أكْلِ الخنزير هو مجرَّد أمر طارئ على بيئة الوحي ويجب ألا يُفهَم إلا كذلك: فالتحريم لا يصحُّ أنْ يكونَ أبديًّا. لأنه ما هي غايةُ الله من الاهتمام، من خلال قائمة الطعام، بما تأكل مخلوقاتُه؟ وإذا فكَّرنا بحسب المنطق الداخلي للقرآن (على الأقل كما يمكن لنا محاولةُ فهمه)، هل يجب أنْ نَعتبِر، بخصوص اللحوم التي يجوز أكلُها، أن بعضَ الآياتِ منسوخةٌ وأخرى ناسخة؟ ألا يمكنُ لنا القولُ إذًا بأن الآية 5 من سورة المائدة،[37] تَنْسَخ الآياتِ التي تحرِّم الخنزير؟ إذا كان الجوابُ نَعَمْ – وهو ما يبدو مقبولاً – يمكن للمسلم إذًا أنْ يأكلَ ما يأكلُه اليهودُ والنصارى، وذلك بمقتضى عقيدة دينه. إلا أن جميعَ الاعتبارات التفسيرية في نهاية المطاف لا قيمةَ لها؛ فالشيءُ الوحيد المهم هو أنْ يَحترِمَ الأفرادُ بعضَهم بعضًا على الرغم من عوائدهم الغذائية المختلفة، التي يجب عدم فهمها مطلقًا بوصفها أوامر دينية أساسية، مما يشكِّل مصدرَ ارتياب متبادَل، ومن ثَمَّ إقصاء. وبما أن الخنزير في فرنسا (وهو ما يخصُّنا مباشَرةً) غِذاءٌ كسائر الأغذية الأخرى، يتمتع بالضمانات الصحية نفسها التي للُّحوم الأخرى، فإنه ربما من خلال الفم ستسقط الحواجزُ العقائدية السطحية بين الطوائف، إذا ما تمَّ تعديلُ الشريعة.

وكذلك فيما يخص الزواج المختلط، وخصوصًا بين مسلمةٍ وغيرِ مسلم. يُفهَم هذا النمطُ من القِران على أنه مخالِف للقرآن والسُّنَّة، في حين أنه لا يوجد أيُّ نصٍّ صريح في هذه المسألة. ومع ذلك فقد استهجنَه كلا الاجتهادُ الفقهي الإسلامي والعُرْفُ الاجتماعي – ومازالا على ذلك. ولكنْ آن الأوان المناسب لإصلاح الشريعة الإسلامية من أجل مراعاة واقع الأقلية المسلمة في فرنسا (وأوروبا بوجه أعم)، تلك الأقلية التي صار لِزامًا عليها عقدُ حالاتِ زواج مجرَّدة من كلِّ اعتبار ديني أو ثقافي مُسَبَّق من أجل اندماج أكثرَ انسجامًا ولتلافي الانطواء الطائفي. بالإضافة إلى ذلك، هل يدقِّق اللهُ كثيرًا في الروابط الاجتماعية والعاطفية؟ إنْ كان الله موجودًا، أفليسَ الأساسُ هو مستوى روحانية المؤمنين وشدةُ محبَّتهم؟ وهل يُعقَل أن يهتمَّ الله شخصيًّا (إذا أجَزْنا لأنفسِنا مثل هذا التشبيه) بالجنس وبالزنا؟ من الواضح أن السلوكَ الجنسيَّ يتعلَّق بالمعطيات الاجتماعية بخاصة، وأن الآياتِ القرآنيةَ التي تعالج موضوعَ الزنا والقذف بالزنا والقصاص ليس لها سريانٌ شرعي (مادامت الأخلاق مفقودة منها) إلا ضمن سياقها وحده. من جهة أخرى، نزلَتْ معظمُ الآيات، نزولاً عَرَضيًّا لحسن الحظ، عَقِبَ مسائلَ أخلاقيةٍ ألمَّتْ بالرسول مباشَرةً. ولهذا، يجب ردُّ قيمتها إلى إطار أسباب النزول وحدها. كما يجبُ أنْ يُطبَّقَ الاستدلالُ نفسُه على الصيام لأنه، سواءً صُمْنا أمْ لم نَصُمْ، هل نفقد، بهذا، صفتَنا كبشر؟ يجب أنْ يكفَّ الصيامُ عن أنْ يكون معيارًا للتمييز بين المسلمين وغير المسلمين، كما يجبُ حتمًا الإلغاءُ المطلق للمقياس المستخدَم في الحُكم المتشدِّد على المسلمين الذين لا يصومون والذين يمكن لهم أن يكونوا مَدْعاةً من قِبَل بعضهم حتى للتشنيع باعتبارهم مرتدِّين.

وبإقدامنا على المجازَفة في الظهور كمُهدِّمين للتقاليد، يمكنُ لنا أن نقولَ أيضًا إن الأهميةَ التي يضفيها الإسلامُ على الحَرَمِ المكِّي الشريف تُعتبَر نوعًا من الوثنية – وإن تكن مهذبة – بمعنى أن أعلى درجات التعبُّد للإله يَلزَم أنْ تكونَ، بمقتضى منطق الحج، في موضع محدَّد. فكأن الله، خالقَ السماوات والأرضَ، لا يمكنُ له أن يكونَ معبودًا في كلِّ مكان، وكأنه لا يُقيم إلا حول الكعبة! فالحجُّ، كركنٍ من أركان الإسلام، يَكشِفُ كشفًا واضحًا عن شيئين اثنين: إمَّا أن محمَّدًا حاول جَمْعَ العربِ حول مكان ائتلافيٍّ للعبادة، مما ينمُّ عن ذكاء سياسي، لأنَّ حَرَمَ مكَّةَ كان مناسبًا تمامًا لهذا الغرض؛ وإمَّا أنه كان مقتنِعًا بأنَّ الكعبةَ هي بيتُ الله المعمور (بعد أنْ أمر الناس، في المقابِل، أنْ يصَلُّوا باتجاه القدس، حتى جاءت القطيعةُ مع قبائل اليهود في المدينة)؛ وهو ما لا يدلُّ على ارتباط عاطفي بموطنه الأصلي وحسب، بل على اعتقاد لا يمكنُ لفكرٍ حديث أن يوافقَ عليه كليًّا أيضًا. وعلى أية حال، وعلى الرغم من أنَّ الفرضيتين غيرُ متعارِضتين إطلاقًا، فإنَّ من الواضح أنَّ الروحانية الحرة من المفروض أنْ تعبِّر عن نفسها دون قيد جغرافي، حتى وإنْ كانت تحتاج غالبًا إلى معالِمَ مادية مشترَكة. فلو أن هذه الفكرةَ، التي ما تزال ثوريةً، كانت متأصِّلةً عند مسلمي فرنسا (أو غيرِ فرنسا)، لتغيَّرَتْ الجغرافيةُ السياسية للإيمان، لأن شبهَ الجزيرة العربية (وخصوصًا منطقة الحجاز مع مكَّة والمدينة) لم تعُدْ على ما يبدو المحورَ الرئيسي لتطلُّعاتِهم التَّقَوِيَّة ونموذجًا أسطوريًّا لولاءاتِهم.

مع ذلك، فقد فَتَحَ بعضُ المفكِّرين المسلمين طُرُقًا لم تُسلَكْ للأسف. وعلى الرغم من أنه لا يمكنُ لنا وصفُهم بعلماء دين طليعيين، فإنَّ هؤلاء المفكرين – النادرين جدًّا – يتميزون مع ذلك بمنهج جديد في تفسير القرآن، عِبْرَ تفكير ديني نقدي واستدلال قانوني حديث. نَذْكُر بعضَ أقران الشيخ الإصلاحي الشيخ محمد عبده، ومنهم الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966) وقاسم أمين (1865-1908).

يستحق المفكِّرُ السوداني محمود محمد طه (1908-1985) هو أيضًا أنْ يُذْكَرَ في عدة سطور، لأنه دافَع – وهذا ما أوصلَه إلى حبل المشنقة – عن فكرة أن "الإسلامَ ليس مثالاً ناجِزًا ونهائيًّا ولا عصرًا ذهبيًّا فائتًا، بل هو، على النقيض من ذلك، أُفُقٌ مستمرُّ الحركة يجب على المسلمين أنْ يُوَلُّوا وجوهَهم شطرَه." وهكذا كان يُدرِكُ الإسلامَ "كدعوةٍ لم يبلُغْها أحدٌ قط ونزوع نحو مستقبل مثالي." ولهذا كان عليه إعادةُ تفسير القرآن واستئنافُ الحماس التأسيسي للرسالة القرآنية.[38] وباقتباسه شيئًا من الفكر الليبرالي والديموقراطي (الذي يجب مع ذلك عدم الغلوِّ في تقديره)، كان طه يرفض تطبيقَ الشريعة الإسلامية التي كان يَعتبِرُها جائرةً (في حقِّ مسيحيي جنوبِ السودان) ومفهومةً فهمًا مغلوطًا وقابلةً للتعديل، ويدعو إلى قراءة جديدة للقرآن على مستويينِ اثنَين: مستوى قريب، في متناوَل عقول العصر؛ ومستوى بعيد يشكِّل نواةَ الدعوة. يتألف المستوى القريبُ من الوحي المدني، المفهوم بحسب إدراكِهم المباشر، بينما يحيل المستوى البعيد إلى الوحي المكِّي الذي لا يمكن إدراكُه تمامًا إلا بطريقة باطنية. هناك إذًا رسالتان للإسلام: رسالةٌ أولى محدَّدة تاريخيًّا وبهذا المثابة لم تَعُدْ تَصلُح، ورسالةٌ ثانية، أعمقُ، يجب على البشرية أنْ تتوجَّهَ نحوَها.[39] هذه النظريةُ، الثورية ضمن السياق السوداني، هي أقل ثوريةً بكثير في بيئة غير دينية (فرنسية، وأوروبية على نطاق أوسع) معتادةٍ على التحليل النقدي للمقدَّس. إلا أنَّ تَبَنِّيَ منهاج طه التأويلي (ولكنْ ليس جميع أفكارِه) من قِبَل عدة تيارات إسلامية في فرنسا قد يُتيح لها دخولاً هادئًا في الحداثة وإثباتًا مقبولاً للتديُّن الإسلامي.

فلنختم كلامَنا بالشيخ السوري عبد الرحمن الخيِّر (1904-1986)[40] الذي هو مثالٌ مختلِف على شخصية دينية منفتحة، تدعو إلى إعمال العقل في سبيل إيجاد وِفاق بين المسلمين كافة، وعلى مدى أبعد من ذلك، بين البشر أجمعين. يُمَوْضِعُ الشيخُ الخيِّر، العلوي المذهب (فرع بعيد قليلاً من الشيعة الاثني عشرية، ولكنَّه في الواقع قريب لاهوتيًّا من الشيعة السَّبْعية)، خطابَه على مستويات ثلاث: ديني وسياسي وإنساني. ولا يمنعه الرجوعُ إلى القرآن والسُّنَّة النبوية كأصول كتابية مقدَّسة من اللجوء إلى اجتهاده الشخصي ليَطرحَ، بما لا يخلو من جرأة، رؤيةً عن الإسلام على أساس التسامح، متجاوِزًا الحدودَ الصارمة أحيانًا للمِلَل والمذاهب. وهو يلتمس وعيًا إسلاميًّا شاملاً وجامعًا ضمنَ روح مسكونية تَعتبِرُ الاختلافاتِ المذهبيةَ هامشية. فعلى المستوى السياسي، يندرج فكرُه ضمن التاريخ الحديث والمضطرِب لبلاده التي تُهدِّدُها بالانفجار على الدوام شتى الانتماءات الطائفية: إنه بذلك مواطنٌ حريصٌ على صفاء الحياة السياسية والاجتماعية في بلاده. وعلى المستوى الإنساني، يدعو الشيخُ إلى الأُخُوَّةِ بين جميع خَلْق الله، إلا أنه من غير المحتمَل أن تَلقى رؤيتُه المنفتحة والمتسامحة النتائجَ المرجوَّة.

شكوك العولمة

تشير الأمثلةُ العدة السابقة إلى أنه يجب أنْ يخضع كلُّ نص مقدَّس لتفسير علمي دقيق ونقدي. وفيما يخص الرسالة القرآنية، فإنه تجب قراءتُها على عدة مستويات، لأنه لا يُعقَل أنْ تكونَ لأوامرها الاجتماعية والشرعية قيمةٌ أبدية. إذْ تبدو لنا القراءةُ الحرفية للقرآن والسُّنَّة (الموضوعة جزئيًّا، كما ذكرنا) حماقةً ما بعدَها حماقة، لأنها تجمِّد الأشياءَ في ماضٍ مُؤَمْثَل [أُضْفِيَتْ عليه المثالية]، على الرغم من أنه مُهمَلٌ إلى حدٍّ ما، وعلى أية حال، بعيد نهائيًّا عن مجتمعاتنا الحالية المختلفة للغاية. إن الإيديولوجياتِ المتشابهةَ، والمتناقضةَ في الوقت نفسِه، للإخوان المسلمين المصريي الأصل، ولحركة الدعوة والتبليغ الهندية–الباكستانية، ولتيار الأحباش السوري–اللبناني الإثيوبي الأصل، وللوهابية السعودية، وللسَّلَفيين على وجه العموم (الذين يستندون إلى أسطورة تقليد "السلف الصالح")، يجب انتقادُها علنًا من قِبَلِ جميع الأطراف على تقليدها الدنيء وتديُّنِها الجاف وروحانيَّتِها العقيمة. إذ لا تهدف هذه الإيديولوجياتُ، التي تستخدِم الدينَ لمآرب سياسية تحزُّبية، إلى سُمُوِّ النفس الذي قد يتيح للأفراد أنْ يتلاقَوا ويحترمَ بعضُهم بعضًا، ولكنْ تهدف إلى تقييد طائفي خانق للحرية.

يمكن لتلاقي الناس والأفكار دون تحيُّز، الذي تفرِضُه وتيسِّره مختَلَفُ مظاهر العولمة، أنْ يؤدِّيَ، ربما، إلى نبذ الأُطُر القديمة، المُختزِلة والبالية، للتديُّن، وذلك بتشريع الأبواب أمام روحانية إنسانية النزعة وجامعة، بما يتجاوز الحواجزَ العقائدية المستعبِدة. يجب أنْ يكونَ وجودُ المسلمين في فرنسا مناسَبةً للتفكُّر فيه والتعاون.[41]

*** *** ***

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

منشورة في موقع معابر

http://maaber.org






View mabdeljalil's Full Portfolio
tags: