محمد
قمر الاناشيد وشعرنة السيرة
كرم الاعرجي
البعد السري في شخصية جامعة، توجب علينا التفكر والتأمل (بمعناه) كمثال عال ومبرأ، ولأن النبي (محمد) ، أكمل الخلق الإنساني وأوله، وآخره في الحقيقة النبوية، منذ كان آدم بين الماء والطين.
وهنا برعت مخيلة الشعراء ومنهم (حسان بن ثابت) حين قال
(خلقت مبرأً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء)
(للمعرفة) أوجه ومديات في انفتاح الوعي الانساني فهي بستان الذات العارفة والناثرة حكمتها على مساحة حقول الفهم، كي نقطف من خلالها ثمار الوعي .. ونستلهم من فيض القدرة مايتاح لنا من تجليات عبر دراستها بكّل ما تتحلى به من خصال، وطاقات الفعل العظيم، فالمعرفة سكون هادئ الحس وإطلاق روحي يبحث في الأثير والحياة عن آثار ما يهمها من اختيار ..
فكانت شخصية الرسول العظيمة بعد الحس الانساني لدى معرفة الشاعر (أمجد محمد سعيد) في التناول وما (قمر الاناشيد) الشعرية إلا امتثال امام وعيها المدرك والمسكون، بعدتّه اللغوية الغنية خزيناً، في توضيح مزايا النبيّ الكريم عبر البحث والتمحيص من أجل طرح البراهين والإثبات (لمعناه) الحق، بلغته المحلقة بفضاء مجنح.
بدقة الحياء من جلال وجه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ونوره الذي جاب فضاء العتمة، بعدما سادت فيها الجاهلية، وخوفاً من حروفه التي يشكّل من خلالها التشبيه أن تخذله في عدم الوصول الى ما يطمح له من رضا، وعلى مهارته في اختزال الشرف الجليل بمضامين واعية تتجلى معانيها عبر قصده الشعري الطويل .. انما أراه في شعريته التي تتحلّى بصور مزدانة بالحرفية الفنية في التكثيف والرامية للتجديد في عصر لا يتفاعل مع لغة التعقيد.
إلا أنه لا يضع خطاه على سلّم الاستشهاد الدلالي، إلا وكان القرآن الكريم مرتكزه الحسي في انبعاث الشعرية كمرجع روحي عقائدي، وهكذا هبطت في (وحي القلم) (سورة القلم) ليفتتح بها مشهده الشعري، ومن أنقى وأزهى وأزكى من كلام الربّ القادر القدير وأبلغ من وصفه لنبيه الذي إصطفاه على الخلق أجمعين (وإنك لعلى خلق عظيم)
ومن هنا يبدأ فعل الكتابة التي تليق بسيد البشر حيث يقول
( من نور وجهك ، ينهل الحرف
وأمام طرفك، يسبل الطــرف
لجلال ذكرك ، تنحني، لغـــة
ومعين نبعك، شهده صـــرف
خلق، وخلق، حلتا بشـــــر
من قبل آدم، خصّه الوصــف)
وبهذا الوصف الجمالي الدقيق وببحره الهائج من مجزوء (الكامل) إكتملت مسبحة الحروف خرزة، خرزة..
ثم يستشرف برؤيته ذات الدلالات الحسية وبتداعي الحيازة الواسعة على أكثر من سبب تخييلي، وبشفافية متأمّل في تخليق ترابط غير مألوف وهذا انزياح الجهد التأملي في شخصية الرسول مع امكانية الوصف بتداخل مبني على أساس التكوين الصوري للشكل المعتمد، وكما يقول (ريلكه) {ليست الأشعار كما يتصور الناس مجرد مشاعر، انها تجارب} فالفهم المدروس لعوالم الذات المحمدية فيها تجلي فوقي وإدراك عال لحقائق الوجود ..
فعليه خاض شاعرنا غمار تجربته في إدراك الحس لشفيعنا الذي وهبه الله لهذا العالم الزائل.
(يا نبيّ الطيور الجديدة، النسغ أنت، الدم النظيف، الى قلب عالم من دخان)
يشطر حالته العاشقة الى نصفين، فتارةً يعشقه أرضياً وأخرى سماوياً، ناهيك عن خلجاته التي تتشابك بين داخله المغامر في الاكتشاف وظاهره المذهول بالهيبة، يشعرنا وهو سائح بما يريده من مبلغ معرفي (يا سرّ جنان الالفاظ، إملأ إبريق غنائي، من ينبوع الرؤية والرؤيا. إملأ جرة أيامي، من نهر يديك).
يكتحل بنور الإيمان متكتمل لديه الرؤيا الفاحصة للوجود كي يرقى الى بعد جديد، بعدما عاش القسوة والضلال مترنحاً يمشي على حبل الحياة القصيرة، فأدرك المصير ناظراً ببصيرته التي أوغلت في الأمنيات القاحلة فكانت هدايته خوفاً من أمر عظيم، كاشفاً صدره الذي تدافعت فيه الكلمات متجهاً (الى ربوع الضوء، في الأمر العظيم).
إن التركيز على العرض التاريخي للرسول ومعاناته عن طريق "الابستمولوجيا" الفكرية للشاعر في الحياة والاستلهام من القرآن الكريم للإشارات الموحية التي تخص رحلة النور في الأرض المنبعث من سماء المطلق والأحاديث النبوية ومقالتي التبشير (لورقة بن نوفل) ومقطع من قصيدة "البردة" (لكعب بن زهير) جاءت مسترسلة بنفس هادئة ومنسجمة مع التحليل الشعري لأبعاد المفاهيم النصية.
وعلى الرغم من خفوت الإنارة في بعض المناطق من الجمل الشعرية كان الشاعر حريصاً عليها ويعمل جاهداً على إنارتها فيلعب دور المنقذ للجملة الشعرية، من أجل بث رؤيته بشكل واضح من خلال جمل أخرى، وإن كانت غير مألوفة مثلاً
(الحجر الأسود وارث
ونشيد من فجر الرؤيا)
وهنا الإيحاء مستور والرمز مفتوح، لكنه تدارك محنة الوقوع في فخ الغموض فأرسل الإشعاع السري كتشبيه (للكعبة المشرفة) (طير حط على كتف الصحراء) فاكتملت الصورة بإطارها الفني وهذه تقنية في الأسلوب الذي يدرك الانزياح في المعنى ..
وبما أن (الانزياح) انحراف عن المألوف، يتوجب على العقل ترتيب هذا الانحراف عن طريق اللغة، لكي يكون مألوفاً متفاعلاً مع المستقبل وبعيداً عن الوهم الذي يقود النفس نحو مسارات غامضة وغير فاعلة في المضمون.. وكما يقول الغزالي { الوهم عظيم الاستيلاء على النفس }
وإنطلاقاً من هذه الجملة، ما عاد بإمكان النفس السيطرة والسطوة على الشاعر والتمكن منه كي يسقط في الهفوات وحبائل الشيطان .. وبقي يسبح بفناء السيرة متكئاً على الآيات القرآنية العظيمة وما يراه مستقيماً خدمة لهذه البنية الساحرة في عرض شخصية النبيّ
وما هذه المجموعة إلا سفراً مشرفاً يضاف لتاريخ الشاعر