(اليد تكتشف) والمجاز السالك
كرم الاعرجي
اليد.. قوة الايعاز الدماغي، وتمريرها فوق ما يباح لها من لمس هو ادراك يتحسس الموجود فكيف بنا ونحن نشاهد ببصيرتنا (يدا) تحاول تفكيك رموز الوجود.
فالموجود معلولاته مرتبطة بعلة الارادة، وعملية تكوين العلاقة الجمالية بينهما يعني التشكيل الفني لتكوين صور واضحة، برغم غموض بواعث التراكيب في اللغة، وكل هذا شك منحسر في ذات الشاعر، بل هو كشف غير مرئي تشتغل عليه مخيلة (الدال) الذي اسرع في طرح كل وعيه في مقطعات شاقة جداً في التأويل.. (اليد تكتشف) مجموعة شعرية جميلة للشاعر (عبدالزهرة زكي) وصادرة عن دار الشؤون الثقافية ومكونة من خمس وعشرين قصيدة كتبت بين الاعوام 1990 و1993 وتعد المجموعة الثالثة للشاعر المقروء. هذه القصائد مذهلة التصوير من الداخل، مشحونة بحس الواقعي المتدرج في الوعي، والصوفي المغامر في التجلي، طامعا بخلع الحجاب لينظر في مدى الاعماق العالية.
الذي يتوسد مزاياه هو القلق المستمر خوفاً على حبكة المضمون ودهشة المشهد، ولاجل تحطيم العقد السرية في الكتابة الشعرية، كان مدمراً ومسكوناً بثنائية المضمون والشكل وبما انه من الرافضين للاندماج الثنائي فقط، اطلق خياله ليحسم المفاهيم في تخليق حالات جديدة في طروحاته فادهش التلقي. (الملائكة يكشفون في انحراف النهار، ما لا تراه الاصابع وهي تتحسس المكان الاشد يقيناً وهذا بحث متصل بالخفاء).
الشاعر لم يغفل شيئاً مقروناً بالواقع او غائماً في المعنى الروحي، الا وارسل اصابعه كما اشعة (المجس) (تتحسس المكان الاشد يقينا) ان تفجير طاقاته للحصول على بعد خارق من خلال المفردة التي تحمل معناها الخاص بها (ليدلل) التلقي على حساب معاناته الخاصة جداً. وهو يدرك ان هنالك اسئلة مفتوحة تثيره وتضعه في خانة الخطأ (ثمة يد كذلك تخطئ السؤال) اذن عليه ان يقيم علاقة حوار ليفصح بهدوء العارف (سوف نبطل النتائج التي تخطئها الاصابع) كل هذا الصراع يتحسسه في مقطعه (اليد تكتشف.. والجسد يتحرر).
ان وضع المفاهيم السامية واطلاق الفكر نحو الفضاءات بالمنقول والاجتهاد والمعقول او دونه هو الولوج عينه عند شخصية (الحلاج) بما لديه من مرجعيات روحية خاصة به (العارف من رأى) وهذا يحال الى مرجعية معرفية لم تأتِ عبثاً الا بالبحث، ثم يصف الحقيقة بقوله عانياً وبدقة (معنى الحقيقة حيرة، معنى الحقيقة شيء لا تغيب عنه الظواهر والبواطن ولا تقبل الاشكال) وهذا معنى بحث الشاعر الذي ينقب بيد تتلمس عالمه السفلي ويد تجوب فضاء العالم العلوي.
ولو اجرينا احصاء مفردة (اليد) لوجدناها كثير وصفاً ومفردة. وكل حالة من حالاتها جاءت في الجملة الشعرية امتثالاً امام عين سالكة بلا تعب نحو ثقوب العالم المدهلزة، تروم الانارة وتختصر مسافة الادراك بينه وبين الكون وعقل التلقي. ان الحياة مرايا ساحرة بكل اشكالها انها تعكس حياتنا. وتجوب دواخلنا لاجل استخدامنا المهيأ في هيكلة معانينا خارجها وداخلها وما مقطعه (الحياة اكثر ادراكاً من ورق مغطى بوضوح الموت) ص16 الا تعبير عن تناقضات ومجريات مفاهيم تدُب فيها انفاس الشاعر في تعميم دلالاته وانساق معانيه داخل هذه الكيفية المتصلة ببعده السري (الموت) ان اجلاء البصيرة في خلق تأثير لا يتحدد بمشهدية هو تكافؤ نسيجي بين ما هو مألوف للوعي وانزياح في المتخيل. فمقطعه(اليد التي تقبض على كل شيء) ص34 هذه الجملة توحي الى انه ادرك كل شيء وحلق في اجواء المغامرة نحو الاعلى محتفلاً بسكون الخبرة الشعرية بالرغم من اعلانه (ينبغي الاحتفاظ بالكثير من الاسرار).
هذه المدارات الفكرية اقتحام نبيل للشعرية وتصوير دقيق لمفاصل حياتية تسامر احداثها الالام والافراح، وهكذا يرطب الشاعر اجنحتنا بالنافذ من الخيال لنحلق في عماله المنشور داخل المتاهات والامنيات ودفق الخزين.. وما هذه (اليد) الا عضو رمزي بالمجاز مضيء وسالك في غياب الحقيقة وعتمة الوهم المتصل.