رماد كائن في الليل

(رماد كائن في الليل)

ولذة الخلاص

البستان السري هو الباطن بالنسبة للشاعر، فحرائقه وهج متيقظ، يرى فراره من الابعاد وفيها، ولانه حبيس بلا قيود يتأمل ببصيرته من اعلى المنافذ المطلة على الوجود، كي يصعد بمخيلته نحو الخفاء ليعلن حاجاته الحسية من أجل ترتيب آخر يراه يقينا، ليدمر شكوكه المريبة والمعجونة بالصور الغامضة والمعتمرة ببريق لا يرى ..

وكما يقول الحلاج في إحدى طواسينه  (الدائرة لاباب لها، والنقطة في وسط الدائرة هي الحقيقة، وأدق من ذلك فهم الفهم لأخفاء الوهم) وهكذا تتوالى دوائر الاكتشاف من أجل الرجوع الى نقطة الجوهر. وهنا يقع سر الديمومة (الرحمة في الصفاء).

والعناد وحده الذي ينظم اتجاه الادراك في الحدس الخارق نحو الحس، وهذه البنية من بنية الفهم، لان الفهم دائرة منبثقة من نقطة المطلق فالنقطة دلالة معرفية فيها الاستحالة من ناحية الكشف، هنا تتشكل بنية أخرى تسافر في الغموض. وهكذا دواليك، بنية داخل بنية..

وعندما يرقى الشاعر الى مستوى الفهم الواضح في الايهام، يطلق شبحه من عتمة الروح بنورانية العارف، ليكون الغموض حالة مقرونة بالكشف، وهكذا تتوضح المسالك الحسية في التجريد الى الاكثر نصوعا وتدفقا في الانتباه. لذا يسلب من المعنى غموضه ويستبدله بدهشة الوضوح. الذي أحالنا على مثل هذا الكلام هو امتثال الشاعر أمام المحاكمات الذاتية التي يرافقها العقل، فهنالك وجع المتخيل بأضافة اللغة، ويتساءل البعض لماذا قدم التخييل على اللغة في الكتابة، الحقيقة أن النص أصله مخزون ويحتاج الى لغة سامية تصور المعنى المرسوم في المتخيل وهذا اقتران، لذا فعملية إخضاع اللغة للتخييل هي بحد ذاتها شعرية تفور مزايا، ولأن الشعر باطن مجازي والتخييل (ميتافيزيقي) فالربط بينهما يعني الصورة الجمالية الاكثر نصوعا، وهذا مستوى ابداعي رفيع..

لقد برع الشاعر (مزاحم علاوي الشاهري) في مجموعته الصادرة عن الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب بدمشق والموسومة بـ(رماد كائن في الليل) في تصوير الباطن من الجملة الشعرية وإظهار محتواها الجمالي، مرتديا معطف المجاز ليشير في اسفاره الناغلة في التجريد عن سرية الحس المستمد من الفيض، وهذه الطاقة مشحونة بالتأمل والاكتشاف ومحمولة على جناح المعرفة..

إن كل ما اشقاه من غموض يدهشه في الوضوح/ وهذا هو المشغل الكتابي الذي تفور به مخيلته وتبتهج في خدمته اللغة وانساق التوظيف التاريخي للحاضر.

لذا فالمقاربة في هذه المجموعة ستفتح أفاقا جديدة للفهم.

ففي قصيدة (اوراق ) (وحلم شاعر) تتنفسه الاضداد أي الجدلية ليتشكل المعنى بنسيج تناغمي يصعد دون هبوط (كان تبغ القصيدة يصعد) يصعد ظاهرا كما النار (وعطر القصيدة) يتوغل باطنا في كل الاشياء (ريح) وبسكون حزين يتهادى في (حلم شاعر) ليقول (تأمل الشاعر بعضا من رؤاه.. بيتا بأقصى الارض، لا تدخله               ) إنها دوامة الحياة في التكوين، وتبقى روحه تتمسك بها ترصد الاضداد، ودونها ومن تنويعاته (ربما تزيح غبارا، تباطأ في الريح، ولي نجمة في الروح، ولي في الحلم مملكة، ولي في الارض أغنية، وافق واسع اخضر).

الغبار سلالة الطين والاخضر سر لونه الماء.. شيء يمد شيء..

وعندما ترصده الاسماء القاحلة في قصيدة (شباك) وترتب الخباثات من اجل خنق صوته يقول وهو مطل من شباكه المفتوح على بساط اخضر (حشدوا ما استطاعوا أذى، وانا بينهم، اتوكل بالصبر وبالشعر) مستطردا (وانا حفنة من ندى، جل ما ابتغيه عناق اليف ، يكف الاذى) باحثا عن السلام ليرش الحياة بزهور المحبة والامل وهذا مبتغاه..

ولكنه يبقى (مسكونا بفيض الكشف، والقصيدة المعاندة) والوحشة تنذره للخسارات فيقول (ما أوحشنا.. من لغة الرماد، نستسقي المطر) وعندما يكون منهمكا يبحث عن الامان لا يلجأ الا الى قصائده، كي يرتمي بأحضانها ليفصح عما بداخله من هواجس وآلام وحب وغرائز وامنيات، مستمر في التنقيب عن أمل يهب له الحنان من البعد الذي يحاول اكتشافه، اليأس سائح في قصائده (ما تبقى، وعتاب، شيخوخة، وما عرفته الطيور، وأخريات) حيث يقول (أجمل الاشياء وهم، أعذب الاسفار تيه) ومنها (فاستوى الحزن بعينيك، طريقا للسراب) وللزمن حفرياته في قصيدته (شيخوخة) وهو المطلسم الوحيد، المعذب الماثل أمام مرايا الحياة (تفحص وجهه مرات، فأدرك حاله ثم انتحب).

وعندما يخاتله الوقت ويأمره باليقظة من حلم يتناسل من قصائده شهوة وحزنا، يحوك له فستان الطيبة وهو العاجز المشنوق بالاوهام واسفار المداخن، المسجون بجلده والخارج عنه بالمجاز نحو سماء تهرب منها القضبان، لينشد في مرثيته (ليال عذاب، تخاصرن في قلب أمي، لهيبا، وصدرا ينوح بثقل البلاء) ومن تداعياته (لا والذي اشقى دمي، والدمع صخر في المآقي لا يلين) هذه الانعكاسات المؤلمة هي نتيجة حاصلة مقرونة بماض معقد في ذات الشاعر، الطفولة، الامومة والشيخوخة ومدارات أخرى، هذا الشاعر يفقد لذته في الاشياء.. قائلا (ها أنت تفقد كل شيء، ماذا تبقى في يديك) الرؤية واضحة وكل صورة من هذا التشكيل الشعري فيها نسيج من الالم مهيأ للأنتصار على العتم.. برغم مضايقات الواقع له وتثوير المشكلات، حتى وإن فشل في تغوير المكابدات الارضية فأنه يسعى من أجل الانتصار الروحي (هي رغبة سكنت خلوتي، فآعتكفت) معتبرا الوحدة خارج التكوين لذة الخلاص الروحي وانتصارا على شهوات النفس بعد التجارب، وهنا ينعدم المستحيل امام حقائق الاعتقاد.. لذا فالقصيدة عند (الشاهري) باحثة في المعاني العقلية ومنقبة بأروقة المكامن الخفية من أجل الوصول الى سر الجوهر الغائب خارج نقطة الوجود

View karam's Full Portfolio