التلميح المشترك
كرم الاعرجي
التواصل الابداعي الذي يبثه الباطن الشعري المشدود باعمدة النور داخل قنوات الادراك تفتح نوافذها البصيرة.. ليرتكز مبدعو هذه اللحظة على مرجعية الدخول الى عوالم.. الداخل الذاتي وكل هذا يندرج في جملة تتنفس بعيداً لامام الفلسفة اليونانية (سقراط) حيث يقول (اعرف نفسك بنفسك) وعندما تتداخل الحياة بمعترك (ميتافيزيقي) متخيل مقرون بمادة الوجود/ تتعرى ملامح الادهاش في جلال اللغة كمحدودية ضمنية تتفاعل والمسار المعرفي.. هنا يكون للابداع حدوداً حسب الطاقة الفاعلة والمكونة لعوامل الاحتراق الشعري ومن ثم الانطلاق بحشوة دافعة من المخزون الى عالم القصيدة والاكتشاف.. الشاعر الذي يستدرج الصور من خلال التعبير الناتج عن تكامل بين الاضداد في اللغة.. ناجم من عقدة مشكلة داخل متنه الشعري يبرمج احداثها باسلوبية تحفر العمق بما يكتسب من معاني تضطرم فيها المدارات منذ التكوين الى حاضرالدوران.
فما قصائد عبدالوهاب اسماعيل، وحيدر محمود عبدالرزاق، وانثى الشعر الموصلي بشرى البستاني.. الا اجتذاب (للحول) الذي يشدونه اليهم كنقطة تنبثق منها الدلالات والاختزال معاً.. الاضطراب النفسي بسكونه وصراخه عوامل يومية يعيشونها على حساب الزمن الذي يختمه شعاع المكان.. فتجتمع ارهاصاتهم بشتى مواطن السر تحت خيمة الابداع.
بعد اندمال يثير القلق عند الشاعر (عبدالوهاب اسماعيل) تأخذه وخزة الابر الى تفجير دُمُّل الواقعية فيرتمي شظايا فوق بساط اللغة.. انه يفتح المغاليق في قصيدته (المرتدون) دون حذر يصيح بأعلى صوته في صحراء الوجود العربي.. فيعود الصدى حاملاً حنينه لرقعته. ينيخ ناقته امام بوابة العراء.. حنين مشتعل بلذة خاسرة ليقول (تناثر ظلي في كل فج عميق) انه العشق الدامي الذي يحج به الى ارض ادمنت على العذاب.. فكان سقوطه وانكساره.. يفتح آفاق الحوار بينه وبينها (جئت وفي قبضتي قشة، تمسكت في جذعها..) طوفان الرمال يشل اقدامه يغرق ويتنفس همه فينقذه (المرجع) على جنح غيمة وان احرقت ما به من بقايا الانتظار.. تعصره الذاكرة في لغة لا تبور.. وقبيلته خيم داخل سرادقها السكوت. اذ قال: (نما الصمت فوق الشفاه، واستطال وسد المداخل..) الرعب غزا دواخلهم فارتدوه.. انه الباطن المحسوم ولكن الظاهر البصري لم يكن متطابقا حتى في بنية النص. (شربت لهاث، العصور، وسمرت ظلي في الواجهات) الناقة، القشة، اللهاث، الظل، ضلت هذه المفردات تائهة كدوخان العقل امام احتمالات ما سيأتي من تفاؤل ينقذ الصحراء.
الاشتعال تلميح فني لشعريته الطليقة في سماء الادراك لذا (حذف) صرخة المعاناة الفكرية في عتمهم الداخلي.. بألم ساخن متوحد بهم.. ظلامه من ظلامهم (وصدري كهوف، غزتها الرمال، فملء فمي صرخة، تريد الفكاك) يذوب الماً وحسرة على (قبيلته الواقع والخيال) التي ينهمر فوقها الخوف كما المطر.. يبحث عن خلاصها ناثراً اضواءه من خلال لغته، الصارخة بها.. محاولاً انارة مساحاتها المسكونة بالصمت والصبر.. ضد الرياح القادمة من جهة البحور مسمومة بخرابها.. ان ثورة الحس داخل الشاعر تدق اجراسها اللغة ليقول (أطلي).. (وانثري لغتي فوق وجه الصباح) انه الطموح في اعادة الوجه مشرقاً بشرف التاريخ وبقي يلقح الحضارة بالحرير.
اما مكابدات ليلى للشاعرة بشرى البستاني.. اعلان عن الصبر العاري في عيون انثى الشعر.. العريّ الذي يكفن به الجوع، العشق، الامومة والموقف من الحياة بما فيها من معاناة جارحة للنفس.. قضية المثول امام قانون ارضي يسرح فيها السيد (المادي) جعلها تتأفف من الفعل المريض الذي يداهم المجتمع.. فيهيج في داخلها الموقف محرضة الشرفاء بمرجعيتها المستندة على قول الامام علي (رض) (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) اما وجه التحريض في قصيدتها (والجوع يا فتيان كافر، والفقر كفر فأقتلوه) تثور بحماس الثوار على واقع مرير تسلبه ارادة القوة البشرية المدعومة بحفنات من ذهب انذاك.. الموت له اصابع (والروح بين الارض والسماء.. تطوف في العراء، تبحث عن غطاء) مجروحة حتى في روحها التي تحرسها نظرة الخالق.. الارض المسلوبة تنطق بلسان لا يخشى رغم التشبيه (لؤلؤة خرساء.. تطفو على بحيرة المساء) يبدو ان المرجعية دقيقة في وعي الباطن الشعري (الارض/ اللؤلؤة) تقربها من عرش الرحمن الذي استوى على الماء.. والمرجع التوارثي يحدد الوقت بالمساء.. وهنا تطوي افقها خوف الجوهر (السماء دخان) اخر الالم في قصيدة شجر الرمان. اطلاق روحي مسبل بالتحرر والانفلات نحو الاقاصي حيث الصور الشعرية المليئة بالحس المتسامي وبطهر اللغة تحلق (لتشع بهاءاً في الكون) انها تنقب بأناملها فتخاف عليها الحور (فتخبأ حوريات الفجر اناملها) ولجمال روحها (اختبأت اسراب طيور الجنة) وتدافعن الحوريان بكاءً على حزنها الفاتن.. ثم تطلق بصيرتها الى الداخل لترى وتتوغل بصدق العاشق.. فوران الحدث الذي آلمها وجعلها اسيرة الحب الروحي لتنشد (رأيت امرأة تنزع، حبل وريد حبيب الروح) انها تتوجع لهذا الانفصال.. ورات كل الذي يدور حولها يبكي حزناً على الصفاء الذي غمر الخلق ثم انتحر.. (هي التي ترى) (العاصفة الهوجاء، تسرح شعر الليل)، (والسماء تنزل عند النبع، وتغسل وجنتها) انها تتوحد بطيئاً في هذا (الاستنساخ العضوي) للباطن والظاهر في اعماق الذات لرسم صورة الجوهر باشعاع مغامر..
وفي الحلم اولاً.. للشاعر (حيدر محمود عبدالرزاق) يدعو حبيبته من اجل رسم وتلوين احلامه وهذا مرجع روحي ينفلت من خلال رؤياه التي تداهم يقظته حتى يجيء فجره في غياب الشعور الذي اضاعه الداخل (لوّني حلمي، وارسميه)، (واسكبي فوق رأسي مزامير عشقي) يحتدم الصراع النفسي عنده لما يعانيه من الم الروح وغيبية الحس.. والكل من حوله ذائب بغفوته وهو يلتقط انفاسه من الصخب الذي يثير اقلاق المعاني (المقاهي على النهر غافية) (لوّني جسدي بالهدوء) وهكذا يلوذ بالقدم لما مضى من حزن شتته عامل الزمن.. فأخذ يستذكر حتى ادر ك جمعه لكي يرى.. (وحزني القديم الذي كنت اجمعه) فوران الحزن يدك بصيرته ليعود الى الماضي حيث صفاء السرائر الاجتماعية التي جعلت من هذه اللحظة مسرة حارب من خلالها التغيير الضالع بالماديات وانحراف العقول عن فضائلها (نرى قمراً وجرّات ماء، يا دشاديشنا الطاهرات) الحلم الذي لا يفارقه الماضي. الحاضر. وجوع النفس للشهوة والبحث عن الجمال الروحي ضل يتدافع معه امام هذه الاهوال من الطاقة الباذخة بالانحراف عن الصدق والاخلاص والتفاني، الحب والنماء المعرفي وبقي (حيدر) تلوكه الدوامة اذ يقول (مازلت امسك جمرة حزني) عذاب الخارج من عذاب الداخل وبالمقلوب فالجمرة هي الخلق الجميل واللون الذي يعطي للحياة بهاءاً اسمى.. (الداخل) اما ما هو خارج الذات هو البحث عن امراة تكتحل بالنقاء.. انها روابط لـ... تلميح حسي مشترك في غياب الوضوح.