قراطيس
الشاعر (( معد الجبوري ))
كرم الأعرجي
تتألف المجموعة الشعرية (( اوراق الماء )) من احدى وعشرين قصيدة ، لها سماتها التي تتيح للشاعر التعبير عما يفكر به من هواجس وامنيات ، ومثلما ابدع في مولفاته عبرمراحل زمنه الفائت ، قد صاغ ما يبهر بلغة رشيقة تسوق خطواتها الصور المنتخبة من بنات الخيال ، الذي لايليق بغيره في هذه النصوص الفاحصة للوجود ، وبترو مرتب يستحق الثناء ، وهذا سبب تفرده بين أقرانه من الشعراء معاصريه ، فالشغل المتناسق يهب للقارى جذوة ساحرة باوصافها الجمالية المعتمرة بالوان اطيافه الروحية ، التي فغر بها عيون التقليد ، انه يرسم بادق من ريشة الفنان ، ما هو مخزون من خيالات خصبة توارثها من جرار الوقت التي تزخ معاناة.[ الكاتب يكون مثمرا بقدر ما يستطيع ان يجدد نفسه ، ولا يستطيع ان يجدد نفسه ، الا اذا امتلأت روحه بالتجربة الجديدة باستمرار ] (( موم )) لكل شي حجاب يفصله ، عن الاخر وهنا يختلف سمك الحواجز ، الا عند الشاعر الذي لايفصله عن الاشياء سوى الحاجز الشفاف (( برغسون )) مع التعديل ،
- المدخل – الفرح ان تكون شاعراً ، والحزن الكبير ان تكون فيلسوفاً . كما عبر عن مضامين الذات على مستوى الحس (( القروي )) والجمع ببين الحالتين لم يكن مستحيلا عند الشاعر (( معد الجبوري )) الذي مزج رؤاه بالواقع .. عبر مجايلته لمن غاب ومن هو ماض على دربه ، باختيارة سبلا مجنحة تطير بالمعاني ، وبتشبيه بلاغي زاخر ، لما هو حاصل في شاعريته كنتاج ابداعي .. تنقسم شخصية الشاعر من خلال ورقة الديوان الاولى والموسومة بـ (( ورقه الشاعر )) الى ، روحي فوق واجتماعي مأخوذ بالوجود وبفضول جاد و مغامر من اجل الاكتشافات والبحث في كل مرايا الجهات من حياته . ان ما يراه من تفاعل فياض بينه وبين المحسوسات الجمالية ، والمكبوتات – الاجتماعية – والفوضى المنعكسة على ذاته العارفة ، يكمن في محاوره التي تحركها السمات البيئية والثقافية والعقائدية هذا المثلث المخزون في عقل الشاعر يحتم عليه الانطلاق بالمجازات التعبيرية التي تنسجم مع دلالاته الحالمة لرفد المعنى ، ونحو المطلق السائح بجرمه غير المرئي ، وبآفاقه المفتوحة على نظام المعرفة ، انه يمهد للعلاقة بين نقيضين يسبحان في ذاته ، ثم ينحرف منتظرا لحين قدوم الايعاز الغيبي من الخيال العقلي المتأمل الذي ينير مفاصل الوعي لدى عين المشاهدة ليلج الحواس في بنية فنية متراصة فيها سمة الاحتجاج والقبول ..
[ نضبت حتى الاباريق ، وغطى قلعة العشق ، رماد الوقت ، فرمى العشاق من اخر برج ما تبقى من اكاليل واقداح ، وحين انحدروا ، من شرفة الليل ، ما عادوا مجاذيب ، سكارى ,.. وعلى اخر برج وقف الشاعر ، شرب الشاعر حتى دارت الافلاك ، واخضلت اباريق الرؤى ، حتى رأى بحراً ، من الصحراء ياتي طافحا ، والكلمات البيض تنثال عليه وهي ابكارى عذارى ، وعلى اخر برج اوقد الشاعر للعشاق نارا : ]
الاباريق منسوبة الى الخمرة ، كما للعشق معناه الصافي في الذات ، والوقت جريان خسارته مع الزمن ، الاكاليل تعبير عن الجمال ، والاقداح للاحتساء صفة ترافقهم وترافقه ، والمجاذيب والسكارى مراياه : لذا اولت تفسير الحالين (( المجذوب )) غيابه روحي فيضي لا ينتظر العودة الى الوجود ، لانه مطمئن بالرحمة ، وهذا ناتج عن الالحاح المستمر في عبادة خالقه ، لذا جذبته السماء حباً به وبقى لنا الحزن على هيكله الفاني ، اما (( المخمور )) هو غائب عن الوعي عائد الى وجوده ، لكن بخطيئة جسد مرتبك منخور غير متوازن في
بقائه ، حتى تاتيه الومضة السرية التي ستخرجه من عتم النفس نحو طهر الروح ، واعادتها الى الله كما وهبها .. وهذه اللحظات من الغياب تقلقه فيرتعد ، خوفا من الحشر غفلة ، مستحضرا الحديث النبوي الشريف (( … ويحشر على ما مات عليه … )) مما جعله يحاول الامساك (( بكلاليب )) المشاهدة قاصدا طهر الحياة وطهر الروح معا وهذه استحالة بدليل خطاب السيد ((المسيح )) للعوام في وصف حال (( المجدلية مريم )) بقولة ( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ))
الافلاك ، الصحراء ، البحر ، النار ، وهواءه الذي يستنشقه كان بمثابة الكلمات البيض لغة ارتباطة بالافعال ، وهذا تكوين انسانيته في ادراك الوجود التحتي ، اما الافلاك لها اسرارها المرتبطة بقلبه من جانب الاتصال الفوقي / لذا كان دليلا معرفيا يتوقد بخصوصيته الشعرية الحاذقة بالغيب الحسي لما يشعر به . .
وللتدليل على معناه الباطن اخترنا بعض من الصور السابحة في فضاء الادراك من بين هذه القراطيس المائية الملاى درراً يحتضنها التشعير بشكل مختزل ، حيث يقول في
( ورقة الامير ) [ وألقي صرة العمر ، كانثى ساعة الطلق ، غبار في المدى ، …. والموت طلق ] ثم يستطرد [ جمرة في القلب ما زالت ، وفي العينين برق ..] اما (( ورقة مقديشو)) يصف الجمال الخلاب لموج البحر بتشبيه جميل كنفور الغزلان من مكيدة ( والموج غزال طافح خلف غزال ) وموجته ( فاطمة ) تعب من البحر شهوتها السوداء لتستلقي على صدره (( الملذوع بالفلفل )) مثل غابة ..
يبقى يسافر باوراقه المنثوره فوق قامة الزمان متسائلا [ يوم دارت حولي الارض ، ام ؟ ! اني درت حول الارض ، لاادري .. ] يسبقه حدس (الفكر الناعوري) ليسقر على الطريق التي يراها معبدة امامه قائلا [ سامضي راحلا ، بين جداريات ايامي ، الى اقصى الينابيع ، الى اقصى الدنان ] ثم ينتقل بنا الى (( ورقه الفارس )) معاتبا [ ايهذا الزمن الغفل العجيب ، كيف لا تفرك عينيك ]
في (( ورقه البرق )) ينزل مستلا سيفه الناري معلنا [ لتمتد الى اخر ما في الغاب نار ] واخذ يسري وهو في (( ورقه السيل )) ليخرج من شفتيه اخر الكلام [ وتعدوا معي الغزلان والوديان ، والريح ، انا السيل الذي يبتلع الاصنام ، والاوهام ، والموتى ] مُغنِ مخنوق وعازف حزين ينشد بين مجامر الطبول الادمية [ خطف الضجيج الناى من شفتي ، ثم لوى لساني فانعقد ]..
هذه الاوراق تحمل بين طياتها معاني ثاقبة ومتجانسة في باطن تراكيبها
الحياة التي لا يجد فكاكا منها في عصر يضج بالاضطراب بما فيه من متنافرات نفسية وصراعات ، يعمي طريق الفضيلة بالمظاهر الخداعه وخرير الخيانات التي تسترها وجوه الثعالب الادمية ، النزاع الذاتي بين الخير والشر هو امتثال امام قانون العقل البشري المعلق بفضاء المعرفة وما من سبيل سوى الاختيار …..
الذي سيجعله حائرا بين حدين يسريان في الروح سريان الشعاع في قاع البحر ، وهكذا يذيب بنظرته البعيدة الثاقبة للحياة جمود الفكر ، فاثر ان يدفع ببرق الخيال نحو اقاص لاغبار فيها باطلاق روحه الشفافة الغريدة في الدلالات المفتوحة ليقول ،
[ لم أزل أمضي الى أبعد ما يهطل ؟!! ]