صدمة البطل

(صدمة البطل)

                                      في قصص (القصص)             كرم الاعرجي

من مشكلات العصر في كتابة القصة الحديثة ، الفهم المدرك لشخصية البطل ، الكثير من كتاب القصص ينظرون الى معنى البطل هو سر تكوين الأحداث في النص من خلال ذاته التي تطفي عليها المجريات ، كتشبيه شامل ، دون الوجه الآخر المتآلف معه من مكان وزمان ، لذا حددت الأفعال لما يدور حوله ، وهو شاخص غير فاعل ، أما البعض الأخر فقد جعل من البطل رمزا وذيلاَ اجتماعيا يحاور ما هو معلوم ، لذا تفقد (العين) الحس … فتنعدم صورة البطل مندفعة خارج المعنى بالسبب المعلعل داخل جوهره ، ثم يتدافع الراوي معه بكل انكساراته النفسية المستقرة وغير المستقرة، بصراعها ووجوب وجودها او عدمها على مساحة النص ، وهذا يدفعنا نحو عطب غيبي وتطلع يسبح في فراغ .. وجود مثل هذا البطل المرتبك بين ما هو كشفي واضح وما هو مخفي مغلق ، يضيع علينا متعة اللحظة المدهشة ، البطل يجب ان يكون ملتحما بشكل حميمي مع الواقع وليس هامشيا منفيا في فضاء الخيال للكاتب .

ففي المجموعة القصصية الموسومة بـ(قصص) للقاص (عبد الوهاب النعيمي) هنالك عقدة في معالجة شخصية منعزلة مهووسة بالوحدة والفراغ لا يملؤها الا صخب الموسيقى او هدوءها وحرقة النفس بلقاء الأرواح ، مهزوزة وغائمة .,. ان عقدة الحرمان الغريزي الشامل للبطل في (ايكالو)(1) إحدى قصص المجموعة ، تتوارى في اكتشافها بالمحاولة عن آفاق التطلع نحو ماهو مبهم في شخصية الخزاف التاريخي و المعاصر الوهمي الذي يثير مشغل الفكر ، بزمانه ملتحما بالمكان للحاضر الحلمي . هذا البطل الذي اعتبره مجازيا قد شده فعل التلقي في تهذيب الوهم واخضاعه للحوار وتجريد المعنى وكشف اغواره حسيا ..

وبما أن المرأة (الاميرة) كانت ومضة سريعة ، لكنها أنارت المساحة الذهنية للكاتب ، رسمت طريقها في الحس ، فكانت حواء البطل السري (ايكالو) ورمزا جماليا محسوسا للبطل الواقعي ، وهنا يتفاعل الراوي برهافة مع اجواء الشخصية لانتشالها من هذا المسوخ الفردي ، ليعطي سرده قوة ووقعاَ في وصف احداثه على مستوى المكان وكذلك الغاء المسافة الزمنية بين التاريخ وحاضر الشخصية (ايكالو)

( انا عبرت بحور العشق ، وطرت عبر فضاءات المستقبل ،من زمن غادركم قبل آلاف السنين ..)

ويستمر في الاشتغال على استدراج (الكبت) الشخصي وتفجيره امام لحظة الإدراك لتغيير ملامحه وتذويبها في جمال الطبيعة و الحياة وتحسين صورة الامل امامه ، وهنا ينجح القاص في صدمة البطل ..(حين همَّ بمغادرة الباب الخارجي ،واجهته الحديقة ،تأمل كل شجرة وزهرة ، ثم اخذ المقص وبدأ يهذب الاشجار الكثيفة التي تشابكت منذ سنين ...)

لما عانته من اهمال ، فكانت عودته من الاخر المسكون بالاشباح و المغامر بوهمه نحو الحياة ، بصحوة البطل الواقعي الفاعل وليس المتخيل الوهمي .. وهذه القصة قابلة لان تكون مشروع روائي ومفتاحا للبحث في خبايا النفس عن معالجة (سايكولوجيه) لشخصية البطل .

القاص يعتمد بنية الطبيعة الذاتية بما فيها من توافق مع الواقع و المتخيل لما يجاري السر النفسي ، لعالمه المعرفي في التكييف الذي تحدد مفاهيمه المزايا الفنية في حبكة المضمون الدلالي المطروح على ارضية المعنى .. ثمة ملامح تغص بالحفريات المرجعية في ذات القاص التي يحيلها الى مشغله الكتابي عملياً ، ليصورها في تراكيب فنية ساحرة وباغواء تعبيري مخلص .. وبلمحة المستفز ينقلنا ولكن بعفوية الضد المتكافئ ليستل انسانية الفرد الواقعي المرموق في قصته (فضاءات صامتة) حيث البطل المحدود في (دراما) الانزواء الفردي عن العالم ، ومن ثم تحويله الى فعل محسوس ، رغم الصمت الذي يخيم على مساحة مكانه وجراحاته التي نسجها له الزمن .. بمعزل عن الاخرين ، وبه يرقى بالتطلعات التي تمتاز بالفعالية المفتونة بالحياة ، ليستمر في اخراجه من احلامه المدمّرة بالامل المجهول ، مكونات هذه الشخصية التي تتوخى الحذر من المجتمع بعلاقاته المحدودة جدا وبرغم فقدان ما يركن اليه من زوجه واطفال لم ياتوا بسببه ، وعلى الارجح كان عنيناً ، وبعد موت الزوجة اختار الانزواء في مكان ما ، ليجتمع بصديقه الوحيد الذي يربطه في هذا العالم ، ولكن عندما لا يلقاه لسبب او لاخر تصدمه جغرافيا المكان و اللامبالاة بالزمن ، هنا استطاع القاص انقاذه بالتحول و التغيير بعد ان صور له قدسية الارض وما تحمل من سمات و علائق اجتماعية بلا عقد .

فاجبره على اختيار الامل المشع بالتجديد بعد عمر ناهز الشيخوخة ، وهكذا دبت الانفاس الزكية ليعمر اكثر في لقاء ما هو قادم .

اما (ابحار) اخر قصص المجموعة يتقمص القاص كل ما يدور ويعلق في شخصية البطل ، حتى انه لبسها من اجل الكشف عما يجول عوالمه وجوارحه ، في حين كان بمقدروه ان يقرر بطلا متخيلا لمعالجته في خضم هذا البحر الانساني الهائج بمفاجآت الوهم الوصفي ، بحيث اتحد معه روحيا وبهيام ، ( أي سحر … واي عالم انا فيه … ليكن … فالعبة جميلة )  يبدو انه استهوته ، فمن سيكون المسيطر ..؟ القرين بذاته ام البطل بتذبذبه في هذا اليم المتلاطم ..؟ ، ويمضي الصراع الحواري (للقاص) كشخصية تفعيل خامسة في ذات واحدة مستلقيا باسترخاء اللغة في البعد الفوقي ، منتظرا لحين تداخلهما ، لينقض في لحظة القلق السري نحو الباطن الشعوري / نقيضان يتداولان على امتداد (شارعه) المنظور كحقيقة والمستور الضبابي في الداخل ، هذا من حيث الصورة … و (الشارع) الثابت الذي يتخذه التابع مسارا يمتد به قبل صاحبه البطل ، هذا بحكم نظرية الظل و الضوء ، وهكذا يستمر (بنزهته داخل خلايا العقل) حتى يتسنى له الدخول في هذه الوحشة الظلمانية بين عوالم ذاته الواسعة ، ومعناه الصريع بوهم البصيرة .

وهنا اوقع نفسه في الفخ العقلي للبطل (العقل ان اكون صورة لاصل لا وجودة له) وهذا فشل في ادراك الفعل الحياتي .. لذا استسلم للحوار بخسارة الذات مع القرين و الجسد مع التابع ظله ، فكانت صدمة القاص  .

    

ويبقى ( النعيمي) بعدا يحفر الاعماق بفأس معرفته لينير مساحات اكبر من الذات الإنسانية

View karam's Full Portfolio