الحاسة التاسعة
وثقل الكلام
كرم الاعرجي
(كمال عبد الرحمن) عرفناه شاعرا قبل ان يشرع في كتابته للقصة، فالمؤثر من الكلام يستدعي الانتباه الدقيق من اجل التوافق الضمني بين مخيلته كشاعر وادراكه لافعال الحياة كقاص، ولا يأتي هذا الانسجام الا من خلال تجربة يخوضها في غمار هذا البحر الزاخر من اللغة ليخرج الكلام الذي يطوّرها عبر تاريخه المعيش، بمعاصرة أو بتأمل قادم.. إذن الحكائية سرد فني محبوك بفطرة يقظة أو اتباع منهج مرسوم، فعليه كانت مساراته متخيلة غير مألوفة ومتآلفة مع الواقع وهذا مزج يبهر في تبسيط اللغة المنسوجة من خيال خصب يمليه علينا بمفاهيم جديدة تنقر القلوب..
وهنا يتحقق الخطاب المشترك بجدلية (القاص - المتلقي) ولا يمكن تحقيقه الا بمبادئ منظمة لتصبح اللغة اداة للكلام حسب نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني، والكلام تطوير للغة فتتضح البواطن وتتزوق سماء الظاهر، والتفاعل دون الفصل بينهما يعني تفرد فذ …
فالخصوصية التي يرمي خوضها القاص (كمال عبد الرحمن ) في مجموعته القصصية الموسومة بـ(الحاسة التاسعة) والصادرة عن دار الشؤون الثقافية هي بمثابة واقع بيئي مسحور بفضاءات، تجارب متعددة اعتمدها في شخوصه ليثبت فاعلية النشاط الذهني المفتوح على افق سام متخذا المكان كانطلاقه أولى في ادراك الحس الجمعي الجوال في مزايا انسانيته الطموحة للوصول نحو التربع على عرش ما.
الحواس غير محدودة على حد علمي (مطلقة) والانسان مداه العقلي خارق، وعندما تتعدد الحواس يعني ان هناك حدود حتى وان كانت غير مرئية، فحدود الانسان لا يحجب مداراتها إلا الله.. أما حاسة (القاص) توقفت عند الرقم (9) لادراكه بان هذا الرقم فيه سر من اسرار علوم الفلك والروح…
إن ومضات الترميز تتجمع في (امرأة من آخر الحلم) حيث المكان المجهول والزمان غائص بالجهل، والخلاصة في امرأة تتوسد المعرفة لتكشف عن مرايا تتشكل عبر مدار وعيها الساخر من الخلل، فتملّ الحياة بين سهل وجبل وأسمال التخلف، وبالرغم من انها اكتشفت الذي يتحلى بنبوغ عقلي متسائل دون الاخرين، استمرت بالرفض وكأنها انسلخت عن شكلها الادمي لتتحول الى ومضة حلميه في ذات القصة فاجبرها على الغرق في ميتافيزيقيا خيالاته، فاستثمر اللحظة، بنهاية مدهشة كما سماها (القرطاجني) بان النهايات لحظات تحلق في سماء الادهاش…
وهكذا أنشأ قصته بكلام منتبه من الداخل.
التصوف سيرة إنبنائيه يكويها جمر الروح في ذات القاص، فكل ما يريد إيضاحه عن سفر عريق لتجاربه التي عاشها وشهد كراماتها كانت تبهره الى حد عميق، بحيث ترجه من الداخل لتذويب خلل النفس وتطهير معانيها، كحالات خاصة بالتدرج الصوفي وامكانية ازاحة الستار عن (الكرامة).
فالقصة (ما أتاني) هي خصوصية تعريفية للراوي الدقيق في نقل الصفات التي تتجمل بها (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) ومنهم (رجل يمتطي بيته الطيني المقام على شكل خيمة، بغتة وكأنه يفزّ من شيء ما، يخرج صرخته بوسع بيوتات القرية (يا ودود … يا ودود!) ثم يضرب بعصاه البيت فيمشي!).
اما عن هذا المروي من الحكاية لم يكن متخيلا في ذهن القاص، ولكنها حقيقة يرويها القاصي والداني حسب صياغة ناقل الحكاية، ولقرب الراوي المقروء من هذه المعاني والاسرار / برع في توضيح مزاياها مضيفا تخييلا وصفيا ومنتبها لمكانه المروى عنه فكان الخبر مذهلا يهمس في أذن المكان….
هاجس الاحساس الذي يثيره في التأمل المشترك بينه وبين حيوان زاحف وسام، هذه علاقة قسم روحي مقروء منذ ولادته فكانت الألفة .. إنه تأويل ولا غير / ولا يهمني من هذه القصة (حكاية من جبال بنجوين) سوى حبكة الكلام الجميل كما في جملته (أفكر وأدخن ساعات حسبتها أعواما حتى أحسست أن دخان سجائري قد طرد هواء الغرفة) فكانت سعادتي في التنفس من خلال صور داخل جمله وما أكثرها.
أما القصة (سيد الغرباء) انها حوار المعاناة بالمعنى الاخلاقي لشخصيته والتماس مفجوع بالخوف والامل الفاشل، مرهون بغضب مولاه الذي يلاحقه في كل مناحي الحياة من اجل تطهيره من دنس ما آلت إليه نفسه، وهذه قضية ذاتية تجرش ايامه وحاسته التاسعة بالهزائم كما يقول (الكلام) في ص34 (فلم تكلني الى ضعفي ولا تدعني أحتمي بك منك) ويبقى يطلب الرحمة بسرها من مولاه.
اما (صفية) القصة المليئة بالاحداث المشوقة في سردها. إنها سفر بين حياة وموت. ومكونة لمادة مضامين ذكية في خلق علاقه بين (الدانات العصملية) و(القنابر الامريكية والبريطانية) حيث ترعرعت صفية ايام العصملية وماتت في العدوان الثلاثيني وهذه الفترة هي موجات من التأمر على بلدنا العظيم منحسرة في زمن صفية المعمر، انها وقع سري في التلقي وليس سردا حكائيا مجرد، يحفره القاص عبر الكلام.
(ولم أحلم إلا بالحلم) مفتتح القصة (أسميك فوضاي) غلبت الشعرية على اغلب ما يشده من دراما الروح نحو خلق صور تثير معناه في النص، فحواره مع الظل فيها احالات شتى لجغرافيته التي رسمها عبر مخيلة تضخ مخافات وخسارات يحسها هو كفوضى تحتل مراياه المخدوشة بالحلم ودبابيس الامكنة ويبقى يبحث ولا تصدمه إلا فوضاه ، حلم يخرج من حلم ، لذا بقى مهملا باحداق الابد تؤطره المرجعيات.
(وكلما لذت بصحراء عيوني أراك قادما من سراب لا يكذبه الاعمى) ثم ينتقل مستشهدا بقصيدة للشاعر المبدع (معد الجبوري) كمقدمة لقصته (نجمة على مشارف الغفران) القصة واقعية جملية ساكنة مشحونة بالهدوء ونرجس الكلام، مشمسة ومتوحدة مع عناصرها، القرية وشخصية المجذوب نحو السماء كما يصف نهايته، ولكنه السكير الارضي المتذمر، الراقص من الغيظ، الذي يتحامل به على نفسه، حاضرا ومختفيا والذي يشدنا منها أكثر هو قدرة الراوي في الدخول بأعماق الرؤى للسكان الطيبين في قرية يونس، ولكن حاولت ان اربط مقدمة العمل باحداثه فلم أجد رابطا يدعو لألفة المعنى المطروح في قصته..
لذا فاقول ان الجنون ليس في كل حالاته له رابط عميق بحيث يكون الاتصال روحيا مع السماء قائما حتى بكأس الخمرة / لا تبرير فالخمرة سلعة الارض داخل الصحو..
(ما لم يصلني) القصة التي تخرج من داخلها حكايات أخرى، ولزمنها متاهة المتاحف الخاملة والنائحة على رموز (لم تصلني) لذا فلنا معها حديث قد يحتمل الرشقات في دراسة اخرى..
العقل والقلب والنفس ومسالك الفضيلة والمجون طرق مرعبة تسلكها القصة (هستريا صامتة) المسكونة بقلق الغرائز ملتحمة مع التذكر البيئي الاخلاقي الدائر في فلك الفضيلة والنفس القويمة، إنها صراع باطن زاهر وظاهر مشدوه… لذا سكب القاص روحه في زجاجة تخنقها التآويل…
(أمطار بشرية) قصته العاشرة، تؤرخ ثانية، ولكن بإضاءة اكثر شدة، لأنه تناولها بأسلوب فني إشاري دقيق في رسم شخوصه الفائتة الحاضرة.. حتى انه اوغل في مسألة الخلود التي تسيطر على الانسان منذ الازل.. وإن أردنا إحالة طروحاته التاريخية على المألوف من واقع المعيش ، لرأينا كيف كان بمقدوره أن يزرع شخصيات التاريخ حسب مواقعها على ارض البسيطة مع شحناتها في فوضى النزوات، وهكذا امطرنا بالعظماء واسماء المدن والحضارات ورذاذ البشر، فكان مؤرخا بالاشارة (وصاح الرجل صيحة مرعبة، ثم أنتفض كطائر مذعور وسقط ميتا منذ الازل).
الحكاية (ذئاب في برية الجسد) منقولة عن السنة شتى خدشت شعور القاص فشرع بكتابتها كما هي ولكن بلغة نثرية جميلة ناحتا اجواءها ببساطة وامعان في الخطاب، وخلق لها تصورات عديدة مشعة داخل الخطاب من الكلام، كما ابعد اسماء ابطالها، واجرى فيها نهرا من ومضات الادهاش الخاصة بالنظرات وشهوات الحب، كما عزل شهوة القتل المكتشف وان طال زمنه. وهكذا بعد موت الحواس تنبجس حواس اخرى من المطلق البعيد لتنعكس رؤاه وتخيلاته في حاسته التاسعة نحو الابعاد مرتحلا في مدارات تفيض خواطر تستجدي من بئر الحياة باطنا وظاهرا قصصا وحكايا قابلة للترميز.. والعرض مستمر فالقصة (أوركيديا صاديا) صادقة ومشحونة بالحس الانساني، (حتوتة) مرهونة بزمن تغزوه عواصف الحزن ومكائد الفجائع في نفوس طوتها مآسي وقسوة العمر في امرأة (بكاؤها ابتسامات).
وبقي يعد مواضيعا ليكون له عالما يشغله في قصص مثيرة او .... أما (أميرة العصافير) فضحت جنون بطلها وبقلب غليظ اخذ يطرد العصافير معلنا كرهه العميق لهذا الطائر الأنيس الذي لم يميز لونه في قصته الاولى ((إمرة من أخر الحلم)).