وعندما يذعن الجسد
الجزء الثاني
( 134 )
لكنه ساءلها ، وهو يقول :
ـ ولكن ، ألم تشتركي في حفلتهم الصاخبة تلك ، وانتِ المقدّمة في الاشتراك الجنسي ، والمؤهلة فعليا لخوض كل تجاربهم العنيدة ، باعتبار انك تحظين بأولوية في هذا المجال ، له ان يعود بالنفع على كل عشاقك من كلا الجنسين في مثل تلك الحفلة الاباحية المشتركة .
فقالت :
ـ حالفني الحظ في تلك الليلة ، كانت اصرت العشيرات ان لا اشترك في تلك الليلة فقط ، تحت ذريعة انهن لا يردن لعشاقهن ان يلهون وينشغلن بي هذه الليلة . وما عليهم الا ان يهتمون بأمرهن لليلة واحدة فقط . .
فقال :
ـ ولا بد ان الغرض ما كان له ان يتجاوز حدود البداهة ، وهي ان ينفردوا بهم ، ويقوموا بانجاز خططهم ، وتنفيذ مهامها ، كما هو مرسوم لها . .
( 135 )
ـ وهذا جزء من حسنات الحظ الذي كان حالفني في تلك الليلة ، كي لا أقع في غمرة مجونهم وصخبهم ، وبالتالي ، فلولا لطف البارئ ورحمة الاقدار ، فما كنت لأكون الا واحدة من الضحايا . .
فقال :
ـ ولكن ، كيف كان للخطط ان تجتمع في ليلة واحدة ، ومن دون اتفاق مسبق .
ـ اما هذه ، فاني لأظن ان للاقدار يدها الطولى فيها !
ثم قال وهو يستفسر منها :
ـ أووه . . حسنا ! اقول : ولقد كنتِ قد أخبرتِني بانك كنت تحدثين اخوتك . . أقصد. . بكل ما يفعلنه بك الغانيات ؟ فكيف . . لم . . ؟ !
ـ أجل ، فما اخبرتك به ، كان يمثل بالنسبة لي احتجاجي لديهم على ممارسات من يدّعين أنهن زوجاتهم . وما كان بالنسبة للغانيات ، الا احتجاج أخت ، كانت قد عدمت أيما شفقة يمكن ان تستند اليها ، أو تستعطيها من قبل أخوتها الأباعد ! ولو ان الاذلال وتلك الممارسات كانت لا تخلو من وحي ، كان تأتّى فعلياً من سلّة الاخوة . .
( 136 )
ـ الا ان الداعرات كنّ قد اجتهدن في قضية ازالة بكارتي . . وذلك قبل الوقت المعلوم . . لاني ما كنت لأشك في رغبة الاخ الكبير لمحاولته تدشينه تلك العملية . . فكان يرغب في ان يكون هو الذي يتشرف بإزالتها ! غير ان الغانيات ما كان يحلو لهن ابدا ، الا استباق الاحداث . .
إلا اني كنت أرى ان الصاق تهمة ازالتها بكَ ، ووضوح الصورة لديّ بعد كل هذا ، كان له جميعا ان يدلل لي وبصراحة على أنكم جميعا كنتم متواطئين على كل ما صنعتموه . .
ـ لقد كنتُ كشفتُ لكِ عن حقيقة هذا التواطؤ.. وقلت لكِ . .
ـ أفهم ما تقول ، ولكنه تأكّد لي عين الحقيقة. . فمرة تخبرني ، ولا أراه رأي العين ، الا ان ما اخبرتني به ، قد صارت حقائقه تتجسد ليَ الان طواعية ، وبأجلى صورها البشعة ! . .
فمع وجود كل تلك الملابسات في حواشي وهوامش مثل هذه الروابط والعلائق التي كانت تربط فيما بينكم ، الا انه ما كان ليتم التشكيك ـ ولا بأي صورة من صورها ـ بثقل الدور الذي جعلَت تلك الملابسات ، تلعبه في التأثير على الكثير من المساوقات والمسارات غير المتوقعة ، التي كان لها ان تجري ، ووفقا لمعادلات رهيبة ومجهولة ! . .
( 137 )
ثم أردفت :
ـ أجل ! مجهولة حتى مِن قبلكم انتم اجمع . اما مِن قبلي انا ، فاني كنتُ اشك في كل التحركات السابقة . . والمعاضدات الخفية . . بأنها منتحلة ، الا في قضية علم الداعرات ، باني لستُ أختا للاخوة الاربعة .. والا لما كان لهن ، ان يخفين عليك ، مثل هذا الامر أبدا .
ولكن ما يحيرني حقا . . هو انه كيف لم يتأتّ منك أن تسائل الاخوة عن عدم غيرتهم على اختهم ، بحيث انك تمكّنت من اغتصابي عدة مرات ، ومن دون ان اشعر . .
بل ، وعلى مسمعٍ ومرأىً من جميع الاخوة وغانياتهم ، حتى ما كنت بالنسبة اليكم ، الا فأرة تجارب ، كان قد جيء بها عنوة . . الى أحد حقول المختبرات الخاصة ، كيما يجرون عليها مختلف انواع التجارب ، فيجربون فيها آخر اللقاحات والعلاجات الطبية ، كيما ينظروا الى حجم ردود الفعل التي يمكن ان يعكسها جسدي ، وبكل الطاقات الكامنة فيه !
غير انه قال لها :
ـ انه امر ليس بالعسير . . لقد فعلنا مثل هذا مع كثيرات ، وذلك عنوة وامام اخوتهم واخواتهن . . بل اكثر من هذا وأزيد . .
لذلك ، كنا قد تعودنا على التنصل من هذه الامور ، والتملص من حالة الدفاع عن الشرف..
( 138 )
وإذ كان أجرى الكلام ، فانه كان ومن خلاله، يعلل نتائج الاحداث :
ـ . . ذلك أن شرف المهنة كان يمثل لدينا سموا ، هو اكثر علوا من هذه الاعراف البالية والتقاليد البائدة . فالاباحية ما كانت لتمثل الا جزءا يسيرا من خططنا الجبارة.. فكل ما نريده هو مباح لنا ، والغاية تبرر الوسيلة!
كذلك كانت مثل هذه القواعد تغزو كافة ضروب حياتنا ، لا سيما الاجتماعية منها!
وفي لحظة واحدة ، كأنما تذكرَتْ شيئا كان قد غاب عن بالها ، وذلك في غمرة مفارقات الحديث ومداخلات الكلام ..
( 139 )
فقالت له :
ـ أسألك كيف كان لك ان تخاف جلبة ما تكون امام باب الدار ، او ان احدا يطاردك . . او يتعقبك . . مع انك تعلم ان من تخافهم كانوا قد ولّوا وماتوا حتف انفهم ، ولم يكن ثمة من يبحث عنك او يلاحقك ؟
ـ وللمرة الاخرى . . اقول ، فاني كنتُ قد تخوفت أن أكون أنا الاخر ، في ضمن عِداد الاشخاص الذين يجب تصفيتهم جسديا ، ومن المحسوبين على ملف تلك القضية . .
فقالت :
ـ أوَلَم تخبرني بأن الداعرات ، كنّ قد أطلَعنَك على اخر التقارير القاضية بقتلكَ وتصفيتكَ من قبل الاخوة ؟
( 140 )
ـ نعم ، هذا صحيح ، ولكن غاب عنهن اجمع ، بأن الاوامر كانت قد صدرت بصورة مزدوجة متراكبة . . حتى أن مهمة قتل العشيرات ، هي الاخرى كانت قد صدرت إليّ أنا الاخر . .
ـ كيف يمكنهم ان يوعزوا الى الاخوة بقتلكَ . . ثم يوعزوا اليكَ بقتل العاهرات ؟ أووه . . ألم تقل لي ، ومن قبل انكَ انتَ الذي صرتَ الى قتلهن بارادتك ومشيئتك ، انتَ وحدكَ ، لانهن اردن قتلي ، والحاقي باخوتي الوهميين.. فكيف ؟ ! . . كيف ؟ !
ـ اجل ، اجل . . فإن كنّ يتصورنكِ حقا ، انكِ ما كنتِ الا أختاً لأولئك الاخوة . . فلقد كنّ عزَمنَ يومها على قتلكِ وبسرعة . لذا ، ما كان عليّ الا ان اُسرِع في الاجهاز عليهن !
ـ واذن لم تصدُر الاوامر اليك بقتلهن ؟
ـ بل صدرَت . غير اني احببتهن حبا جنسيا، وكنت اود الاحتفاظ بهن لنفسي ، ولاكثر مدة ممكنة ! فانقلهن بعدها الى مكان ثان . . ريثما تتيسر لي الامور فأكاشف المسؤولين بما فعلت . . مع انه ليس لدينا شيء من هذا القبيل . . والاوامر لا تقبل الرفض ، مهما كان عِظَم المبررات الكفيلة بإلغاء العمليات . . دامغا !
( 141 )
ـ غير ان ميلا جنسيا قاتلا ، وشبقا غريزيا وحشيا ، كانا يعيشا في ذهني وجسدي وقتها . . ركباني، وانسياني كل سلطان يمكن ان يغلب سلطاني ، حتى ولو كان سلطان مدير جهاز الشرطة السرية كله . بل جعلني اتناسى كل خوف يمكن ان يسيطر علي ، ويتملكني ازاء مثل هذه الامور . ولكن حينما اصبحَت حياتك مقرونة بمماتهم ووجودك مرتهن بفراقهم . .
انتخبتُ الاخيرة ، واخترتها على الاولى، لاني كنت حقا اؤثرك عليهم . أما الجنس ، فاني استطيع ان أجده بسهولة ، غير أن حبّكِ ، ما كان ليتيسر لي ، أن أقع على مثيل له قط !
ـ وعليه ؟ !
ـ وعليه ، فان خوفي من هذه الازدواجية في صدور الاوامر ، جعلني اخاف كل شيء حولي ، حتى اصغر جلَبَة يمكن ان يُحدِثها جمع صغير من الناس امام باب المنزل . .
( 142 )
قالت :
ـ تذكرت . . فان اغتيالك واغتيال امثالك. . هو لا يمكن ان يتم بهذه الصورة التي تتضمن إحداث جلبة من اللغط ، واثارة زمرة اصوات ، تتفجر آثارها أمام ابواب المنازل .
نظر اليها وهو يبتسم :
ـ وقتلكِ ؟ فهل له ان يتضمن مثل هذه المناهج ؟ !
ـ ؟ !
ـ ولذا ، فما كنتُ لأعني بقتلكِ الا قتلي. . لانهنّ إن استطاعوا قتلكِ ، كان لهنّ عندئذ أن يقتلوني حقا.. ومن يطمع في قتلي ، فعليه أولا أن يبادر الى قتلكِ.. ثم سوف أقسم له على الله، بأنه سوف لا يحتاج بعدها الى قتلي ، أو حتى التفكير في القضاء عليّ بتاتاً . . لاني سوف أسّاقط تلقائيا. .
ـ انّكَ داهية . .
( 143 )
أتعرف لماذا ؟ . . لأنك تحاول ان ترسم لكَ وحدكَ عنقودا من الحب . . لكنكَ تناسيت انه ليس بوسعك ان تجعله حلوا . . بل هو مرّ لاذع !
فقال لها عندئذ :
ـ واذن ، ما كنتُ الا خائنا لهذا الحب . .
قاطعته :
ـ احببتُ في البداية أن يتزوجني أحد الاخوة . . كيما ينقذني من مجموع هذه الآفات التي كانت توزعت حولي ، وهذا الرعب الذي أعيشه . . فلا افكر بعدها بحياة متقلبة قط . . ابدا ما حييت ، ولكني حينما رأيتُك . . لا أدري ما الذي تملّك قلبي ، وسطا على فؤادي ، حتى استلب مني كل شيء ، واستولى على كل وجودي . . والان . . !
( 144 )
ـ والان . . والان ماذا ؟ . . أقول : اني لم أخن حبنا . . وما كنت لأدعكِ ترزحين تحت طائلة أولئك الاخوة الملاعين . . لاني كنتُ اشعر انهم يريدون ان يصنعوا منك عاهرة خاصة بهم . .
ـ وانتَ . . انتَ كنتَ تريد ان تصنع مني داعرة ، تختص بكَ وحدك أنت ليس الا ؟ ! أليس كذلك ؟
ـ لا ، ان الامر ليس كذلك . . فكما كتبوا ضدي التقارير . . كنت قد كتبتُ أنا الاخر ضدهم تقارير أخرى . . لذلك كانت قرارات عملية القتل المزدوج . بل لو حاولتُ ان أتهمك ، فهل كنتِ ستقبلين صورة من صور النقد الذاتي؟
ـ ماذا مثلا ؟
ـ لقد خِنتِني !
( 145 )
ـ أجل ، لقد خنتني ! حينما تركتِ حبّنا يغرق في متاهة هؤلاء الاخوة الجراثيم ، وذلك حينما افترضتِ موافقاتهم وعدمها ، أمورا جعلَت علائقنا تشذ عن سبيلها الحقيقي ، حتى رسمتِ لها كل منعرج من عواذي الطرق ، لانهم لم يكونوا اخوة حقيقيين لك . .
ـ لم ارد أن أخون اليد التي تكرّمت علي يوما . . حتى ولو كانوا ليسوا بأشقّاء . .
ـ ولكنهم آذوك اذىً مبرّحا ! فلو كنتِ قد بقيتِ في بيوت الرايات الحمر ، لما كان لكرامتكِ أن تُمتَهَن ، أو يصيبها الاحتقار بمثل ذلك الشكل الذي امتُهِنَت به ، واُصِبْتِ فيه بالاحتقار ، وذلك في منزلهم الحقير والداعر . ولو أردتِ أن أخبركِ أكثر من هذا ، لما كان بامكانك ان تصدقين . . فانما ما عمدت الى اغتيالهم الا لأجلك حقا . .
وبعصبية :
ـ لأجلي حقا ؟ وهم الذين كانوا يتهددوك ايضا طالما كانوا على قيد الحياة ؟
( 146 )
ـ لا تنسي انهم لا يتهددوني بمثل الشكل الذي تتصورينه ، انما الخطر الحقيقي يتأتى من صناع القرار، ومُصَدِّرِي الأوامر ..
فلما هدأتْ ، عاد يقول :
ـ وما صنعتُ بالعاهرات مما كنتُ صنعته ، ليس الا انتقاما وثأرا ، لما كنّ صنعنه بحقك من فعال ذميمة ، وانتهاكات متوالية ، واستلابات متتالية . فلو كان الامر برضىً منك ، ما كنتُ أحسبُ لهمّك أيما حساب ، يمكن له أن يزيد من شقوتك على ضوء افتراضٍ ، كان له أن يتحدد في عدم امتلاكك كافة أدوات الوعي بمسائل هذه اللذائذ، أو استشعار أهمية وسائل تلك الممارسات الحية . .
ـ الممارسات الحية ؟ ! . . ألم تقل انكم طالما صنعتم بأمثالي ، ما كان لانفسكم أن تسوّل لكم فعله معهن . . بل امام اخوتهن واخواتهن ؟ !
( 147 )
ـ كان ذلك يتم ، بشكل مقايضة ! فمتى كان طرف المقايضة الاصلي ابهظ ثمنا ، كان للجنس أزهد الاثمان !
ـ ؟ !
ـ نعم ! . . واني لأقولها : فاني لا أمتهن الجنس أبدا ، لكني أمتهن من يحاول توظيفه لسحق قيمة الانسان ومعياره البشري . .
ـ . . ألا تجد انك تعاني من ازدواجية في الشخصية ، ألا تراك تكابد مشكلات انفصام حقيقي فيها. . انها الشيزوفرينيا يا رجل ؟ !
ـ اني لم أفهم لنقائض حالات الجنس أيما معنىً ، حتى عملت في هذا السلك ، واشتغلت في هذا الميدان ، لاني تكلفتُ بواضح الجنس ، حتى كنت تعرفت على لطائف انغامه . ولكني اعترف ان طريق معرفتي هذا، كان شائكا جدا. .
( 148 )
وهكذا هي الامور تسير ، فلن يسعد باشتيار العسل ، الا من كان له ان يتحمّل وجع لسعات زنابيره . فمتى أباحت الجنسَ أعرافنا ، كان لنا أن نرقى بأنفسنا من حضيض الارض الى علياء السماء السابعة ! فالجنس شيء كثيرا ما نتحدث عنه ، وغالبا ما نمارسه ، لكننا نخجل ان نتحدث عنه ، ونرسم الايديولوجيات بصدده ، حتى بتنا لا نعي عنه الا القليل ، ونجهل عن ثقافته كل المفردات الامينة في التعامل معه . . لا لشيء الا لأننا ندّعي اننا احفادا اشاوس لِسِنِيّ ، كانت غابت عنّا منذ زمن سحيق .
ـ انكَ تتحدث ، وكأنك لم تذنب او تأثم ، أو أنك لم ترتكب أية جنايات ؟
( 149 )
ـ لقد أثمتُ الى حدّ النخاع ، واذنبتُ وعصيتُ ، واقترفتُ من المآثم ما اقترفت ، وارتكبتُ من الجنايات ما ارتكبتُ ، وفي أوسع النطاقات . لكني لم افكر يوما ما ، في ان العب على حبال المقايضة على الجنس ، او المراهنة عليه . .
ـ الم تقل انه . . انه كان يتم بشكل مقايضة؟!
ـ أقول هذا ، إن طلبتِ مني أن أسعفك برأيي الخاص ، لا رأيي خلال مزاولتي لعملي . . فانا حينما ازاول مهنتي ، لا اشعر أن ثمة روح اصلية تعمل في بدني . . انما أحس بأني آلة تتحرك وفق رغائب المسؤولين.. وليس وفق رغباتي وأحلامي . بل اني لأحترم الجنس أشد الاحترام ، كما أقرّ بمكانة ممارساته الساخنة ، وبدور جولاته الحادة كل إقرار . غير ان السبل المريضة هي التي صارت تنهكنا حد الاعياء والتهور .
فلذلك كله، أعود واكرر على مسمعِكِ الكريم ، ان حياتي ما كانت الا أوامر أمنية ، وهذه الاخيرات ما كانت الا قرارات قانونية ، تمضي على شرعية عمليات القتل وعلى الاخص المزدوجة منها . .
ـ شرعية عمليات القتل . . ؟ !
( 150 )
ـ نعم ! فان لجهازنا الامني . . ان يحمل اسما ثاني ، هو الاخر كان يتمتع بشيء من السرية ! فهو جهاز الامن الشرعي ! لان كل قوانينه واوامره لا يُصادَق عليها، ما لم تُختَم بختم جهازٍ شرعيٍ آخر ، يُشرف على مراقبة اعماله ، ومتابعة دقائق الامور فيه ، عبر التجسس على كل صغيرة وكبيرة فيه !
ـ ؟ !
ـ وذلك . . هو اشبه بحالات القيمومة الظاهرية ، وغير الظاهرية! فكما يمكن للشخص ان يعيش حالات جنس مليئة بالازدواجية، ويصير يألف صفات الخروج عما يألفه عالم الجنس نفسه ! حتى يصير للمرء أن يجهل ملابسات ابسط الامور ، مع انه يمكن ان يشار اليه بالبَنان ، ويخطط لاعظم الامور واصعب القضايا !
كذلك جهازنا الشرعي . . فان لأصحابه أن يشار اليهم بالبَنان. . الا انكِ ، وفي غالب الاحيان ، تشعرين بأنهم قد زايلتهم العلمية ، وتجردوا عن العدلية لتصير الخصال البشرية بعدها الى هجرهم ، وذلك لتنصلهم من أبسط القيم الانسانية ، وتنكرهم لبديهيات الخلق والادب . . بل لانقلابهم على أنفسهم ، ومن دون أن يشعروا . .
وإن يصيروا يشعروا، فانهم لا يحسبون الا أنهم كانوا ، وما يزالون يحسنون صنعا . هذا ، فضلا عن جفائهم الرهيب لأعظم ما وقع بين أيديهم من كتب السماء !
ـ اقول : ولماذا كنت تجهل ملابسات هذه الاوامر ؟ وكيف لمثل هذه الممارسات الجنسية الشاذة ان تمتلك لها شرعية بين كل تلك الاوامر التي لا تصدر الا عن شرعية وقانونية .
( 151 )
ـ أولا لم اجهلها ، ولم أكن يوما كذلك . . بل خفت ان تتعدد هذه الازدواجية لتشمل ما لا يتسع له ذهني لاستيعابه ، أو أن يكون بوسع عقلي تمييزه والتفكير بمعادلاته الكاملة .
أما عن الشرعية ، فاني قلتُ لك ان شرعيتنا كان للشيطان ان يتلبسها بثوب من الطهارة ، عبر انتحال انبل الصور العرفانية ، لتمرير مثل تلك المقررات ، التي كانت تنتزع لها الشرعية انتزاعا من غرائز نفس المتنفذين الشرعيين ، وليس من عقلياتهم الفذة ، بعد ان تفننوا في تأليه الغاية تبرر الوسيلة ، حينما قالوا انما نستعيرها لأجل قضاء مصالح خاصة يقتضيها امن البلد ، ولا نقتبس العمل بها ، الا لغايات حميدة ، حتى ولو كانت ظواهرها تعرب عن خلاف هذا ، كله . . من قبيل الزنا او الشذوذ الجنسي وما شاكل ذلك . . فما الضرر المترتب على مثل هذه الممارسات ، طالما كانت الاخطار الكبيرة تدرأ بها ، وباخطاء يمكن احتواؤها ومعالجتها .
سكت قليلا ، ثم طلع عليها بالقول :
ـ اقول . . اريد . . اريد ان ابادلك الحب جنسيا . .
( 152 )
ـ ترغب في ممارسة الحب معي
ـ اجل !
ـ ولقد مارستَه معي من قبل . . فلماذا تستأذن ؟
ـ لا . . انما ما حصل من قبل ، كان في غير شرائطه .
ـ واليوم ؟
ـ اليوم يختلف عن امسه .
فقالت :
ـ واذن ، فاليوم انا قادرة على أن أقرر لنفسي، قادرة على ان أقول كلمتي وبكل رغبتي ، وبملء ارادتي .
أجابها :
ـ اجل ! وبمطلق الحرية . . فلو شئتِ فعلنا.. ولو لم تشأين ، ما كان لنا ان نفعل .
فأعلنت له بالقول الواحد :
ـ اذن ، فلنتزوج ؟ ولو زواجا منقطعا .
ـ أو زواج معاشرة !
( 153 )
فهبّت لائمة :
ـ نعم نكاح معاشرة ، هو غير المعاشرة دون نكاح . من مثل ما كان يفعل ويقارب الاخوة الاعداء والعشيرات المتطفلات .
ـ جيد ! ولكن أنا الآخر ، كنتُ وما زلت ، أشعر أني بحاجة الى قانون يشذّب من تطلعاتي كافة .
ـ ماذا تعني ؟
ـ اقصد ان قانون الحرية هو الذي يبيح لك ان تقولي نعم ، او لا !
فقالت :
ـ هل تتصور ان على موظفة المؤسسة الجنسية ، وحينما يُطلب منها ممارسة الحب ، أن تكون أكثر مراسا ، وألين طواعية من المرأة المتحفظة ، حينما تُعرَض عليها ممارسة مثل ذلك . .
ـ ؟ !
ثم قالت :
ـ فهل يمكنكَ ان تتصور اني يجب ان أسلّم لك ، طالما كنت قد سلّمت جسدي طوعا وكرها لمن تعرفهم . . فلا تراني الا ككتاب قد قُرأت صفحاته تكرارا ، وبصورة متوالية . وقُلِّبَت مرارا من قبل اشخاص عديدين . فيعار للكثيرين ، ويستعيره الكل . .
( 154 )
ولكن ، أنّى لكَ هذا ؟ ! فيا صاح ، ما هكذا تورد الإبل . . فأنا ما كنت لأكون كذلك ، . . فأنا كتاب لا تفتح صفحاته الا برمز يُقرأ على غلافه ، وتتلى تراتيله عند عنوانه . وإن اُريد فتحه عنوة ، فسوف لا يتيسر ذلك الا بكسر قفل رمزه !
ـ وأنا ما قصدتُ ، الا ان تلزمينني بما يمكنك ان تلزمي به نفسك ..
ـ أليس لي الحرية في أن اقول كلمة : لا ، أو كلمة : نعم ؟ !
ـ بكاملها ، ومطلقها !
ـ اذن ، فانا أرفض أن أمنحك جسدي ، ولا حتى أن أدعك تلثم شبرا منه ، أو تطأ انجا واحدا منه . لأني أكره أساليبك !
( 155 )
ـ ماذا ؟
ـ قلتُ لك . . ولقد سألتك الزواج ؟ !
ـ ولِمَ لا نكون صديقين متلازمين ، عاشقين رفيقين ؟ !
ـ اني . . اني لا ارفض ان أكون عاشقة لك، عاشقة برّحها هدير الشوق ، وقرّحها أنين الوجد !
ـ كيف يجتمع النقيضان ؟ كيف يجتمع الحب والكره معا ؟ !
ـ لأن الحب عندما يتمزق ثوبه ، وتنفصم عراه ، تراه يفتش عن حُليّ ذهبية ، ترتق ما انفتق منها ، كي تبعث الحياة في لون أسماله ، المتوزعة فوق جسده المرقوم بسجلات الحزن والايام . .
( 156 )
وهكذا كانت استطرقت في افكارها ، وهو يحاول غزوها عبر مهجة لا ترتقي اول بأول الا لون عينيها ، ليلج عبر بوابتها الى حيث تنتظر معالجاته . .
وها هي تستلب منه كلمة الاستئذان التي كان امر بها بارئها من قبل ، ولئن فعل هو ، ما كانت لها ان تفعل هي ، الا بعد ان تنتهي من القاء نظرتها المطمئنة عليه ! كيما يرتقي الورد لون الحب له ، فيصير شوقا الى لون الصفاء الذي لا يحلو ، الا حينما يصير ضوء الشمس يحمل ندى الورد ، فتكون الحياة زاهية كرائحة الورد . عندها تكتسي الاقدار ببُردَة شمس ، كانت عذبت حينما سقاها الورد من لحنه ، فعكست على الايام ضوء حياة وردية . . كيما تغذو جنس القلوب بكل ما يحيي فيها عذوبة العشق عبر عبودية الروح .
وذلك عندما يكون الحب دائما هو الاحلى . عندما يصير يتعالى على جراحه النازفة فوق ربى تخبطاته الجنسية ، وصور الحب العالقة في عنق زجاجات ، لم تخل قط من بقايا خمرة معتّقة، اشبعتها رحى الايام لثما ، حتى نضت عنها الثوب ، وودَعتها حرة طليقة لا يكسوها سوى جسد ، مشربّ بحمرة تدعو الى الحب وممارسة ألوانه. .
كيما يتواصل طعم الكحل في لغز امرأة ، لم تنثن أعطافها ، الا حينما سقط جسدها ، قبل أن تهذي نسائج اثوابها راعدة ، اثر رعدة اوصال فيها ، امتصت فيها كل شوق الى رحيق الهوى ، تريقه فوق فراش محبوب لها .
( 157 )
استعبدها قلبه ، قبل ان تستذلها أعماق أسلحته وأنفاس روحه ، حتى تركت له الخيار في احتواء ما يشاء منها ، ومصادرة كل ثوب يكسو عريّ أيامها ، واستلابها كل غطاءة تحتوي عنقوديها ، يمكن ان ترسم لها قناعا يمتد فوق صدرها البلوري، يمسح آثار نهديها المترفين ، يكسح الحياءَ المنبثق فوق حلمات كُرَتَيهما المنجمدتين . .
لكن صوتا شفيفا كان يتصاعد من اعماقها :
ـ تعال الىّ ، هلمّ ولا تدع فيك شيئا يتثاءب او يتقاعس ، اعلن في كل اعضائك النفير العام ، فلا نومة لليوم قبل تحقيق النصر الاكيد ! كيما تزيل فيك الاشياء كل صدأ علق بفوّهة احشائي . . حتى يصير لون الحب هو الاحلى ، ولون العشق هو الاحلى ، ولون الجنس هو الاحلى ، ولون الصدر ازهى ، لان لون الورد حينما تنحسر اوراقه ، تتكشف عن برعمها الحقيقي ، ليكون جمالها هو الابهى !
( 158 )
فما انكشف من عمر جسدي ، كان هو الاحلى ، ولون ما اجتمع من جسمي هو الاحلى ، لان لون العطف الذي تسجد في خلاله ذكورتك ، لم تكن لترسم فوق جيدي سوى اشارات وعيٍ ، تخضّب بها سنا قلبك وروح يومك. . وذلك حينما يشتاق كلّ ما فيّ الى لون القلم الذي تسطّر به ملاحمك ، من قبل ان ترسم لك أنوال القدر نسيج ملامحك المرهقة . فما كان للون الحبر الابيض أن يخط فيك لون حساءٍ لعشاء أرقٍ ، لم تغادره لحظات عمر فُنِيَت لذائذه قبل عقم سحائبها الذاوية . .
كما ترنو في عمر كهفي ، خطوط قلمك الممشوقة ، كصقيل عذبٍ من حسام ليل ، كان لمثله ان تتورّد اطرافه ، بفعل نزيف الدم المسفوح من أعلى هرم في جبال اوطاني الداخلية . . .
فما كان ثمّتَ من ورق عشب ، لم تنبت براعمه الا في رحم ، استولد للمتعة اقطابا تشحذها الايام الممطرة ، والتي كان طال انتظار هطولها ، ولمّا تزل تُغرق أهوارَه المتهادية بقصبها وبرديها. . وما برحت حبّات بَرَدِ صقيعه ، تورثني مرح متعة وريح شجن ، كانا سَحَقا فيّ كل وسَن ، تفيّأ أضلعي ، واستظل برفق ودّي وحناني .
( 159 )
ولكن . . ران عليها سكون مفاجىء ، غمرها الحياء . فوقف منها موقفا مبهوتا ، حينما كانت حروفها ، ، تعالج فيه كل وقاحة ، راحت تتدافع بهولٍ . . مما جعل الحِذر يرتسم بين حاجبيها ، وتعبر من خلاله عن كلماتها المستفيضة :
ـ وان بإمكان أسباب هذا الحب الذي يجرجرني الى ناحيتك ، أن تعشعش أوراده بين أوكاره أبدا ، حتى لا يعد لديّ سبيل ، كيما أغامر بكل وليجة تربطني بك ، وأقطع بإبرامها مع دخائلك التي بتّ اشعر أن رمادها مخبوء تحت رمالي . . فاذا ما لامسَته الريح ، اشتعل جمره لهبا ، يتشظى تحت أضلعي !
( 160 )
وقف أمامها مشدوها ، كان ينظر اليها بشدهٍ غلب على قسماته ، لم يظن بها حتى الساعة ان لها ان تحمل في قلبها كل هذا العقل ، بل انه ما كان ليظن ان بميسور حالات الجنس الجميلة ، أن تنعكس فوق رحى كل الشآبيب التي لها أن تترى متناغمة ، لتنصب متمازجة كشلال عذب ، تبذله ينابيع انطحنت مياهها في حلمٍ ، فاض من بين شفاه فتاة عذبة ، كان لها ان تُغرق النسيم بخصب نظراتها النهارية ، وتُسهر الخليل بصخب فقراتها الليلية.
جعل يرنو اليها كما يرنو الى قرص شمس ، لا يقوى على التحديق اليه . شعر بأنه يجهل عنها الكثير ، بل انه يحتاج الى زمان بعيد ، كيما يفهم سر هذه الفتاة العظيمة ، فقال لها :
ـ ستصيرين أنت الاحلى دائما ، انك احلى من الحب ، واحلى من الجنس ، وأحلى من جسدك ، واحلى من نهديك ، واحلى من صدرك ، واحلى من ثغرك ، وأحلى من قلبك المضموم بين جناحيك ، وأحلى من قلبك المحفور بين ساقيك ، وأحلى من عذب ماء عسيلتك ، والمسيل عبر أهداب وَسَنك الغافية عند قوسك غير الآفل . .
( 161 )
بل ستصيرين أنتِ أحلى من تفاحتَي خدّيك المنتفخين فوق عالي ردفيك ، كما أنتِ أحلى من خدّيك المنحوتين في رسم وجهك . . ولأنتِ أحلى من نقاط الاثارة المزروعة فوق جسدك الممتد رائعاً ، كما يمتد العالم بعيدا بالغدو والاصال عند ازورار لحن خطوّك، واعتصام نغمها السابح . .
كما انتِ أحلى من مفرقٍ ، ينحدر واديه ما بين قبّتي نهدين . . كما انتِ احلى من وقع ساقيك البيضاوين فوق كتفي ، وأحلى من مسّ فخذيك الممشوقين لجانبي ساعديّ الذي يصير يحتل من دلتاهما موقعا راصدا . . وأحلى من ورق بشرتك ، حينما تلثم أصابعي غور فقراتك السامقة ، وهي تجاهد صُعدا في نشر خصلات شعرك المنسبلة فوق كتفيك ، تدعها تسترسل ، كيما تتركها تهوي ، فتستفيق عند بياض ظهرك اللامع ، وصبح صدرك العاجي ، ترسم عذوبة رمزٍ لنهدين لصيقين ، استترا في الجانب الاخر من برجك السامي ، حيث تصطبح وردتاهما عند شفق آسٍ . .
( 162 )
متسائلا :
ـ فكيف ضاع الامتداد عندهما ، فلم يفُزا بسمو ذينكما الثديين السامقين. . فظلاّ عريقين في بطاح الجسد ، قواعد محدقة كالجبال ، عركها الزمن فغدت كالرواسي ، تحمل في أعلى صاريتها رمّانتي صدرها . . واللّتين يسّابق عندهما أصول شلال عنقك الضافي الشطآن ، والصافي الضفاف . . ثم بعد هذا ، فأنتِ لأحلى من الحب والجنس ، لأني ما زلتُ أراكِ ليلى التي لم تزل ليلى !
( 163 )
كذلك هي الاخرى كان لها ان تعيش حالة ، لم تكن باليتيمة المستحيلة عندهما ، الا أن هذه الحالة ما كانت لتعاني ضائقة اليُتم في عقر خَلَديهما ، الا لأنهما لم يبُحا بكل ما تفتّق عنه وعيهما من صريح الانبهار ، من سحر بيان قلبيهما الأخّاذ ، حتى كان لانعكاسات ذهنيهما الواضحة ، أن تجلو سحابات من الغبار ، أثارتها موجات الحزن المتفاقمة ، بفعل موجات الفرح المرتفقة. . لم تكن تصدق هي الاخرى ، مثلما كان هو الاخر قد خفي عليه سر ودائع امرها ، فكانت هي الاخرى لا تقوى على التصديق والاذعان ، بان ما يفوه به هذا اللسان من عِبَر وحب ، وجنس ورشد ، انما يعود فضله الى صاحبه الذي تراكب وحي روحه ، وتصاعد وعي سُورِه حتى اصطفقا في شخص هذا الذي يمكث الى قبالتها .
فقالت :
ـ انما الحب ليلى ، والجنس ليلى . . وكلاهما لا يقوما الا اذا حل الليل على ليلى ، ونفض الصبح موعده فوق ليلى ، عندئذ تتنشق ليلى وفي كل المواسم والفصول ، وفي كلا الليل والنهار ، وفي وضح الاخير وطلعة قمر السواد ، فضول تطلعات نهارٍ هرم ، مال قمر ليله نحو السواحل النائية . .
( 164 )
ثم استدركت متشاعرة :
ـ وهي ما تزال ترتقب عمرا ، هامت أيامه على وجهها بين الاحراش ، تفتش عن نهديها الضائعين بين أحداق الشمس ، ترمق ضوء القمر الناصل ، ترنو الى الليل الذي يظل لونه يتثاءب ويتساءل حزينا كعندليب توجّس في صوته بحراً من عبرات الصمت الموحل في ليلة دهماء مقفرة . .
إلاّ انّ ليلى ما كانت تشك ، بان حبيبها الجميل ، ما يزال يغفو عند الضفاف الاخرى ، تلك السواحل السابحة خلف عمق المسافات الساحقة.. يضم شوقه الى جنبه ، ينطوي على شذى آماله ، ينتظر طلوع ضوء البحر ، كيما يقلّه جَزْره ، فيركب موجه ، ويمتطى أواذيه ، ليركب ليل بركان الغرام الذي له ان يصول بسيف هذا الحبيب . .
والذي ما كان هو الا حبيبي الاسمر! بطلعته الوسيمة، وقامته الرشيقة . .
( 165 )
ـ أنتظر منه ان يفك ربقتي ، ويكشف عني ستر الاغلال ، ويزيل ما أوهنها من عهن ، تسربل فوق اغلال ثديٍ يتيم ، نفرت شفاهه في أسفل الوديان . .
هناك ظل ثديي اللذين ما زالا يجابهان كل محاولات النيل منهما ، في فرض حالةٍ من الانفصال عنهما.
فقال لها وثغره باسم :
ـ غير ان القلب ميّال وعلى الدوام لأول حب ! حتى ولو بلي ثوبه ، وعتق ازاره ، وانحال رسم ألوانه الى أسمال رثة ، أو أوصال مهترئة؟ !
ـ وهذا هو رصيد الحب الذي لا يفنى .
ـ رصيد الحب .
ـ لان الجنس يحمل له رصيدا في قلب المستمتعين به . . فكلما كانت ودائعهم اكثر ، كان للجنس نصيب أكبر .
ـ لكن . .
( 166 )
ـ وما كان غير كذلك واشير اليه على انه حب مخلص ، فهو حب كاذب . . لان المحب لمن أحب مطيع !
ـ جميل !
ـ واذن ، فانا ادعوك لحفل عشاء ، يكون جسدي فيها مائدتك ، ومأدبتي لا ينبغي ان تكون الا في ساحتك . . غير اني اشترط عليك شرطا واحدا .
ـ وهو ؟ !
( 167 )
ـ أن اكون في عصمتك مدة ممارستي للحب معك ! !
ـ ؟ !
ـ يعني . . اني لا أحب ان أتردّى في هاوية الزنا . . لاني لست بزانية . . فانا لست بالحقيرة يا هذا ! لاني احب الله ، والله لا يرضى لي بالسّفاح ، لانه يعلم ما يصلح لي وما لا يصلح .
وانا ما كنت الا عاجزة عن ان ابلغ موازين الحكمة في تقدير كل اموري ، النافع لي والضار . . مع انه لم يسلبني عقل الارادة ، ذلك انه رحيم يحب الراحمين، فاني لأرحم بنفسك، كيما يرحم الله بحالي ، وانك لترحم بحالي كيما يرحم الله بنفسك ، فيسلط قلبي على قلبك ، يداوي جروحه ، ويلثم قروحه، ويدفع نكأته، ومن ثم يقوم برتق فتقه . .
بل وليعمل على اكثر من ذلك حينما يهتم بحبس سأمته وتفتيت روعه واستعادة حلمه . .
ـ ما شاء الله كم انت بليغة وواقعية حتى في احلامك !
( 168 )
لكنها ما تزال مستدركة :
ـ فلا تفكر بي الا من حيث فكر بك الرب تعالى ، فمنحك القوى الجنسية كافة ، والقوى العقلية كافة ، لانك ما كنت لتكون لولا الله . . فلو كنتُ أنا الرحم لكل معتقداتك الجنسية ، ولو كنتُ انا الرحم لكل همومك النفسية ، ولو كنتُ انا الرحم لكل آلامك العقلية، تنفث في صدري كل أشجانك وآمالك ، وتلقي في قلبي كل إحباطاتك واسرافاتك حتى اسفافاتك المتشاحنة . .
فاني والله ، ما كنت الا شعبة من شعب رحم الله في ارضه ، وهي انسانية قلب ، لم يخل من فطرة ، نقع الرب بها سلوى لياليه ، واسعد بها مهوى نهاراته ، لان الله قد زرع في قلب كل امرىء رحما ، لا يلد ما فيه حتى يرجع الى بارئه ، كيما يكون سجلا راسخا ، ينطق بالحق على صاحبه، يصير مستودع كل ملفاته واضباراته ، يحكي لون كل صيحاته واجتراحاته ، ويفوه بكل قول وفعل وتقرير وخطرة رسخ عليها فكره !
( 169 )
حتى هتفت به قائلة :
ـ انه كصندوق الطائرة الاسود ، فما ان ينتفي وجود الطائرة قهريا ، حتى يهبوا للبحث عن صندوقها الاسود ، من اجل العثور عليه ، والوقوع على أسباب تحطم او انفجار او سقوط الطائرة !
كذلك القلب، مستودع الفطرة ، ومستسر كل الاسرار ، فمتى ما انفجر الكائن الجسدي كان للبرزخ ان يحفل بصندوق فطرته ، لانه مستودع اعماله ونياته واخلاقه ، وصيغ تعامله وما يثبت ولا يثبت انسانيته وطيبته !
( 170 )
عندها سيبحث المنكر والنكير في اضبارته وسجل اعماله ، من دون النظر الى جنسيته وهويته ودينه ومذهبه . . هذا ان لم نقل ان مثل ذلك هو الاخر له ان يُبحث ويدرس في جلسات لاحقة ، الا انهم لا يقررون دينه الا على ضوء ما يجدون لديه من نية وخلق وانسانية وطيبة وعمل ! عندها سيسجلون هم وبانفسهم عنوان دينه ومذهبه ، وطبقا للمعايير الخاصة لديهم . .
ولربما كان مسيحيا فيقيد هناك مسلما ، ولربما كان شيعيا ، فيقيد هناك بوذيا ، ولربما كان سنيا فيقيد شيعيا ! وهكذا طبقا لما يلفونه من نفسياته واعماله ، حتى يلحقونه بما يتناسب معها ويتطابق ! من دون التوجه الى دينه ومذهبه الذي مات عليه !
بعدها كان يحاول ان يضمها الى صدره ، القت برأسها فوق كتفه، جعل يفرك شعرها ، صار يحل ضفائرها ، يشم عنقها ، يمسح رقبتها بشفتيه ، يهمس في أذنيها :
( 171 )
ـ احبك . .
ـ انك تغازل في اثناء المعركة .
ـ اني لأشتهيكِ .
ـ هذا محض افتراء لا اكثر .
ـ قلت اشتهيكِ .
ـ انك لا تشتهيني . . ولكن تشتهي ما عندي!
ـ وهو أنتِ . لأني عندما اشعر ان هذا الجسد هو جسدك ، اشعر بأني في اسمى درجات التطلع نحو الحياة .
ـ لا تنل منه شيئا ، الا بعد أن نفصح كلانا عن رخصةٍ ، حتى ولو كانت مؤقتة يضيق فيها الوقت لأقل مدة ، او يتسع فيها لاكبر مدة ، ننالها كلينا ممن خلقني وخلقك !
ـ تقصدين ان أعقد عليكِ . .
ـ عقدا زمنيا . .
( 172 )
ـ أوَفي ذلك غنىً لنا عن مطاوعة مشاعر الحب والتقيّد بجزئيات الشرع . . ان الحب اكبر من الشرع ؟ !
ـ لقد أنساكَ الزمنُ عمرَ الحب نفسه ، لان الذي برأني وبرأك ، هو نفسه الذي خلق دقائق الحب ، وهو نفسه الذي علمنا كيف نعشق الحياة في غمرة من الطمأنينة والزهو !
ـ قد غدوتِ شاعرة !
ـ ربما !
( 173 )
بعد ان فلّ ضفائرها كان شعرها قد انتشر فوق ظهرها ، جعل يحيط كتفيها بيديه اللتين امتدتا الى خلفها.. ترك اصابعه تحل قميصها من الوراء. . تحسس عندئذ دفء ظهرها . . سحب ثوبها الى امام ، تركه يسترسل في السقوط ، سحبه شيئا قليلا حتى انثنت وهي تتلوى بين يديه ، تتمطى تحت سطوته ، حتى جعلت تتأوه في دائرة أوطانه . تنفس اوجاعها بين ثنايا أعطافها . ضمّها اليه ، عانقها بشدة ، فتكاثرت خصلات شعرها امام وجهه مجتمعة ، فجعلت تداعب صفحته ، صار ينشق عبق رائحتها .
اغرقت ذاكرته بعطر اريج ، ظل يسطع في مخيلته . لم يدر كيف راح يهمس في سمعيها ، كيف صارت كلماته تنحدر اليها باطمئنان :
ـ ما زلتُ اذكر كيف كانت خصلات شعرك تنسدل عند عاتقيكِ ، وتنحدر برفق وتعال فوق كتفيك ، كأنما راحت تخلد الى بساط الهوى ، في لحن لا مثيل له ، مسترسلة بتراخ وكبرياء . . كموج سابح في عرض الدسد ، وهو ما برح يغرق في لدونة أعطافه .
( 174 )
ثم استغرق في شاعريته :
ـ ولقد كنت اذكر اصابعي المُشفِقَة حالئذ .. كيف كانت تحاكي وحي المسامات في اديم وجودك وهي تتنشق عَرف بشرتك الطيبة وتتحسس رائحة جسدك الشهية ، ولمّا تزل بعدُ تصافح شحنات الشبق الكامنة والمشتعلة فيها حين عذّبها الشوق الملتهب ، وكابدت كل انواع الغليان ، حتى صابت تتبخر لتتكاثف ، كحبات العرق التي كان لها ان تعانق لغة تجري مفرداتها في عروق الدم في كفيّ ..
( 175 )
وإذ راحت تتفاعل هي كالمضطهدة التي تروم لها خليلا ، ينتشلها من وهدة الصقيع والضياع ، وهي في غمرة الرمضاء والقائظة ، فقد بَدَت تتقلّب هاتفة كالتي تصرخ مستغيثة ، حتى انفتلت ترتدف ، وانقلبت كالصّرّيدة التي اعياها مثول الحب امام عينيها باردا ، كالموت . . كمثول الزمن حيال ابطاله ، وهو يأبى الحركة والإبحار بهم نحو الشواطئ القصيّة ، والتي ترتسم بشوق ووجل ، داخل احداقهم الذهبية اللامعة .
كنتُ وما زلتُ كلما رأيت سفن الغمام الابيض تنهش في آفاق السماء ، وتنهب عبابها كيعابيب ، تبحث عن حظها بين الانواء جميعا ! ولقد كنتُ أراها كأنها جذعك المائِس والصارم في آن واحد . . والذي الفاه ينتصب ، كلما تقومين وتتوثب لديك النزعات ، وكأنك سماء تقطر شبقا وشهوة . . فتدفعين بي اليكِ ، كما لو كنت تجرّين بي صوب اصلاب ظهرك ، وينابيع صدرك ، وذلك من حيث تدور بي الدوائر ، لأجدني وجها لوجه امام ليلى ثانية ، وهي تميس بجذعها الذي استفاق حيالي كجبل عركه الزمان فغدا كصومعة مقدسة . .
ـ يرتادها الجميع . .
( 176 )
هبط عليه كلامها كصاعقة ، سارع الى اجتثاث اثارها :
ـ لا . . ولكن يحتمي في ظلالها كل المحرومين من الشرفاء !
كانت عيناها ساهرة في محياه ، غاضبة في لوعة، دافئة في وجد . تحسس عذب نظراتها ، سوسن يختصر سنا تطلعاتها، ريح تعتصر الدمع في حضن آماقها ، سحاب أفق يسومها أرق رصَد وعذاب. وفي لحظة واحدة تركته ، توقفت عند النافذة ، أزاحت ستارتها ، نظرت الى الخارج ، انتبهت الى مآل لم تنهض لاجلها ، ولا في أي يوم مضى ، أحس بها كذلك . .
كان يراقبها جيدا . . تطلع الى جسدها ، تفرس في بياضه ، كانت حمالة ثدييها صفراء اللون ، بينما ارتدت سروالا احمر غامقا . كان بريق بشرتها يطوّح بلحاظه التي جعلت تتمرغ في شعاعات جسمها . . لم يكن لتحفل رجليها بالوان عروق ناصلة ، انما كانت تتفجر صفاء لا ينم عن ايما كبر وتشتت في سني العمر .
سر دفين كان يدفع به الى غور تألقاتها الخفية.. انها ساحرة . . حتى في إبائها ، جميلة هي حتى في صلافتها . . التفتت اليه ، شعر بأن صدرها يكاد يطفح لبنا عذبا ، كان نهداها محبوسين تحت جناحي فراشة ، ارتسمت فوق صدرها ، كنسيج مخطط لتركيبة زخرف، نفحته ريشة فنان انطباعي . بينما كان ثراء ما اكتنزا به واضحا أبيّا، تجلّى في اهتزاز روح ، جعلت تنضح بلون مرح ، كان قد تأصّل شيّقاً في ثقل ثدييها . .
( 177 )
كانت تناضل ، كيما لا تسمح لبطنها بالالتصاق بظهرها ، لم تكن هزيلة بل كانت ممتلئة ، ولكنها كانت أشبه بمن اهتمت بالحفاظ على خصرها مرنا ، كيما يظل متينا لا يعتوره التهدل . . غير انه لم يكن ليخفى عليه، ما كان قد استفزه من عجيزتها ، قياسا الى خصرها.. حيث كان ردفاها مكتنزين باتساق وتوازن بديعين !
ولقد كانت تحمل بين ثنايا قالبها البشري فن ساحر ، يتمنطق بخصائص سامية ، يمكن ان تمتلكها امرأة تفوز بلقب ملكة الجمال، كانت حازت على اغلب شروط التفوق في مسابقة ملكات الجمال في العالم . . لأنه كان لها الشرف ، كل الشرف ، في ان تحظى بأبهى خطوط البهاء التي اختطتها ريشة الخالق ، وحفرتها في كل ولادات غنجها الغنّاء . .
انها كانت تسخر في قرارة نفسها من لحاقه بها.. كان يتصور كذلك. . بينما لم يكن ليدور في رأسها سوى حبه . . كم هو نقي هو هذا الحب، وكم يحتاج من وقت الى تصفيته . .
( 178 )
الا ان وركيها كانا قد حالا دون تفكيره ، بما يمكن ان يدور في مخها ، حيث كان سروالها الداخلي يخالف لون حمالة ثدييها . .
غير انه لم يكن لينتبه الى هويته.. فلقد كان شفافا ، يشتمل على نسيج متداخل من خطوط الخيط المتصالبة ، تلاقحت فيما بينها حتى احتدمت في مسارات متداخلة ، كشبكة هدف لكرة القدم . . فبان من ورائه ألوان سواد ، تشع في اضطراب، قد تكاثفت في بؤرة حادة ، اشتملت في مركز رمحها على مجرة ، سقتها بفيء ظليل من وضح السماء المغرقة بليل عات ، حالك السواد. . غشتها غمامة نبعت من ليل غابت فيه الانجم ، وتمطى فيه كل ضباب أدهم ، فتلبد في أديم سمائه كل غيم وغمام !
ولقد كان لون نسيج سروالها المشتبك بصلبانه ، يتفاقم ما بين الحين والاخر ، حتى كانت ألوانه تفعم بألق لم يحس به من قبل ، حيث ظلت معالمه ، تبعث في رأسه ثورة من ذبذبات صور الأزُر الملونة ، والمقضّبة بكل ما يوحي بدورات انعاش القلب . . كان فخذاها صقيلين ، صامتة هي ساقيها ، وقحة فيهما كل تلك التساؤلات التي أثاراها في رأسه . . انهما جميلان للغاية ، بل عذبان . .
( 179 )
كان يشعر انه يراها لأول مرة ، فما كان منه الا أن يزحف اليها ببطء ، ولقد تحفزّت هي واهنة ! ترقب صيحات جسده المهشمة أطرافه عند صخور شواطئها . . أمعنت في خطوّه المخطوفة ، ترقب فيه انتهازية نظراته الغائمة ، ووقع احداقه الخافت . أجالت الفكر في مخيلتها، كما تجوس ضربات صاخبة عبر أنفاسها الراقصة . . عندها كانت أصاخت السمع الى وقع اضطراب ، نما اليها من لحاظ قلبه ، فتأكد لديها ، ان لخفائها غرور ماكر ، فقالت له ، وهي تعي دورها اكثر من أي مرة مضت :
ـ حقا ، انها ليست بعدالة .
ـ ما هي . .
ـ انه ليس من الفطنة ولا الحكمة !
ـ ماذا تقولين ؟
ـ ان تثب خفية لمبارزتي في حرب جنسية ، وتدعوني الى مسابقة في الحب ، وانا لم اكن قد تمرست عليه الا قليلا ، وعبر طرق بدائية..
( 180 )
بينما انت ما كنت الا محترفا ، مرس على الحب بكافة اغراءاته ، ونشط في سوابق كل منافذه وطرقه ، ودرج على استياق مختلف ضروب الوانه ، حتى كأن الاقدار تمتحن في روعي قدرة جنسيتي ، فترى كيف لها ان تغلب متانة ذكوريتك . .
وهي التي لم يكن لها من التجربة سوى ليال ، لم تشرق الا من خلال موج ظلمات سحاب ، دامسة هي كانت قزعاته . ولكن مع ذلك ، فكبرياء تجربتك ، ستسحقه قوة سليقتي ورهفة ذائقتي ، مع ما عندي من ضعف في التجربة ، وقلة في سنين الخبرة . .
إلا اني سأسحقك جنسيا ، وأهزمك بكل ما أملك ، حتى ساُشهد الثقلين على ان ما لدي ، هو بامكانه ان يدع ما عندك يصغر ، حتى يبلغ أدق مساحات الاضمحلال والزوال ، ليسجد عندها له ويسلم تسليما. . سأترك ما استقبلك من ظاهر ألَقِي ، والناطق برسم جنسي، أن يجذب ما لم يستدبره جسدك ، مما تود ان تناطح به وجه عذراء ، اغتصبتها الشياطين في ليالي حالكة الظلام، شديدة البرودة ، قارصة الالوان . .
( 181 )
في حين ظل يقترب منها ، حتى باغتتها يده ، وهي تنشد طريدا لها ، انسل الى وراء جدرانها ، دس يده تحت سروالها ، زحفت أصابعه الى ورائه . . غام سطح غمامها الاسود الذي كان يمرغ لون سروالها تحته ، بكل ما كان يعكس دور كفه في النهوض بواجبها ، ومهامها الملقاة على عاتقها.. كان ابهامه يحاول ان يلطم عُرف ما نجم اسفل بطنها ، وهو يتمطى تحت ضربات الهمس التي صارت توقعها فيه أنامله .
أحست بها كصعاليك موهوبة تحوم حول بيت رحمها ، تنادي شوقا الى امتصاص عذب ما له ان ينضح من عين ينبوعها . . كأنما عين الحياة غدت ترسم لها عذب اللقاء في غِيرانٍ ، امتدت سحيقة ، خلف ظلال تلك الاصابع التى التصقت بعانتها . .
كان يشعر بأن كل شيء فيها كان يرتجف . . يرتعد . . تهتز هي أوصالها ، كان كل ما فيها عطِش ظامىء للون من ألوان الحب . . مما لم تكن قد حظت هي به ومن قبل . . حتى اذا ما استقت من شاحب رشقاته ، هالها ما خفي عليها من ناضر سهامه ! شعر بأن نهديها يناضلان من أجل حريتهما ، جاهدت في تمزيق حمّالة ثدييها ، لم تتمالك نفسها . . لم تتأخر حتى تفك عروتها العالقة وراء ظهرها..
( 182 )
فلما استعصى عليها تمزيقها، سلختها عن جسدها مثلما تنسلخ احدى الموجودات الحية عن غشائها الملتف حول رياضها ، في احدى أدوار استحالتها ! القتها بعيدا عنها . . مطّت من حزام سروالها حتى صار سهل عليه ان يخر ساقطا ، كاشفا في ورائه عن جملة من أسرار غابة من غابات جزر ، لم يكتشفها الفاتحون ، ولم يطأ أرضها الرّحالون !
فإن عرج عليها الغزاة من قبل ، ولاكثر من مرة ، الا انه ما كان لاحد من الخبراء الجحاجيح، أن يغتنم فرصة فهم عبقريتها ، فيقع على سرّ خلودها ، وعظمة ما اكتنزته في داخل خلاياها ، وأثيث ما اشتبك بعضه بالبعض الاخر من حراب وأحراش متكاثفة . . تصاعدت ذوائبها كالشاردة، الشعثة بجمالها ، الطروبة بخيلائها ، العائمة فوق سطح المياه الشوقية ، كالهائمة فوق مدرج من سحب ورقاء ، تقضّى عليها زمن وهي تعيش في قنّة جبل، اكتسى برمال خصبة تنب شجر باسقة السيقان . .
كانت قد أخفت وراءها غار من الغيران ، لم يقو أيما غار على منافسته ، والفوز بجلاء علوه ، حتى انثنى ثغره كبوابة تشرع بمصراعين ، لا تزال مراصدها التي أوصدتهما الا بكلمة رمز ، انثال روحها في ظل سحنة ، تكاشفتها سبيل خاصة، لم تتظاهر مع انشعاباتها الا على اجتماع فتات قمامة من تبر ، لم تهزها الريح حتى ارتقت لها مكانا عليا ، فانتخبت لها موضعا مستنيرا بأحلامه .
( 183 )
ولكن ، كان قد سقط ظل جسدها ، ومن قبل أن يرتمي طرفها عند أنبل ريح ملاءة ، التهمتها عيون الاثارة ، كيما تدفع بها بعيدا عن ساحة البركان المتفجر ، تركت كل قطرة مادت بثورة عَرَق ناضح ، ظل يسترقه ليل الصيف المنحدِر ما بين نهديها ، يموج على جنح التفصد في مسامات صدرها المنتفخة ، تلفح مدامعه كل غدائر لم تغد كالغضون بعد ، من شدة لهب ما استشاط في عرين جنسها ، لم يلامس الاحساس فيها الا كل احساس بالشهوة ، مما لم يكن له ان ينضب أبدا ، طالما هي نبضات ثأرها .
( 184 )
ظلت سافرة في تشتيت علياء صوتها ، وهي تجهر بكل ما يدعو الى تفجير أنّات ألحانها ، وذلك ابّان كل غسق وغبّ كل وسق ، حينما يكون لهما ان يحيلا لون عشقها الى بسمات عطر شفق وشمس اصيل ، لها أن تكتسح سُبحات فؤادٍ ، أعرش في نجمه قضاء ، لم يتقاطر في ليله أيما طعم لسوادٍ مدلهم . .
صار وجدها المنعطف على ريعان هامته ، ينثر عبق الشعر ، واثر العرق فوق راحتيه ، توسدت يده، ارتخت اعضاؤها ، تساكنت مناوشات هيجاؤها الثائرة ، وتصاعدت حمّى أنفاسها المتراعدة . .
مال عليها بشفتيه. . طبع فوق شفتيها قبلات عديدة . . مسح فيه في خديها ، مرر اصابعه فوق وجهها، لحس جفنيها ، داعب أنفها بأنفه . دسّ حبه في نهديها، وذلك حينما قبضت كفه على احداهما ، حتى شعر ان الاخر يرتخى تماما كيما يستقبل قبضته الاخرى..
( 185 )
أحس بأن حلمتي نهديها تستيقظان، فلم يمهلهما كيما تنهضان رويدا رويدا . . فعانق برعماهما أصابعه التي اقتحمت عليهما خلوتهما . في حين صار يشم مساحات جسدها وهو يغزوها الواحدة تلو الاخرى ، حتى امتدت أكفه اسفل ظهرها وهو يعانقها من علو ، حاولت التملص والانفلات . . الا انه احكم قبضته . . ارتخت ثانية . . دس قبضته بين قائميها الممشوقين ، شعرت بلون من الحرارة يكاد يسري في جسدها ، وتئن تحت سعرات غيظه . غير انها تمالكت مشاعرها ، فامتنعت اللحظات المنعقدة عند رجيع انفاسها عن تسجيل أيما ردود فعل ساخنة . .
( 186 )
وبهدوء امسك بعنق أحد ساقيها ، فطبع عليه قبلة ، سقاه فيها حرارة شفاهه . نحّاه بعدها برفق ، حتى استرسل منثنيا على قرينه ، عندها طبع على عجيزتها الغارقة في عزلتها قبلة أخرى ، ثم جعل يتنفس أديمها ، كذلك صار يدغدغ مقدمة انفه ، وشفاهه حتى خدّيه تركها جميعا تغازل خدّي إليتيها المنتفختين بكل غنج ودلال. ثم جعل يقرصهما بشفاهه مرات ومرات ، حتى فاز بنصيب الاسد من ريع جمالها الثاوي ثمّة ، وهو ما يزال يناغم لحاظه في لثم معطيات ظاهر ردفيها الساحرين . .
بعدها سحب ركبتيها الى صدره . . قبّلها هنا وهناك ، ثم جعل يلثم باطنهما المعروق . تحسس عندئذ رقة بشرتها ثمّتَ ، والمكتحلة بأول قطر الندى ! انحدر فاه الى ساقيها اللامعين، ثم عاد يعرج بشفاهه كي تخلّف في قبّتي ركبتيها السامقتين عدة آثار ، نسجتها خطى فيه فوق مساماتهما المتوردة . .
( 187 )
سألته ان يقبّلها في سرّتها . . احتضنها . . سحب ما كان يغطي عانتها ، انسلخ عنها ما كان يلتصق بها ، حتى فاض عليه بلونه المنفرج عن الوان أخرى . . دفع بيديه تحتها ، تمادت حتى ارتكزت رماحها خلف ظهرها . . ضمها الى صدره ، انحنى على سرّتها ، فسعى الى وأد مقدّم شفتيه في غورها ، دون ان يكون بميسوره ! . . فجعل يلثم باطن سرتها ، كمن جعل لا يستكين ، غايته ان يحل ربطتها التي انعقدت هناك منذ ولدتها امها ، فكانت تنهره ، حينما آذاها خصامه . . حتى اصابها بقشعريرة من بسمات ، اتضحت له كضحكات راعدة ، تنفّستها على عجل ، كما لو ارتمت راغمة ، ثم تعاقبت عذبة ، سلّتها انفاسه الجفلى !
( 188 )
بعدها . . قبّلها في صُدغيها، وجعل يمسح باصابعه المنفرجة قذل رأسها ، يدافع بلسانه حالة يواكب معها مسيرة شفاهها ، كيما يدعه يحطّ في مرآة ثغرها ، فجعل يداعب شفاهها ، يصارع اختلاجاتها ، يحاجج مماراتها ، ويداهن مناكداتها المتلاحقة ، حتى صارت عذوبتهما تتثنى تحت ارتماسات فيه اللاهبة والذي ما افتعل ثورته الا للفوز بامتصاص رحيق فيها . .
فارتخى شدقاها ، وتراجع رأسها قليلا الى الوراء ، تورّد ألق مضغات فيها حين استفاق بركان ثغرها الفَكِه ، كما للحب ان يستفيق بكل ألوان السيل العرم . تسامت لمعاته الفضية بين ثنايا جوف حلقها ، وهي تصطبغ بلحن مسكوب ، لا يحنو على من يهب لاشتياره ، حتى تعرج آهات لونه صوب صورة ، لا تنحسر الا عن شفاه ، تكاد تنفرج عن عسيلة، يتوضأ بها المبتهلون . .
ولقد كانت حشرته يد السنون الالهية في ظل وجد بعيد ، أغرقته نضالات لم تخضّبها بالوانها الارجوانية الا حينما ايقنت ان ماء حياتها قد احتبسه لسان ثغر ، نام عنده كل الدفء ، واندس في حضنيه صوت نهد لم يربو على العقدين . . عندها ادخل فمه في فمها ، ودس شفاهه في داخل قنطرة شفاهها ، استرسل ثغره في زحفه ، كأنه لم يقو على احتلال كل العمق. . بينما كان له ان يشغل عمقا في اجزاء اخرى متى شاء. .
( 189 )
وعند ذاك كان له أن ينكب على فرَس ثغرها، يشبعه حقنات محمومة ، ويتناهبه عبر لثمات مجنونة . اشعل في صدر جوادها كل نزعة تمتشق سيف الصرَخات ، كيما تنوء بشظى نزَقها الراعب ، حتى التهب روحها بمُجون فاضح، لم تأنسه ، بل كانت تشفق على نفسها منه . .
ولقد استشاط لديها كل شبق ، جعل يمتطّ فوق سحنات قلبها، الذي وجدت انه ينبض في لسانها ، قبل ان يصدر تردداته في أي مكان آخر. . جعل يمتص الحب من فؤادها ، أغرقته بلون الورد .
وكلما كان للسانه أن يعض على لسانها ، كان لها ان تستشعر فيه لونا ما من المكر ، لا يحلو الا في ساعات نام فيها قلبها تحت اذرع ثغره عنوة . . استعذب ماء ثغرها ، لانه ألفاه كلبن نهديها ، الذي لم يرضع منه ، الا حين شعر ان أسنانه تلتقط حلمتيهما المتورّدتين برفق وأناة ، كيما يدعها تسخو عليه بنضح جُبٍّ غارت مياهه..
فلم ترفق بأيما ظامىء ، الا حين داعبها وجده ، وانثنى يتمطي فوق فوهات بركانها حتى انتصبت وارتعدت ، وبثت أنينها وصخبت . . أن ليس بها رعشة عابثة ، تطلب معها الكشف عما تحمل في قلبها ، من موج راعف ، تشبع به ثغرا ، كان أجحف به الشوق ، وحاطَ به الحَول ، لانها لم تلد بعد ، ولم تعش أيام حلمها ، كسائر بنات جنسها . . غير انها كان لها ان تلقمه شريان قلبها ، فتسكب في عمق راحتيه عصارات ، لها أن تنضح متى شاء الزمان لها ان تنضح وتسيل. .
( 190 )
بينما وجد فيها حسّا ، أوخز فيه سويعات لم تنم بعد في ظهر وعيه النازف خلف أعتاب الدهور التي خلت . . أيقن أنها تحمل لونا اخر من الوان الحب . . امتد قليلا الى اسفل ، انحدرت شفاهه الى صدرها ، تكتسح عرى بياضه وهي تحتسي لون صفائه. . حتى صار يقف بها على لون الحب في نهديها ، وهي ما كان لها الا ان تغرق في إغماضات باسمة ، تسرّح طرفها في عالم وردي ، تنتفض واهنة وتدافع ، ترفع عقيرتها ، تصطرخ !
وكان ما يزال يضغط برفق على ثدييها . . شعر بانهما ينزّان لونا طيب المذاق . . انه حبيبها ، فهي لا تهبه الا له . . بينما كانت يده تسترسل لتنتشر اصابعها فوق بساط من حرير، تداعت خصلاته فوق عانتها، حتى باغتها بقبلة فوق مكحلتها . .
ولكنها كانت تقدّر أنها قد اعطت كل ما لديها، فعسيلة سفح قممها الشمّاء ،كانت قد فاضت بشهْد كل أيكتها ، بكل ما له أن ينضح من روضها الحالم ، يتماطى سيبه مِن عال ومن دان ، وهو مع ذلك لا يكاد يشعر بالشبع من شلال عشقها، لانه كان تأكد لديه ، أنها قد منحته وأعطته كل ما عندها . . فأحاطها ثانية بكفيه ، وترك مساطرها تنسل تحتها ، حتى تلقّى عجيزتها بكلتيهما، وترك أصابعه تدور حول تفاحتي ردفيها ، فصار يحشر رؤوس أصابعه في أطرافهما المنتفخة .
شعر بأنها تمتلأ غنجا وملاحة . . وبرفقٍ ، قلَبها على بطنها ، وصار يعضّ عليها ، يقبّلها ، نشر اصابعه فوقها . . انحدرت نحو اطرافها ، ثم عادت لتشمل كل وركيها . رفع قدميها وقبّل اصابعهما الصغيرات ، ومضى كذلك حتى عاد ثانية يقبل بوابتها حيث يختفي وراءها عنق رحمها ، حتى كان للوقت ان يمضي دون ان يشعرا، دون ان يشعر ، أو يحاول أن يفهم انه كان قد بلغ أهدافه. .
( 191 )
كان قد ترك خطاه تندفع في أوجها ، تسترسل كالنهمة ، كيما تشبع ظمأ رحمها . بينما كانت اجفانها مغلقة ، وشفاهها مختلجة برعب وخوف ، وحلمتي نهديها متهالكتين . . تدافع أنفاسا غشيها لون الصبّ ، كما غشيها حلم سعيد ، ظل يتناءى عنها صوب البعيد من الامال المتعالية على كل الجراح الصامتة . . كل ذلك كان يتصرم ، وهى في غمرة من غمرات السبات ، كانت حية ترقص في احتفال بهيج . . ولمّا تزل تستنطق شفاه القدر ، وتصارح الرغبات بما اعتلج في نفسها من شبق ظلت تماري في استصراخه ، حينما كانت تستغيث القلب فيها من قبل، فلا يلبّي نزعاتها . .
غير انها الان ، لتجد ان كل شيء فيها يتحرك دونما توقف . . فلا تكاد تستفيق من مكابدتها أبدا . . وما تزال تنبعث صرخاتها ، حينما جعلت تتمازج سافرة ، كيما تصل نحيب انفاسها بأنّات آلامها ، تبلغ بها القمم ، فتصوّب بأحداق شفاهها على أسرّة شفتيه ، فما كان منه الا ان تركهما تستقبلان وشيع أنفاسها العتيقة ، كانت أطلقتها منذ زمن ، لم تقو على عتقهما الا اللحظة ، لانها كانت مثقلة ، تئن ساطعة كالمواضي المدفونة في أغمادها , ولمّا تزل تتطاول تحت أعباء السنين الخوالي . .
( 192 )
انسحبت اصابعه الى ما تحت إبطيها، تمشط المكان وتدغدغ بشرتها الملساء . . صارت ترفق بساعدها بعد ان انزلقت فوق زندها ، تلثم معصميها ، وتحيط براحتي أكفها، تنقرها برؤوسها الثاقبة حتى اذا ما طفح بركانها وتفجر . .
فلم تتسربل أفنان ذهنه بأيما ظن وشك، في ان جسدها كان السبّاق الملحّ في تعاطي الحوار مع انفتاحيته ، ولو كان قد شعر انه سبقها الى ارتياد مساحات أنوائها من قبل ان تساجله فوق مياهه الاقليمية . غير أن الحقيقة كانت تؤكد انها استفزّته ، وما كان لها الا أن تختزن واقع الحب رغبة عنه ، لا لشيء الا لان الزمان كان استغرق عمرها في التعرض لها والتشبيب بها..
فجعلت تتمنع على الاقدار ، تغالب تكرير مياهه المهترقة.. فصارت تستقي من غيث حرثها ، كلما راودها الاحساس بأن جسده ، ما يزال يعرش فوق سيقان شجرتها ، وان اغصانه ما تزال تحيط برُمّان صدرها ، وعروة عجيزتها المفتولة ، وكرتي إليتيها المنتفختين . . اللتين غدتا كأنهما نهدين ثريّين ، التصقا بعجزها ومن الامام ، بدائرة سرّتها المنجحرة . .
( 193 )
كان لها ان تنمو الان ، حينما يشتاق فيها الهوى الى معانقة الاغصان السامية ، والتي لها ان ترتفع عاليا ، فتخلف وراءها سنين التمنّع الضيزى ، وسني عدم التمنّع القهري ، كيما تجزل في اعتصار حبات صدرها، لترى السماء حينها تزهو بألوان الطيف الشمسي ، حين علقت بها قطرات ندى برعميها ، بعد ان شمخ الوصب في كبدها عالقةً ، كرقصات من ندى الذهب الملون بشفق الصبح الابيض ، حتى بان كلبن اختالت ذراته تحت جنح كل فجر آن له ان ينبلج صبحه . .
عندها راحت تزهو خيلاء بحبها التليد، تنظر الى قلبها . . كيف كان له أن يترجم آخر معنىً لنبضاته ، من قبل أن تسكن أصواتها الى حين من الزمان ، آخر !
( 194 )
وفي سكينة من الهدأة ، قالت له :
ـ لم أصارحك بكل شيء ؟
ـ ماذا ؟
ـ انظر الي جيدا .
ـ ماذا ثمّتَ ؟ !
ـ هل يمكن أن تكون صاحبة هذا الوجه قاتلة ؟
( 195 )
ـ قاتلة ! ماذا تعنين ؟ أي قتل هذا !
ـ غير التي قتلت ؟
ـ تقصدين غير الذي قتلتهم أنا . . ؟ !
ـ قلت : هل يمكن أن تكون صاحبة هذا الوجه قاتلة ؟ هل يتسنى لها أن تغتال من تحب ؟ !
نظر اليها بشرود ، راوده حسّ بالخوف ، لانه كان يفهم انها تعني ما تقول اكثر مما تعنيه غيرها . . الا انه شك في الامر شكا لا يحسد عليه . . قال:
ـ تغتالينني . . اليس كذلك ؟
ـ هل يسعني أن اكون كذلك ؟ قل لي ؟
ـ أتريدين العمل فعلا في جهاز الامن والمراقبات؟! أهذا ما ترمين اليه ؟
استرسلت في متابعته عبر احداقها ، قالت :
ـ هل أخبركَ الاخوة اني أعمل في جهاز الشرطة السرية ؟
( 196 )
ـ قلتُ لكِ . . انّا كنا نعمل على اكتسابك وضمّك الى الفريق ؟ غير انهم جعلوا يجيبونني في الاونة الاخيرة : أرانا قد تعبنا من اقناعها ، فانه وفي الوقت الحاضر ، يمكن أن نستعيض عنها بما لدينا منهن ، فيكفي أن لدينا منهن ، أربع في بيتنا !
فلما كنت أصر عليهم ، بفعل الاتفاقات السابقة في صالات الامن المركزي ـ الشعبة السرية . . وبفعل الاوامر الصادرة .. وبفعل الالحاحات والسرعة في تقديم التقارير الخاصة ، وضرورة عرض ما توصلنا اليه في هذا المضمار من نتائج ونجاحات.. او عدمها ! والاسباب الداعية الى ذلك . .
( 197 )
كل هذا ، كان قد صار يضايقهم ، حتى كان يأتيني الرد منهم سخيفا وللغاية ، وهو : انه ومع ذلك ، كنا قد طلبنا منها ، وبصريح القول ، بل أعلنّا لها مرارا وبصريح النهج الجنسي الذي ننتهجه معها ، أي بالصورة غير المباشرة . . وعرضنا عليها الامر كذلك أكثر من مرة، ولا زلنا نفعل ، ونواصل بذل الجهود ، الا انها ما زالت تواجهنا بالرفض القطعي والصارم ، دوما . .
ولو لم تفعل ، فان تقريرها للاشياء ، ونظرتها الى خصالنا، ومجابهاتها لنا ، فضلا عن طبيعة ردود فعلها العنيفة ، ازاء كافة تحركاتنا الواسعة ، كان لها ان تمثل أجمع ، مجمل أجوبة رفضٍ ، لا تعرف المهادنة قط . . صريحة وقاطعة !
( 198 )
فقالت :
ـ ولذلك كانوا يحرضون عشيقاتهن على مواصلة اللعب بجسدي ، ولأكثر من السابق ، حتى استباحوا انتهاك كل حرماتي ، واشتهوا العبث بكل جوارحي ، وظلوا كذلك . . حتى آيسوا من انضمامي الى فريقهم العاهر !
ـ أتعنين العاملين في جهاز الشرطة السرية؟!
ـ لا ! انما قصدت منهم الذين تسنموا ظهر هذا الجهاز ، طمعا منهم في ارضاء نزواتهم واشباع شهواتهم ، والوصول الى مبتغياتهم كيفما اتفق ، وكيفما شاءت لهم الظروف . . انما قصدت الذين رفعوا الناس على أكتاف هذا الجهاز ، وتوسلوا بكل مكر ودهاء ، وحيلة وبغاء ، وجريمة ومعصية ، واثم وجناية ، في سبيل الحفاظ على مصالحهم ولذائذهم ، والاحتفاظ بما يعود عليهم بكل نفع وربح .
ـ أقول : انك لم تخبريني بما أردت البوح به لي ؟
ـ هل تراني اختلف عنهم . . ؟
ـ بل عنا أجمع !
ـ فكيف يمكن أن يضم جهاز الشرطة السرية أفرادا مثلي ؟ !
( 199 )
حينها انسحب متشاغلا ، كان فاغر الفم ، واجد القسمات ، كأنما اجترع غصة ، ابتلعها على مضض، فانتضت من وجهه كل مسحة ماء وندى. فراح يشعر بضعة واستهانة واضحتين . . مثل هذا الامتهان ، له ان يشد المرء الى حيث لم يكن على وتيرته من قبل ، كذلك جعل يمضغ حلقات الوصل التي عنت لناظريه عبر فكره المحتقن بمضطرب من النزعات والنظرات . .
قال لها متسائلا :
ـ أفرادا مثلك ؟ !
ـ أجل مثلي !
عندها نكس رأسه ، ليختلي بأفكاره ، وظل صامتا ، ثم التفت اليها ، وهو يقول :
ـ كل شيء جائز ، وفرض المحال ليس بمحال!
ـ انك تجوّز الامر ، ومن ثم تفترض أنه من جملة المحالات .
( 200 )
ـ أوو . . ليس كما تتصورين . . بل أوافقك على حقيقة مفادها : إنّا كنا قد عملنا على استغلال نفوذنا القوي في مثل هذا الجهاز . . نحن وكبار المسؤولين . . ولكن هذا لا يمكنه ان ينسحب على الجميع، ومثل ما تقولين. . فانه لا بد ان يتواجد مَن هم في مثل خصالك الفطرية ، ممن يمكن لك أن ترينهم يتحركون ، وتبصرينهم يتألقون في أروقة وأفنية مباني وفروع هذا الجهاز السرّي . .
ـ هل تغالطني في القول . . انك تكذب على نفسك . . انك غير مطيع لمثل هذا الكَلِم . . بل انك نفسك لا توافق لسانك على ما ينطق به ! لانه غاب عنك كثير دائم ، وشغلت بالقليل الذي لا يدوم . . حتى ظننت ان الجهاز لا يقوم الا على القتل والارهاب ، وزرع الرعب والخوف في قلوب الناس .
ـ ماذا تقصدين ؟
( 201 )
ـ لقد ألهتكَ الدنيا ، وألهَت من هم في مثل حالك . . شغلتهم عن التفكر في مصالح العباد حتى اورثتهم طمعا وشرها لا حدود له . . درجوا بعدها على انواع الاجرام ، وعمدوا الى تلبية كل ما يصدر من اوامر دون النظر فى عواقبها ، وان الذي يُصدرها اليها ، هو ليس برسول مرسل ، أو نبي عهد اليه ، ولا حتى امام معصوم ! وتناسوا انه يجوز عليه الخطأ والسهو . بل الظلم بانواعه والحيف والحوب بأشكاله . . فما كان همكم سوى التنفيذ ، حتى لو كان خلاف مشيئة الرب تعالى . . ومفارقةً لوحي ما تعالى في بيوت أذن الله أن يذكر فيها اسمه ، في تلك البيوت التي قام فيها رجالٌ يسبحون للّه بالغدو والآصال . .
فاعتدتم على صنع رهيب الجنايات، واتيان غريب النكايات ، لانكم كنتم قد نسيتم ما ذُكّرتم به ، حتى صرتم تقعون في أسر قيود الضمائر وحلقات سلاسل التأنيب ، . . فأين كنتم عن طيب الخصال وعذب الخلال؟!
ـ ؟ !
ـ ولكن ، أين المفر ؟ ! فثمة رب عزيز ذو مكر وانتقام ، كما هو رحيم ذو مغفرة ورضا ! ستردّون اليه ذات يوم ، فينبئكم بما كنتم تعملون ، كيما يجزيكم أحسن الذي فعلتم ، أو أسوء الذي عملتم !
ـ إنكِ لتَعِظينني . . ما الذي حصل ! هل يمكن لي أن أفهم ؟ !
( 202 )
ـ خلاصة الامر : لقد صدرت اليّ الاوامر بقتلكَ ، ونزع ما انطوى من روحٍ بين جنبيكَ . ولقد عرضتُ هذا الامر على ربي ، وقلّبته بيني وبين نفسي. .
ذهل ، وغارت معالم وجهه ، وانكسفت ملامحه حتى انقلب محياه ، رأسا على عقب :
ـ أوو . . أوو ! واذن ، فأنت الاخرى أيضا، تعملين لصالح أجهزتنا الروحية ، كيف لم أعلم بذلك !
ثم قال :
ـ وانك لتفعلين كل ما تؤمرين به من قبل مستخدميك . . أعني مسؤولينا ورؤسائنا . . هؤلاء القادة الذين يسدلون على أنفسهم أقنعة ، لا تتحرج من ان يتخلل أديمها غلالات توعز بالطمأنينة والقوة ، أو بهالات من الهيبة والكبرياء ، وربما بنوادر خلقية ترخي عليها أسجافاً من الخشوع ، والتي لها ان تغص بنداءات القلب المثخن بالجراح والنكبات ..
( 203 )
تنهد يراقبها بدهاء مستكين ، وجعل يسترسل على سجيته ، مكتفيا بقوله :
ـ وتنفذين الاوامر وفقا لسياسة عنكبوتية رهيبة . .
سكت والنيران تشتعل بين احداقه . . ثم استدركها :
ـ ولهذا السبب ، فانت لم تتعمدي الهرب ، ولم تقترحي على نفسك بفكرة الفرار من مبنى البيت أبدا، لأنك كنتِ حقا في مهمة . ولقد كنتِ تنفذينها بحذافيرها، أليس كذلك !
ثم قائلا ، بعد ان تولّته افكار ، سرعان ما تطايرت من رأسه ، لتحل محلها اخرى :
ـ أقول لكِ . . كيف يمكنني أن أعصي الاوامر ، وأنا أراهم يتقافزون أمامي . . انهم لا يعطون أيما أمر لأحدنا ، الا من بعد أن يزرعوا كل البقاع والامكنة بألف عين وعين ، كيما يتأكدوا من صدق قيامي بالمهمة الموكلة اليّ ! وأنا لا أشك الان أبدا في أنهم يترصدون ساعة الصّفر ، كيما تصنعين ما اُلقيَ اليكِ من كتاب . .
( 204 )
هل تسمعين . . نفذي فيّ كل ما صدر اليك، اصنعي بي ما أمروك بصنعه بي ! وبكل حذافيره . . لطفا . . بالله عليك . . بكل من تعبدين . . اطلقي عليّ النار ، وبسرعة . . وأريحي قلبا أضنته السنين، بكل ما كان بوسعها ان تكيل له من الضربات ، حتى أذاقته طعم داءٍ لا دواء له قط ، وزرعت فيه فصاما حادا ، حتى كانت قد أورثته عُصابا ، لا علاج له أبدا !
ـ لقد صدرت اليّ الاوامر . .
( 205 )
قاطعها متسائلا باستغراب :
ـ وهل كانت قد صدرت اليكِ الاوامر بقتلِ. .
ران عليه صمت لحظات ، فبدرته تصِلُ كلامه قائلة :
ـ بقتل الاخوة الاشقياء . . ؟ ! هه ! ! . . انهم ما كانوا ، الا عملاء مزدوجين وجواسيس . . مخضرمة هي الاوامر التي كانت تصدر اليهم ، لأن جهات تلك الاشارات المنبعثة اليهم ، ما كانت الا مختلفة الاوطار ومتعددة الاقطار . .
نظرت اليه بفتورٍ ، تراهن خلاله على أمل خفي، بينما كان لابتسامة صفراء ، ان تشق طريقها ، عبر قسمات وجهها . . المتحاملة على نفسها. .
( 206 )
ثم تابعت حديثها وهي تقول :
ـ وما أرى وعيكَ الباطني ، الا لَيُسائلني : كيف كان قد وجدكِ الاخ المفترض به ان يكون كذلك.. كيف وجدكِ هناك ! حيث تقوم مؤسسة أخرى للثقافة الجنسية. . ألستِ كنتِ تحدثين ، انكِ قد اخترت حياة جنسية ، بسبب من خلجات نفسية حادة، مع غناكِ المادي ، وعدم حاجتكِ الى المال ، بسببٍ من الميراث الذي كان وصل اليكِ من طريق والدتك ! وما ان فتحت عينيكِ علي تطورات الموقف ، حتى أبصركِ ذاك الاخ..
( 207 )
توقفت برهة من الوقت ثم استدركت قائلة :
ـ وربما امتدت اسئلتك الى اكثر من مدى ، وصرت تضرب أخماسا بأخماس ، أو تهمس في الهواء ، وتحدث النسمات ، وتحار في دوامات لا نهاية لها ! لتنبري تقول لي :
وإن كنتِ تبحثين عن الفضيلة ، وممارسة ادوار الشرف والغفران . .
فلماذا كنتِ قد وَدَعتِ نفسك تلجأ الى العمل، في فصائل وكتائب جهاز الامن السري . .
فتعرضين نفسك الى ممارسة الدعارة غصبا، وتمثيل دور الفتاة الغرّة التي لا تجد أيما مناص من السبات في ظل أحلام الدعارة قهرا . . والوقوف تحت طائلة العهر غصبا.. وكل ذلك طبقا للاوامر النافذة ، ووفقا للتقارير الصادرة . .
وان صح ما ادّعي واقول ، فانت وهاتيك النساء العشيرات ، سواء بسواء . . لانهن كذلك كنّ يمارسن دورهن المهني والتنفيذي . . ولكن بفارق اختلاف قطعي ، في الخلق والطباع والنفسيات .
ـ ؟ !
ـ ولأجيبك على ذلك ، فهذا يتطلب خلاصة متأنية . .
( 208 )
بان الاوامر كانت قد صدرت اليّ ، باللجوء الى ذلك المبنى ، وإشعار من يكون ثمّة ، اني ما كنت الا غصنا مقطوعة ، مات ابي وامي ، وليس هناك مِن أحد يعيلني روحيا ، والا علي ان اظهر اني لست بحاجة الى المادة ابدا ، بسبب من ميراث امي الذي كانت تركته لي !
فضلا عن محاولتي قدر الامكان في الحفاظ على بكارتي المصطنعة ، والتي أدخلت الاخوة في لعبتها كي يعيدونها اليّ . .
ـ بكارتك المصطنعة ؟ ! أعلم ماذا تعنين بها، ولكني اتفاجأ بها انها تقع في ضمن التفكيكات العملية لديكِ .
ـ ماذا تقصد ؟
( 209 )
ـ اقول انها اصبحت عندكِ كنظارة ، لا تستخدم الا حين القراءة ، او حين مشاهدة التلفاز ، وذلك علي نحو المثال .. بل ربما غدت لكِ كعدسات العين اللاصقة ، تضعينها عند الصباح ، وتريحين عينيك منها ، حينما تخلدين الى النوم .
ابتسمت وقالت :
ـ ربما ، لأن طبيعة عمل الشرطة السرية ، كانت تفرض عليّ ازالتها مبكرا . . والتخلص منها منذ وقت بعيد . . وفي بعض المرات يشددون على عدم ازالتها، لكي تبلغ الدوائر اهدافها المرسومة ، والتي في بعض المواقع لا يمكن نيلها ما لم تكن الفتاة محتفظة بخاتمها ! وذلك حين يضطر الامر ، ان تندس المرأة في محيط متشدد ومحافظ !
نظر في فراغ ، لا يعنيه بأفكاره :
ـ هو كذلك ؟ !
ـ فأنت اذن تعرف اساليبهم ، ولقد تلقّيت جملة من التقارير والاخبار ، بأنهم سيوعِزون وبأسرع ما يمكن الى كبير الاخوة . . حتى يفد على مؤسسة الحب ، وسوف لا يختار سواي ، ولا ينتقي غيري . . وسيتفق معي على أداء دور الاخ والاخت !
ـ وهو لا يدري انك تعملين لصالح الجهاز الامني ؟ !
( 210 )
ـ لا . . ، لا أبدا . . بل ان ما اخبروه به ، اننا حصلنا على معلومات تفيد ، بتواجد احداهن ، في مؤسسة من مؤسسات الحب ، وهي ذكية وقوية ، وليست بالفقيرة ولا المدقعة ! بل ان من جملة أهدافها هي المتعة واللذة ، مع عدم حاجتها الى المال . . فعليك الاستفادة منها الان ، وعلى الفور ، وتوظيفها بأقصى سرعة لصالح أهدافنا . . وبضرورة تمثيل دور الاخ والاخت فيما بعد !
ـ واذن ، فانتِ تمتهنين عمل الشرطة السرية، ولا تتورعين عن ممارسة أي نوع من أنواع العهر والدعارة ، في سبيل خدمة القرارات الصادرة ، والاستماع الى كل بيان وخطاب ؟ !
ـ بالضبط . . لأني أخدم قرارات الامن الحقيقية ، وليست قرارات الامن المخادعة !
( 211 )
ـ هزء ومهزلة ! ! اليوم أنت تتلقين الاوامر من رئيسكِ المباشر الذي يتصف بصحوة ضمير ، وغدا : فهل لك أن تضمَني أن مثل هذا المدير، سيكون هو الذي يُلقي اليك بالاوامر ؟ ! وانه هو الذي سوف يحاسبكِ على مسار الاعمال وتنفيذ الخطط ؟ ! وإن ضمنتِ ذلك ، وألقيتِ بحبل عهدته على غارب الغيب !
وهذا من سابع المستحيلات ، فهل تكفلين لنفسكِ البقاء في ذلك القسم الذي تمارسين الان دوركِ فيه ، ولا تتوقعين أبدا انتقالكِ، في أي يوم آخر ، الى قسم ثان ، أو ثالث ، وهكذا . . من موقع الى موقع ومن مكان الى مكان . . آخر وآخر ، لتصيري بعدها تحت إشراف منصف آخر ، وملحد آخر؟!
فهل يمكنكِ أن تضمني لي مثل ذلك ؟ ! وهل يمكنكِ ان تتأكدي من ان المدير الكذائي ، سوف لا يستغلك انتِ بالذات ، ويبتزك في جسدكِ أنتِ لا غير!
ـ ؟ !
( 212 )
ـ والان ، ومن بعد ذلك ، تريدين أن تقولين لي، انكِ لست كهاتيك النسوة اللائي قتلناهن سوية . . بعدها سوف تطمحين الى اقناعي بأن كل ما قمتِ به ، وكل ما اندفعتِ لممارسته قهرا ، لم يكن الا بفعل اجازات شرعية ، كنتِ قد استحصلتيها ، من أجل القيام بمثل هذه الاعمال . .
ـ يا هذا ، اني لا اتحدد بالمسؤول المباشر وغير المباشر ، ولا بالمدير الحالي ولا بمن سيأتي بعده ، ولا في هذا القسم ، أو غيره . . بل اني امتهن المسير في خط، وأقوم بالعمل لصالح جناح خاص كنتُ اعتقدت بمبادئه ، وآمنت بضرورة خدمة أهدافه ، حتى ولو خلسة متكتمة ، أو تقية مغامرة ، أو بطريقة تمويهية خفية . . فغدوتُ بعدها مدينة بالعمل لهذا الخط ، أنفق حياتي وما تبقي من عمري في سبيله !
( 213 )
تطاولَت اليه بطَرْفها ، تحاول اختزال وعي نظراتها ، عبر امتدادها الى منتهى غاياته :
ـ هل تفهم ما أقول ؟ ! أم تشترط عليّ أن أرفدك بالمزيد من التوضيحات ؟ !
ـ ؟ !
ـ غير اني ما اراكم انتم ، الا كأصحاب المبادىء العامة ، والتي تقول : أطع رئيسك الحالي . . فلو ذهب ، ذهب معه اسمه ، وما صار رئيسكم الا الرئيس الذي حلّ بعده ، حتى لو لعن الحاضرُ الماضيَ ، لكنتم سبّاقين الى لعنه كذلك ، وتكرار ما يفوه به . . كسبا للحظوة عند الرئيس الحالي ، ومحاولة منكم للتملق عنده ، والتزلف لديه ! لأنكم ما كنتم الا أبواقا ناعقة، تداهن وتوارب من اجل الحفاظ على مصالحها الآنية والوقتية !
أما أنا فلا ! لاني لست من الامم التي يقال عنها : كلما دخلت أمّةٌ لعنَت أختَها !
( 214 )
رشقها بنظرات حادة ، تريث في الكلام ، تابع التحديق في نظراتها ، فقال لها :
ـ انكِ أنتِ الاخرى ، تعانين من ازدواجية في الشخصية ، انفصاما حقيقيا في الشخصية ! وتحاولين تبرير اصابتك بمختلف الامراض النفسية ، والأدواء العقائدية ، ومن بعد ذلك تسعين الى توجيه الاذهان الى مختلف انواع العلاجات الناجعة ، من قبيل الايمان بالمبدأ ، والاعتقاد بالخط والجناح ، وانك لتتناسين وبهذه السرعة كلامي الماضي . . حتى تضطرينني الى تكراره ثانية! فان من يقودك اليوم ، ويرأس جناحك ، ويتربع على سدة قيادة الخط الذي تنتمين اليه . .
فهل سيمكنكِ ان تضمني لي بقاءه ، وعدم مجيء غيره ، ممن له ان يعمل على خيانة الامانة ، فينقلب على حرفيات مبادئكم ، ويتنكر لها تباعا؟! وهل تتعهدين ببقاء هذا الشخص الحاضر على نفس منواله الاوّلي ، وخُلقه القويم السابق ، وهو ما كان بالامام المعصوم ، ولا كان بالمَلََك المقرب الذي يتخذ له مسارا يتميز بوتيرة واحدة !
( 215 )
ان عليكِ ان تؤمني بالمبادىء الراسخة ، وليس بالقيادات ، لان الاخيرات ربما زغن عن الطريق ، وربما عسفن عن جادة الحق ، التي رسمها لهم المبدأ نفسه ! ولربما تنكروا لعقيدة الهدف والخط ، و . . الجناح نفسه !
فما كان ينبغي بكِ الا أن تصيخي السمع وتصغين الى معيار كلمة الحق ، وليس التقيد بمعيار القادة.. من رجال ونساء ! . . أجل ! . . فلو بقي القائد مع اصول المبدأ التي أقرّ بها أنا نفسي ، وأؤمن بها ، فما ضرّني أن أؤمن به هو الاخر . .
ولكن هذا لا يدعني أنسي مراقبته ، والتأكد من صحة عدالته ، وحسن سيرته بين الفينة والاخرى .. وبين الآونة والثانية !
( 216 )
كما اني انا الاخر، عليّ أن أعيد النظر وبين الفينة والاخرى ، في كل ما اعتقده ، والمبادىء التي اتبنى الدفاع والذود عنها . فلربما كنتُ غافلا عن كثير من السلبيات فيها، او كنتُ مشتبها ، او كنتُ من المغرّر بهم ، أو المخدوعين بمثل تلك الموادّ الخاصة بعقيدتي ، حتى اني ولربما اكتشفت انها ما كانت الا مبادىء نازية ، ومواريث جاهلية . غير انها عُمّيت عليّ ، وعلى مَن هم في مثل حالي، لانها كانت سبيلا حاقدة ملبّسة بثوب العقائد القدسية ، والتشكيلات الروحية والملائكية !
وفضلا عن هذا كله ، فليس لنا ان نؤمن بالمبدأ على هذه العصبية والعنصرية ، وهذا الافراط والتفريط ، انما علينا ان نكون انسانيّين وبشريّين بمعنى الكلمة ! وليكن مبدؤنا وعقيدتنا ، كيفما اتفق لهما ان يكونا !
( 217 )
بينما تابع كلامه ، وهو يقول :
ـ هذا ، وبالرغم من اني لا أؤمن بكل ما تعنيه الاخيرة من مفهوم.. ولكن لو انه لم يكن لدينا ، أيما منجىً أو خيار ، سوى الحفاظ على انسانيتنا ، فما ضرّنا ان نداهن على حساب أنفسنا ، في سبيل الحفاظ على النفوس، وحقن دماء الابرياء . .
لان كثيرا ممن ينضمون الى جانبنا ، وينضوون تحت لواء مبادئنا، نرى أنفسنا أنها لا تأتلف معهم بسهولة ، ولا تتقبل الانسجام معهم أبدا، أو الذوبان في مسيرتهم . .
ذلك ان نفوس الكثرة هي دائما، لا تأبى الا الغدر والخيانة، وهي مجبولة على الختل والمراوغة ، فضلا عن المروق والارتداد، ومتابعة الاهواء والشهوات النفسية.. لأنه إن تطيعي أكثر مَن في الارض، يضلّونك عن سبيل الله . . فما كان ليؤمن مع النبيل الا قليل ! . .
( 218 )
فلطالما رأيتُ أناسا وبشرا ، وسمعتُ عن كثير منهم ، تصارعوا في سبيل مبادئهم حتى انتصروا ، ولم يكن لينالوا بعد ذلك مصيرهم المشؤوم وحتفهم المنكوب ، الا على أيدي قاداتهم ، أو انصارهم أنفسهم ، أو بالعكس . . حتى تجدين ان المبادىء لتصير وفيما بعد ، أوراق ذابلة ، وصحف عفنة ، لانها ما كانت لتمثل ، الا مبادىء المصالح الذاتية ، وعقائد المنافع الشخصية . .
أو لتصبح أداة للوصول الى خدمة الذات والنفس وحسب ! فما فيها من خير لا يطال الا القادة والزعماء ، وما فيه من شر وعقوبات ، فهو لا يطال الا الرعية والاتباع . .
فيُداس بعدها على كل تلك الدماء البريئة ، ويصبح التنكر لكل تلك النفوس المحترمة والمغرّر بها ، أمرا طبيعيا ، وذلك وفق تعديلات في اجهزة وعمل النظام الداخلي والخارجي، مما يضمن معه القادة والمؤسسين انفسهم عدم المساءلة ، او حتى الوقوع تحت طائلة الاتهام والتعقيب !
وما كانت تلك الدماء البريئة لتسيل ، الا بسببٍ من ذلك التهويم، وبسببٍ من مثل هذا الكلام المعسول، الذي تحاولين في خلاله ، أن تهيّجي فيّ . . كل مشاعر المبدأ والإباء . .
وذلك حينما تصيري تمارسي دور اللعب على الحبال ، فتضغطي على المراكز الحساسة في نفسي، وتتلاعبين بأحاسيسي ، فتتناهبين المساحات الخصبة من عواطفي عنوة !
( 219 )
سكت قليلا ، تبادلا نظرات مكسوة بنغمات من الحان العفوية والترسّل، ثم قال لها :
ـ وبعد كل هذا ، تتهمينني أنا والاخرين . . انا والاخريات . . وكيف انهن قد فضضن بكارتك . . وانهن قد اجترأن عليك ، وثملن بحبك حد الفسق والتطاول . .
( 220 )
عندها قالت ببرود تام :
ـ كذلك هي الحقيقة ، فلربما استهواهن مزاولة العمل في جهاز الشرطة السرية لمثل هذه الاسباب: المال ، والجنس ، والحب ، وتحقيق الرغبات الشخصية ، والعيش بحرية فائقة السرعة !..
ففي نفس الوقت الذي صرن فيه يؤدين وظيفتهن ، فانهن كنّ قد صرن يشبعن شهواتهن كذلك. .
فلربما كان هذا العمل في نظرهن ، فرصة اصطياد عظيمة ، فهن ينلن ومن خلاله كل ما تشتهي أنفسهن ، وهو بنفسه أقصد العمل ، له ان يلبي احتياجاتهن الجنسية ، ويطفىء لهب نيران شبقهن . .
فما الضير في مواصلة العمل في هذا السلك ، طالما هو يضمن لهم الحصول على منافع متعددة ومشتركة ـ هذا في نظرهن ! بينما أنا ما كنت لاكتسب الاجازة الشرعية من أجل ممارسة العهر والدعارة فقط ، بل اني ما كنت لأقدم على قتلهم ، حتى كنت قد استحصلت اجازة شرعية قانونية بذلك !
( 221 )
ـ أية اجازة شرعية ! ! أووه ، اجازة شرعية.. واجازة قانونية ! هراء ، ثم هراء . . افتراء يعقبه اخر ! أي شرع يبيح التعامل مع الناس ، بمثل هذه الصورة التي نتعامل بها نحن مع القوم ؟ ! انك تقتلين نفسا صنعها الله تعالى، بأعقد تراكيبها ، واعظم نسائجها ، واقوى ميكانيكية ، وأدق فسلجية. . تتحرك ، وتنطق ، وتحس ، وتشعر ، وتفكر ، وتتنفس ، و . .
ومن ثم تقولين اجازة شرعية ! . . الاجازة الشرعية الحقة هي التي تأمر بالقاء القبض على الجناة ، ومحاكمتهم محاكمة عادلة . .
قاطعته متسائلة :
ـ ما الذي تحاول إخباري به ؟ !
أجابها وعلى الفور :
ـ آسف ، فاني لم أنته من كلامي ، بعد . .
( 222 )
استرسل في الحديث :
ـ أما في حال التوجه الى مبلغ خطورة أمثال هؤلاء ، وسفَه تعاطي سياسة المفاوضات معهم ، إن هم بقوا على قيد الحياة ، وواصلوا مسيرتهم العدائية نفسها ، وعند المصادرة على اعتبارات ، لا يمكن التهاون في ازائها ، لسعة درجة الخطورة التي تترتب على مضيّهم طلقاء ، في فسيح هذه الحياة ، وذلك من حيث تهديدهم لارواح الناس عموما ، لا سيما الابرياء منهم والشرفاء . .
وهذا ايضا ليدخل في نطاق الاضطرار الى التقيد بالتخلص منهم ، حال عدم توافر شروط القبض عليهم مطلقا ، ومحاكمتهم . . حتى يصير أمر الإمساك بهم أمرا عسيرا للغاية ، لا يجدي معه ، ولا حتى تجنيد الطوابير من الفصائل القتالية ، المعدة لأغراض كهذه .
هذا ، في الوقت الذي تتواصل فيه جرائمهم المفجعة والاليمة بحق الشعب والاخرين ، جرّاء حالة التسيّب التي يخضعون لها . . عندها : سيكون حكمهم حكم المفسدين في الارض . . وابادتهم عن بكرة ابيهم هو هدف وغرض انسانيين ، يطمح اليه الجميع ولا يختلف فيه اثنان !
( 223 )
بينما استرسل مضياً في القول :
ـ فلا يكون مثل هذا الحكم وبالتالي : علكة يمضغها فوه كل من هبّ ودبّ ، كائناً من كان ، وبغض النظر عن مواقعهم السياسية والاجتماعية، فليس لأيّ منهم أن يبتّ في المصائر الخاصة وتحديد الاهداف العامة ، ويقول فيها بكل ما يراه ويهوى . .
أو ان تتحرك جموعهم صوب أيما قرار فعلي ، ووقتما تشاء ميولهم المتأرجحة وأهواؤهم المتصابية ، والنابعة في الاساس من صميم اجتهاداتهم الشخصية ، والصادرة بالفعل عن وحي انفعالات وقتية وعصبيات صبيانية تهويمية . .
وهي في النهاية ، لا ترجع بالنكد إلاّ على أصحابها المغامرين بالفتيا والحكم الدينيّين والسياسيّين ، وذلك على صعيد الفكرة الدينية ، والقرار والحكم السياسيين ، وعلى صعيد الوجهة العلمانية ، هذا إن صح التعبير !
( 224 )
فقالت له :
ـ أما أنا ، فألخص لك الموضوع ، فلو حوكم أمثال هؤلاء من المطلوبين أحياء أم أمواتا . .
ـ أحياء أم أمواتا ؟ !
ـ أجل ! فانه ما كان سيكون نصيبهم سوى الاعدام ، ونحن ننفذ هذا الحكم من دون الحاجة للرجوع الى مثل هذه الاجراءات التعقيدية والروتينية .
( 225 )
عندها بادرها :
ـ ان هذه الاجراءات التقييدية ، هي التي تحفظ أمن المواطنين ، وتضمن لهم حرياتهم ، وتوفر لهم حرية التعبير عن الرأي ! فتدعهم يتحركون أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم ، فينطلقون في أرجاء الحياة ، وبملء عنفوانهم وكبريائهم . ليس بوسع ايما بشر ان يصادر وجهات نظرهم الشخصية ، او يملي عليهم آراءه الشخصية . .
( 226 )
بل لَتَجِدينَنّهم ساعتئذ : يثقون بمنطلقات الفكرة الالهية اكثر من أي وقت آخر ، فضلا عن الاعتقاد بمبادئه وافكاره ، حتى يصيروا يؤمنون بحرية الفرد في ظل حكم الشرع والدين الالهيّين ، أكثر مما يؤمنون بحرية الاعراف في ظل الحكم العلماني ، وصولا الى استيحائهم عموم الثقة ـ وفي أبلغ درجاتها ـ من صيغ العرف الاجتماعية من التي صادر عليها الوحي الديني ، وآمنت بها منطلقاته . .
فلا يقعون تحت تأثير حالات التسيّب واللاّمعقولية في مركزية سلطات القضاء ، ومصادر الحكم والقرار ! لانهم يتنقلون في ارض الله ، وهم يحسون باطمئنان غالب حتى على انفسهم . .
( 227 )
أليس ابن ملجم هو قاتل علي بن ابي طالب. . فلِمَ لم يقتص منه قبل وقوع الجريمة ، ولقد اخبروه بقدومه الى الكوفة ، وحلوله على فساقها ، ونزوله في بيوت المنافقين من أهل الكوفة ، وحصول اللقاءات منه ، مع مَن فُجِعَت نفوسهم بآبائهم وأهليهم . . من ذوي الخوارج واُسَرِ غيرهم . . الا انه لم يغتله ، بل لم يقبض عليه . . حتى حينما ضربه ، والقوا القبض عليه ، أشار على ولديه الحسن والحسين : لقد اخفتموه . . انظروا الى وجهه . . ولم يدع أحدا يقتص منه . .
بل ، انه كان قد امرهم بتقديم الطعام اليه ، وسقايته ، حتى كان ترك أمر الاقتصاص منه الى نفسه . . وذلك في حال ظلّ معه على قيد الحياة . . وإن هو رحل الى جوار ربه ـ وهذا ما حصل بالفعل ـ كان القصاص : ضربة بضربة ! احقاقا للحق وازهاقا للباطل. .
( 228 )
ثم قال لها :
ـ اننا يا هذه مُسيّرون ، ولو تُرِك لنا الخيار.. لألقينا بالحبل على غاربه ، ولألقمنا أفواه جيادنا مثل هذه الاوامر، كيما تقضمها بأوسع ما تنفرج به أشداقها . كذلك هو دَيدَن وحال كثير من هذه الفتاوى ، التي لا يصدر بعضها ، الا عن عصبية مذهبية ، واندفاع ديني مطلق ، ومنحى تكفيري ، أو تغطرس طائفي ، وعنجهية متشددة ! ليس تحت جميعا أيما طائل . .
نعم في حال عدم تيسر الحال، واصطلاح الامور ، الا بقتل المفسدين في أرض الله ، في ذلك الوقت كان لنا ان نمتثل بمثل هذا . . وهذا في حالٍ ـ كما أوضحت لك ـ يصعب علينا معه القاء القبض على الجناة الحقيقيين . . ودفعهم الى قاعات المحاكم . . والا فلو تيسر، ما كان لنا ايما مناص من القاء القبض عليهم ومحاكمتهم علنيا ، كيما لا يشك الناس بعدالة السلطان ، وقدرة الله في إحكام سياسة جزائه وعقابه .
( 229 )
هذا ، شريطة ألاّ يرافقها القاء القبض على التهمة ، والوشاية ، والشك ، والحدس . . ليس إلاّ! والقاء عباد الله في غياهب السجون بذريعة تشكيلهم خطورة ما ، لا تعيش الا في اوهام الجهات المتنفذة . او الفصل من العمل والضرب والاعتقال ، لا لشيء الاّ لأن الشخص ، يثير حالة من الوسوسة والغثيان !
فضلا ، عن الملاحقة بسببٍ من ابداء الرأي او الاعراب عن وجهة نظر معينة ، او حتى الكلام والنقاش في موضوع محتدم ! ليس الغرض منه سوى اثارة روح المجادلة الذكية ، وإثراء الفكر السياسي والاجتماعي الجماهيريين ليس الا . . ولكن هذا كله بنظر المسؤولين يمنع عجلة التطور من السير الى امام !
( 230 )
ولقد جعل ينظر اليها بعد ذلك ، وآيات من سحاب عنيد ، صار كمن يجر جياده ، ويتمنطق بألم حسير، ويتقلب بحساسية مفرطة فوق أجفانه التعبة، والمغرقة بآثار لحاظ احداقه التي كانت تراقبها بغرابة شفيفة، لكنه ما كان منه ، الا ان استطرد في القول :
ـ أقول : متى يأتي نصر الله ، وأرحل الى جواره ، وأفرّ من حبك ، لأنك قد أولهتني ووَدَعتني أعيش معه ، أحلى أيام حياتي . .
قاطعَتْه قائلة :
ـ يا هذا ، ما الذي تحدّث عنه ؟ لا يمكنني أن أقتلك . .
ـ لماذا ؟
ـ لاني انا لست بالقانون . . ولكن لو أراد الحاكم القاء القبض عليكَ . .
( 231 )
قاطعها :
ـ ستقبضين عليّ وتسلّميني اليه . . اليس كذلك ؟ !
ـ لا ! . . ! ما كنت لأفعل ! بل كنت أدع الطريق أمامك مشرعا.. واقول انك قد تمكنت من الفرار، ولم اتمكن من اللحاق بك بعد الهرب !
سكتت قليلا ، ثم عادت الى القول :
ـ يا صاح ! اني لست بنازية ، ولا فاشيستية، ولا بعنصرية ! وما كنت بقاتلة ، ولا سفّاحة ، أو سفّاكة ! وما أنا بشعوبية ، أو انتهازية ! بل لم أكن ولا في اي يوم من الايام أنانية ، أو حاقدة . . كيما استغل عملي ، أو اوظّفه للوصول الى اهدافي الخاصة ، واشباع اهوائي الذاتية، وشهواتي النفسية . . وأغراضي الطامعة . لا لم اكن كذلك ابدا ! ولم اصبح هكذا قط ، وسوف لا اغدو كما تتوهم . . صدقني . .
( 232 )
استطرقَتْ قليلا ، ثم عادت الى القول :
ـ فإن كنتُ حاقدة على أحدهم ، فاستفيد من نفوذي ، وأوظف مهنتي ، للاقتصاص ممن أرى بضرورة الانتقام منه ، ولاسباب شخصية بحتة ! فأصول عليه أشد الصولات كي أذِقه من طعم السعير وحر النيران، وأسِمه كل العذاب . .
لا . . لستُ كذلك ، لست منهم . . بل انا من النزاهة ، بحيث أصير اسجد للانسان الذي صنعه الخالق ، وهو ما فعله الملائكة حينما سجدوا لادم ، سجدوا لقدرة الخالق وعظمة ابداعه . .
حتى انه لترانا ، وحينما نقتني واحدة من الاجهزة الكهربائية او السيارات أو أي جهاز ثمين ، أو قطعة باهظة الثمن أو نادرة . . ترانا نحفل بها شديدا ، وننفق عليها غاية اهتمامنا ، ولا نترك لأيما أحد ، صغيرا كان أم كبيرا ، حرية العبث بها . .
( 233 )
وكأنّي بأنفسنا تقول : هل تدري كم تعب الصنّاع المهرة حتى انتجوها ، وكم بذلوا من جهد ومثابرة كي يصلوا بها الى مثل هذه الكيفية. وكم أرهق العلماء والخبراء أنفسهم حتى استطاعوا صنع مثل هذه الاجهزة، وكم انفق المختصون والمهرة من الفنانين على ابتداعها ، حتى اخرجوها وصاغوها بمثل هذه التقنية ، وجعلوا منها رائعة نتاجاتهم . .
ثم نأتي نحن وبكل سهولة ، فنعرّضها لأبشع أنواع الممارسات الهدّامة والنشاطات الناسفة ، وذلك في عرض دقيقة أو دقائق ، فنعرضها للتلف ، او الحرق ، او الاصطدام ، أو العطلات ، أو الاهمال ، كيما تلقى مصيرا يورث الندم والحرمان . .
فكيف بنا ، ونحن امام بشر خلقه علاّم ! صنعه عليم ، وابتكره جبار ، وابتدعه قهار، فنان عظيم ، مخترع رشيد . . ركّبه في أفضل صورة شاء ، وخلقه في أحسن تقويم . . نأتي نحن فننسفه ، كما ننسف آلهة صنّعَت من حجر في اليمّ . . كما ننسف العابا يمكن الاستعاضة عنها بصنع غيرها . . كما نهدم بناء لكي نقيم غيره في مكانه !
ولكن الانسان ما كان صنعه غير الله . . واذن، فمن له الاذن بانتزاع روحه ، سِوى نفس الذي كوّنه ، والقى فيه الروح ، ذلك الخلق غير المرئي . .
( 234 )
غير انه عاد اليها ليقول :
ـ ولكن لا يمكنك أن تتناسين . . فمِن فمك أدينك . . لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم . . اين البقية . . ثم رددناه اسفل سافلين . . اليس كذلك . .
ـ ؟ !
ـ وأنتِ ، ألا يمكنك ان تتجاوزين حقيقة العذاب الدنيوي . . فكثير ممن كان قد حق عليهم عذاب الرب . . والرب في غالب الاحيان يعذبهم بأيديهم . . ويعذبهم بأيدي المؤمنين .
( 235 )
فقالت :
ـ أنا لا أنفي حقيقة الجزاء ، وصريح العقاب. . والا لغدا العالم مضطربا تعمه الفوضى بفعل ما يصنعه المجرمون ويقترفه الآثمون . . ولكن ما قصدتُه هو نفس ما عنيته . . من ضرورة طي هذه المسائل لمراحلها الشرعية والقانونية ، على عكس حالة المحاكم الميدانية غير الصبورة ، والاوامر المرتجلة غير المتأنية . .
ـ أتعلمين لماذا ؟
ـ ؟ !
ـ لأن لكل امرىءٍ ، الحقّ في الدفاع عن نفسه . .
( 236 )
بينما استطرد قائلا :
ـ حتى الجاني ، فانه يجب ان يدان كي ينفَّذ بحقه حكما ما ! بعد أن يقر على نفسه ، ولو لم يقر كان للشهود ان يثبتوا وقوع الجرم من قبله . . كيما لا يكون للناس حجة على الله ، وتكون الحجة لله جميعا !
ـ اني لأراك تفهم الدين ، أكثر مما يفهمه كبار العلماء والمختصين من المراجع والفقهاء ؟
ـ إنّا نفهم كل شيء ، ونعلم بكل ما يدور ، ولكن . . في أغلب الاحايين يطغى علينا . . بل تخوننا ضمائرنا ، ويغلب علينا التمادي في الغباء والجحود والطغيان . .
سكت ، ثم عاد بعدها الى الكلام :
ـ قلتُ لكِ ، متى ستُنزلين بي حكم المحكمة القاضي بازهاق روحي ؟
ـ متى ما أصدرتُ الحكم على نفسي بالقتل !
( 237 )
عندها سادت الاجواء هدأة ساحرة ، صمت من نسيج الدعة ، الخالية من أيما ركّة ونكد ، سكوت من الرقة التي كان لها أن تداعب جوانح ما انطوى عليه قلبيهما مِن رغيد المعاني وحليم المشاعر ! فقال لها :
ـ أريد ان أشير عليكِ بشيء ، ارجو أن تخبرينني بصراحة . . هل انكِ عاملة في نفس السلك الذي أعمل أنا فيه ؟ !
فقالت :
ـ ماذا تقصد ؟ !
قال :
ـ اقصد ان رؤساءك هم رؤسائي أنفسهم.. وقادتي المسؤولين هم انفسهم قادتك ومسؤوليك ؟
( 238 )
قالت :
ـ أجل !
فقال :
ـ كيف يحصل مثل هذا ؟
أجابته :
ـ أفهم ما تعنيه ! انك تقول : انّه ليس لمثلكِ ، أن تكبري في أحضان هؤلاء، او انه لا يمكن لكِ أن تكوني قد رتَعتِ وترعرعتِ بين ظهراني هؤلاء وأمثالهم!
قائلاً لها :
ـ بالضبط ، لأني أراكِ طيبة القلب ، لينة الطوية ، جميلة بكل خلقك ! عذبة بكل حكاياك ! نضرة بكل آمالك ! وإلا، فان المفروض بك ان تكوني مجرمة مثلنا ، قاتلة بغير حق ! ظالمة ، شيطانا أخرس !
( 239 )
ثم شرع يعلل في الكلام :
ـ لانهم كانوا قد علمونا كيف نمسخ أنفسنا بأنفسنا ، وننقلب وحوشا كاسرة ، ونصير ذئابا عادية ، ليس في قلبها ايما معنىً للحب ، ولا للجسد الحقيقي . ولا حتى أيما معنىً للانسان ولا للبشر . . انهم بذلك كانوا قد ربّوا فينا نفسيات حقيرة، صنعوا منّا جيلا ماكرا، خلقوا منّا نسلا مكابرا . .
ثم مسهبا :
ـ فإن هُم ذهبوا ، كان لهم ان يصفّقوا ويضحكوا لكل من يأتي بعدهم ، قائلين : انّا قد تركنا وراءنا من هو ألعن منّا جميعاً . . مهلكم ! لا تفرحوا بنصركم علينا ، لأنّا قد زرعنا فيكم ، وفي قلب مهادكم وعنصر وهادكم ، ما ليس بوسعكم ان تقووا على مقارعته ومقاومته ، ولا حتى لعشرات السنين . . لأنهم غرسَنا المُكابر ، ذات الطلع الشيطاني ، والذي تركناه ينبت بين ظهرانيكم ، كيما يكون لكم حصادا مريرا ، ولقد صرتم تتفيأون الان ظلاله، وأنتم لا تشعرون . .
( 240 )
بل انهم ليرون . . ان كل الشرعية ، هي لا تنحصر الا بهم ! فهم لديهم من أرباب العقل الذين ينبغي أن يشار اليهم بالبَنان ، ما يطمئنون مع وجودهم الى استقرار أحوالهم ، واستتباب أوضاعهم . . وذلك ببقائهم الى جانبهم ، واستقرارهم الى حيالهم !
حتى يصيروا في أعلى الهرم ، كيما لا يرى الناس سواهم ، ولا يعتقد الناس الا بهم ، فمَن نقتل ، كان قد صادق عليه رأس الهرم، ومَن نعدم كان قد صادق عليه الرأس ثمّت ، ومَن نغتال ، كان قد امضى على اغتياله الرأس ، ومَن نعمل على تصفيته جسديا ، فما كان الا بموافقة شرعية حكيمة ، من قبل رأس الهرم !
( 241 )
ولذلك ، فان جهاز الامن لدينا، هو ما يعتمد الا القانون والشرع معا ، في ادارة شؤون البلاد ، وتسيير امورها الداخلية والخارجية ، وعلى كافة الاصعدة ! . . لأن القانون لدينا هو الذي يقتل ، وذلك بعد ان يصدر الشرع حكمه بذلك ، أو يصادق على ما نص عليه القرار القانوني !
أما أنتِ فلا أراكِ تنتمين الينا نحن جميعا . . انكِ من كوكب اخر ، من جنسٍ بشري اخر ! ولشدّما أخاف عليكِ وعلى أمثالك ، عيون المتربصين ، وحقد الحاقدين ، وبطش الظالمين ، وختل المخاتلين ، ووشاية الفاسقين . . بل اخوف ما اخافه عليك هو كيد الحاسدين!
( 242 )
ابتسمَتْ كالمتفائلة بما يقول ، فقالت :
ـ لربما كانت ثمّة خطوط عدة ، تعمل في كتائب وفصائل جهاز الشرطة السرية.. ولربما ثمة مجموعة، أو مجاميع عدة ، تريد من تلكم النساء الاربع ، وممن ادّعوا اخوّتي . . ومِنكَ انت أيضا : أن يصنعوا وتصنعوا مني مثقفة جنسية بالقهر والاجبار ، تمتحن أسباب جمالها على الطريقة الدينية ، وبكل امانة وكرامة ! كيما تخدم الدين وتحفظ امن الدولة بالرّغم منها ! وتسهم في ارتقاء الاحوال في المنطقة !
( 243 )
ولربما كانت هناك مجموعة اخرى ، تعمل الى جانبكم ، ولا أقصد مجموعة . . انها منظمة كذلك، اقصد انهم اناس متفرقون ، أفراد مبثوثون بيننا ، وبينكم ، يعملون بكل همة ونشاط ، من دون ان يلحظ احد اهتماماتهم البشرية الطيبة ، وعمق نبُل خلقهم الرشيد ، فضلا عن جمالية تعاملهم الانساني الحكيم !
ذلك انهم يكنّون في صدورهم ضمائر حية ، رفيقة على الناس ، مهذبة هي سياساتهم أبدا ، حتى مع اللاتي يرتزقن من نهودهن ، ويأكلن من أثدائهن.. لان لهم رسالة عمل ، وظفتها لهم الايام ، فنهضوا بمهامها بكل امانة ، فلم يعرض لهم في قلوبهم التي في الصدور : أيما وحي بالخيانة ، ولا كانوا ليسمحوا للشيطان وجنده بأن يلهمهم أسباب الظلم والبطش والطغيان !
( 244 )
بينما عادت الى القول :
ـ فما كان منهم ، الا أن سعوا سعيهم ، كيما يبنون قصورا بلورية من الجنس المقدس ، ويشيدون القلاع الفولاذية من الحب المطهر ! وذلك حينما لا تصير انسانية العاملة في بيع الهوى والحب ، مصدرا يتعارض مع انسانية الدين وسعادة الخلق .
كما لا يتسنى لمجموع نزاهة وبراءة قلب الموظفة الجنسية ، أن تخالف المُثُل الخلقية والمبادئ الالهية . فلا تغدو عندها أخلاق الناشطة في شؤون التجارة الجنسية الحسنة ، وليست السيئة منها ـ ذات المقاصد الشائنة ـ بالتي لها ان تتناقض مع أخلاق الدين الحنيف !
( 245 )
لأننا بحاجة الى داعرات ينهضن بمهامهن في داخل بيوت الزوجية ، وعلى الدوام ! ليل نهار ! غانيات في بيوت أزواجهن ! مومسات ، ما كنّ الا وقفا على بعولتهن ، عاهرات من جيل المثقفات ! ليس الا ! لانهن الوحيدات القادرات على صنع جيل ، يرفد ثقافة الجنس من منزله ، فلا يعتدي على أسرار الخليقة ، فيسرقه خارج المنازل! يسطو عليه عند قارعة الطريق !
لأن اصحابه ، ما كانوا احسوا بشبع خلف جدران بيوتهم ، او في مخادع زوجاتهم الحقيقيات ، بسببٍ من تمنع هؤلاء ، ومقتهن للجنس ، وامتعاضهن من عمليته.. أو لأسباب مادية تعزوها الزوجات الى ضائقة الرجل المادية ، فتضيّق هي الاخرى عليه جنسيا ، وتحاصره نفسيا بالضغط عليه جنسيا عبر التمنع عليه ، كي يجد اكثر ويسعى في خدمة بيتها ماديا اكثر . .
وهذا الاخر ، هو أيضاً لا يجانب سياسة العهر أبدا ، لانه غالبا ما تتمنع الزوجات عن تقديم فعل الحب لبعولتهن ، لأنهم لا يمنحونهم المال الكثير . وحينما يفعلون، تراهم يغدقون عليهم ثرواتهن الجسدية لمدة معينة ، ثم يعدن ثانية الى صناعة المكر ، عبر سياسة الكر والفر !
( 246 )
حينها كانت تشعر انها قد وقعت تحت تأثير احلام جديدة ، انها الان تعيش واقع رؤيا ، لا ينم الا عن وضوح في الصورة لديها ! تلك الصورة التي ينثال فيها عبق الأسحار ، وتغطيها قطرات ندى لا تحفل بندائها الا آفاق سماء ، زرقاء صافية ! تحوم حولها عيونٌ ، تسامت لحاظها في اللحاق بأوراق عيد وردية !
نظرت اليه بحنو ، عانقته مقلتاها ، لحقته بأحداقها ، غشيته بآماقها ، شغفت به حبا ، لعقت اجفانه، غاب ناظراها عند خصلات شعره النافرة فوق جبهته ، احست بأنه قد عاد لتوه من سفر طويل ، من رحلة نائية الازمنة ، تباعدت فيها المسافات القصية جميعا . .
أحست انها كانت عشيقته منذ زمن ، زمن بعيد حقا ! ما كان لأي منهما وجود فيه بعد ! كأنما كان ذلك الوجود هو عالم لا يحيا الا في عالم الارواح ، في أول خلقها وانبعاثها ! حيث تكون العوالم هناك مجتمعة في فيحاء عالم خاص ، هو عالم الذرّ التليد !
حتى لاحظت أن الكون كان قد اجتمع في هذا المكان.. ينتظر منها ان تبادر بفصل الخطاب ، وتلعن أيام البؤس والحرمان . . وتنضو عن جسدها كل أثواب الامس ، لتخيط له لونا من الوان الطرب والحب ، وذلك حينما تقبل اليه ، كما تقبل عروس الايام التي لا تلد الا في رحم الزمان .
( 247 )
ابتسمت له ثم قالت :
ـ كيف لأحدنا أن يحب ويعشق ، مع كل ما يؤتيه من فعال ؟!
ولكنه أجابها بتحد هذه المرة :
ـ وأنتِ ، ربما ما صنعتِ إلا ما كنت تجدين فيه قناعة نوعية . ( فتأوه مستعرا ) ولكن المصيبة تكمن في صناعتي انا , كل هذه السنين !
عندها غلبت عليه ابتسامة , كان لها ان تفوّت عليه فرصة التعمق في جدول حساباته الذاتية ، وتأنيب الضمير ، فاستدرك مقاله :
ـ ولكن اخرى كان لها ان تسلّيني ، فتدعني أشفق على نفسي ، ولا أعاتبها كذلك ، وهو اني أحببت في حياتي العشرات . . أحببتهنّ بصدق ، غير اني ما وجدت أحدا يصدق كل الصدق سواكِ !
( 248 )
ـ هيه ! ايها المتملق اللعوب ! لقد خدع احدنا الاخر مرارا ، وتكرارا . . حتى كان لأحدنا أن يقوم بمحاولات اكتشاف للاخر ومن جديد ، بين الفينة والاخرى . .
لكنه قال لها :
ـ انه عمل جهاز المخابرات السري ، كان يلزمني بالتكتم ، مثلما الزمك انتِ الاخرى به ، طيلة هذه المدة !
بينما عادت تحدثه :
ـ هيه ايها المتكتم اللعوب ، تريد ان تغير مجرى الحديث ، وتتكتم من جديد على غرامياتك . .
لا تخف فاني لا أضيق ذرعا بمثل هذه الحكايات. . لاني أؤمن ان الحب هو اقوى منا جميعا ! فيمكنه ان يبلغ المديات ، كما يمكنه ان يتسع ليشمل الاقصاء كلها !
( 249 )
قالت ذلك وشذى عطر شفتيها ، كان ينضح كعبير هيام ، ضاقت به السنين ردحا ، ثم اندفعت تسقي الزمان من شهد لياليه ، كما اندفعت هي اليه ، ورغبة ملحّة تشتعل ما بين عينيها ، فاشتملها بذراعيه واحتضنها ، حتى غابت تنزلق ما بين كتفيه ، ثم صارت تطفو برفق كالعوّامة ، لا يبلّلها الخوف ، بينما كان يخامرها تساؤل لشدّما أدهشها ، كان لها ان تحير في الاجابة عليه ، فكانت تسأل نفسها وفي خضم صراعها هذا على الحب : فلو أنها كانت الرعد بعينه ، فهل كان لها ان تستشعر عظمته ، التي هي عظمتها بنفسها !
( 250 )
ولقد أحس ان جسمها لماّ يزل بعد ، باردا مقرورا ، فضمها اليه بشدة وضمها اخرى من جديد , يشم عرفها وجيدها ، استشعرت شيئا من الدفء الغامر ، قبّلها مرة واخرى ، لثم خديها ، زرع في وجهها عشرات القُبَل . . أقحم شفتيها في فمه ، ثم انقلب بعدها يجتذب الى فيه من رضاب ثغرها , ما استطاع الى ذلك ، عبر لسانها الذي عمد اليه لسانه هو الاخر يداعبه بأناة ، حينما شعر انه كان عقد عزمه على مصّ رحيقه ، فشرع يحتسي من عذوبة كأسه .
كانت مغمضمة العينين ، قد أرخت بجفنيها , بعد أن كانت سلّمت كل اعضائها عتيقة ما بين احضانه ، واطلقت له العنان كي يجوس ديارها بأي صورة شاء . . فما كان منه الا ان دفع بكلتا كفيه تحت إليتيها المعقودتين. جعل يقبض عليها ، كأنه يحاول الامساك بأطراف كرتين من المطاط المضغوط ، يعتصر جنباتهما الاسفنجية بكل عذوبة ودفء .
( 251 )
كان قد طفق يستشعر معنى الحب الحقيقي ، ولاول مرة ! وذلك حينما استفاق قلبه على جماليات عمر، سابح هو في عقود الخيال والرؤى ، حتى كان قد جعل من قلبه وحيا يعرش في بيت أسرارها ، لانه كان يستطعم نكهة الروح التي يحملها فؤادها بين خلاياه . . حتى افاق ناظره على قلبها المطّعم بصبُغات الجمال والغنج، المعتّق بلذة الحب والجنس الحقيقيّين . .
فما كان منه الا ان غمر نفسه بمذاق ظهرها المصقول ، واستشف عنده رائحة العري الشريف ! حتى جعل ينحدر الى خصرها ثانية ، يحيط ببياضه البضّ ، فيلثم بشفاهه لذة بشرتها ثمّتَ ، ليصير بعدئذ يحنو على أرض جسدها المترعة بالنُّبل .
( 252 )
انقلب يسحب يديه الى أعلى ، يسلّهما من حيث يعلن أين كان قد غيّب أصابعه ، التي جعلت تزحف ببطء ورفق حتى يعثر عليها ، وقد أنشأت تفترش فرائص جسمها البلورية ، ليتركها تقفز متراقصة فوق قباب عنقوديها، فتندفع تعتصر طراوة نهديها . . وتنكب تسهم في ارتشاف عسيلة حبها ، حيث صار ينهل من رحيق حلمتيهما المعاندتين كل آيات الحب والشهوة ! كما لو صار يمتص غريزة الحب والجنس من عصارات حبّات فراولتها وبكل امتنان وشهية !
( 253 )
وفي غمرة ذلك ، كانت أصابعه تحطّ فوق جبهة فرجها حتى ابتدأت تعانق أنامله شفرتي قُبُلها ، فجعل يبتغي الى ذلك سبيلا قويما ، هو ليس بالعوج ولا بالعسف، سبيلا لم تشبه شائبة ، ولم يخالطه ظلم ولا سفاح، فاستفاقت لديه الصور حينما جعل يبتهج بعمق ووضوح الزمان والمكان . .
بينما كانت تعيش حالات من الوصل والهيام ، تغرق في غدق احلامها الوردية ، حتى صارت تجمع فخذيها وتضم ردفيها ، تعتصر وهج لذتها بكل ما أوتيت به من قوة ، تنفح انفاسها بكل عذوبة ونشيج ، تنفخ في الهواء كل الامها ، تطلق في الاجواء كل زفراتها وآهاتها. .
( 254 )
في حين استطاع هو ان يستقبلها بكل جسمه، ويضمها اليه بكل رشد ، ليطبق على وردتين كانتا كالدهان ، كما يطبق الحابل على النابل ، يسلّ على روح ظلمات منبتها كلّ سيف ارتضته هي وآخر . . حتى كان له ان يدفع بصرخة ثورته نحو مرمىً ، لا يجوزه غيره ، كيما يقذف بسلطان حبه الذي ادّخره ليوم كهذا اليوم ، ولساعة كهذه الساعة .
( 255 )
غابت هي في عذوبة ونشوة ، جعلت تدفع بكلتا يديها الى أطرافها، تطلق صرخاتها السامية بكل أمل وغيظ ، بعد ان لاحت له ، انها كانت تتمطى وتتلوى، حتى جعلت تتثاءب تثاؤب النشوان ، المغتمر بلذيذ الاحساس المتعاطف ، مع أواذي الموج الساهر ! فتصير تتنهد حثيثا ، وتدافع سريعا ، تنهّد ومدافعة المنعطف الى سبيل اشتيار أحلى أنواع الحب، واشهى رياحين أشهُر العسل الذي يزدهى بأجمل ألوانه وأطيب مذاقاته .
( 256 )
وفي لحظة واحدة ، كان ثمة صوت عيارات نارية ، انبعث بهدوء تام ، انسلت نيرانها من مسدس رشيق ، كان يحمل فوق سبطانته جهازا كاتما للصوت . . أردَت كلا الشخصين المتعانقن في هذه الحجرة قتيلين . . تركتهما جثتين هامدتين ، جسدين بلا حراك . .
وما كان الرامي الا شخصا محترفا ، ليس له ان يخطىء الهدف ، وليس له ان يعصي الاوامر ، لانه لو تخلى عن القيام بمهمته ، فما كان ينتظره ، سوى نفس مصير أولئك الذين كان قد أوكل اليه ، الاهتمام بتقرير مصيرهم وعلى هذه الشاكلة ، ووفقا للاوامر والقرارات الصادرة !
( 257 )
فنام الجنس ، ولم يمت ! ورقد الحب ، ولكنه لم يمت هو الآخر ! .. بل ارتحل الى عالم اخر ، سافر مغادرا، التحق بركبهما ، حينما وجدهما قد قررا الرحيل ! فاندفع يحمل نفسه ، مغادرا . . ، ومتكلفاً النزوح معهما ، غير انهما تركا المكان يبكي على أحلامهما، يبكي على كل شيء ، ينعى حبهما الجميل ، ينعى مشاعر الجنس الملتهبة ، ينعى كل احساس كان يحمل بين طياته فيض احترام لمشاعر الجنس وأحاسيس الحب ! . .
ينعى تلك البراعم من الشوق.. كيف كان لها ان تذهب حانقة ، وكيف كان لها أن ترحل كذلك ، قبل الأوان ! . . لأن الجنس ما كان ولد بينهما الا الآن ، ذلك ان الحب ما كان قد تدفق عطاؤه الا منذ وقت قصير. . ليس له ان يطول، وإن مضى عليهما كثير من لحظات الحب التي ما استحلت مذاق وشيعتها ، الا براعم شفاههما حينما التقى رافِدَيهما ، وقتما اجتمع نبيذ خمر وصلهما ، في مصبّ حلم شاسع الاقطار .
( 258 )
وصارت تتخاتل خمرته في قارورة ، لم تنشد الا صبغة لميعة ، ظلت عينها البلورية تنام عند صدر الفتاة التي كانت قد منحت رائدها رمز قلبها ، فالتقفه بروحه الوسنان ، واحتبسه في وجده ، حتى ألقى ما ألقى ، وذلك حينما تركت مصاريع أبوابها مشرعة أمام ودق سيبه ، الذي انحدر الى ارض رَحِمِها المقفرة ، كيما ينسل الوَدْق الى كل مسامات قلبها ، ويعيش الغدق ثمّتَ أبد العمر . .
ذلك العمر الذي كان لايامه الاتية أن تظل عالقة في كبد السماء ، حينما تحلق أرواحهما عاليا ، تملآن صبح اليوم الاتي بعيون من جنس خصب. . لا تصحو دقائقه حتى يقعد الموتى الراحلون قبلهما ، كيما يفتحون ملفاتهم العتيقة ، ويطالبون السماء بالقصاص من اهل الحب الذين اقترفوا المآثم . .
فهل للحب ان يعتذر ، وهل للجنس ان يمحو الذنوب ، فيصير يجبّ ما قبله، ويلغي الجرائم. . ويشفع للمحبين ، ويشفع للعشاق ! فلم يكن للجواب أن يأتي ، الا حينما تكون لقاءات الحب قد تجرّدت من بُرَد الأنا..
ولم تكن لتحبس روحيهما في ساعاتهما الاخيرة كل تطلعات ممارسات قلبيهما الجسدي، الا حين تأزف ساعة رحيل الجنس ، فيدق جرس وداع الحب والغرام . .
( 259 )
بينما كانت حدقتا الفتاة قد ارتحلتا صوب الشمس ، بعينيها الجميلتين . . اذ كانتا ثاقبتين ، لا تبصران الا من وراء اجفانها . . ولا تنظر هي حاسرة الاحداق ، لان الصوت كان ارخى الاجفان فوقها ، وأسدل عليهما بهاء عمر طويل ، من سني الحب والنهد والصبا ! كل ذلك كان له ان يجري بهدوءٍ ، ما كان ليشوبه اي وهم !
كانت اجفانها تسلّم على ذلك الشخص الذي كان مستلقيا الى جانبها . .إذ كان هو الاخر ، قد استرسل في غيبوبة سماوية ، أخلد فيها الى نومة حانية ، غاب فيها وجده خلف اسجاف من الحزن الغامض . ولقد كانت عيناه هو الاخر ، مغمّضتي الاجفان ، مثل مقلتي فتاته اللتين كانتا انبعثتا بشوق ، تحت ملاءةٍ من الاجفان ، وسترٍ من الاغشية الحالمة . فكان لها ان تصطاد كل لحاظ ناظريها الغافيين !
وما كان بوسع أجفانهما ـ التي ارتخت تدريجيا ـ أن ينحسرا عن أعينهما، كيما تطأ لحاظَ أحداقه صفحات وجه بلّه الوجد ، تناثر الشعر فوق قسماته . .
( 260 )
الا ان نظرات ممعنة ، كان لفّها الشوق من سنين ، هي التي جعلت تحنو علي ايامهما الاتية ، بموج من اللحاظ الكامن ، في سيل عرم ، كان له ان ينطوي على تيار مدّخر من نشوة النظرات الخالدة . . ولمثل هذه اللحظات ، ولمثل هذه الاوقات ، ولمثل هذه الايام العتيدة.. كي تستنيم عند جسديهما العاريين ، بقعات من الاماني والامال ، تحدث عن قصص الحب ، واشجان السحر في ليل الجنس . . ريثما تحين ساعة الاقدار وتأفل أدوار المجرة الغامضة !
( 261 )
لقد أحبها من كل قلبه ، وانغمس في لذة وصالها ، كمن صار يلعق عسلا نقياً ، جعل يسيل ناضحا من بطون نحله ، حتى انقلب الحب يشّرّب رحيقه الخالص وبكل وعيه ، ليسجل أولى مشاعره الصادقة ، كأول ما يعتد به كذلك . . دافقا ! يستوحيه من كل الافاق ، التي جعلت تتمطى فوق أديم تأريخ عمره الحي. . كأنما صار يشعر ، انه يعود بنفسه الى رحم الزمان ، الذي أنبت في عراه كل رحم ، حينما صارت ساحات وغى قنواته ، تتسع لمهاوى أفئدة العشاق الندية . .
. . بلون الجنس المخمور ، والمتساقط ما بين القناطر والقباب ، المصطبغة بموج الحب ، المنحدر فوق ربيع عتبات تلك المنازل ، التي ظلت جدرانها تكتظ بزوايا دافئة ، غرقى بأحلى مشاعر الود الصادقة ، وأطيب ممارسات الحب المخلصة ، المشحونة بكل مسهب من أحلام الصبايا وأعراس المرايا . .
( 262 )
وهي ترحل في كل مسامات الحيطان ، كيما تسلّق عباب الزمان ، وتغالب شرخا كان وقع في البنيان ، من أجل ان تتعالى على صدعٍ، ربما فجأ ربوع العشق الزاهية ، لينقلب اُخدودا يشق ظهر الارض، حتى يفضح ما بيّتته أصابع الاقدار ، حينما تلد الارض وردة ، نبعت من بين فلذات الحجارة ، فاذا هي تنشق عن غرس ، يظل يحنو على رحم ، كان قد دفعه عبر مجراته التي ليس لها مثيل ، الا في السماوات العلى، حيث ينام الحب ثمّة ثاويا.. حيث يحلق هناك مهد أطباق الثريا !
( 263 )
وذلك عندما يشعر العشاق انهم يعيشون في المنفى، يحيون في هضاب المنفى ، في بيوت المنفى ، في أرض المنفى ، في جبال المنفى، في وديان المنفى ، بين حيطان المنفى ، وتحت سقوف المنفى ، وخلف جدران المنفى ، وفوق صعيد المنفى ، وفي بطحاء المنفى ، وفي ظلال المنفى ، وتحت اشجار المنفى ، بجانب أيتام المنفى ، وأحلام المنافي ، وصبايا المنافي ، وقصص الحب في المنافي، وحكايا الجنس في المنافي !
بعيدا عن مهد كل أرض ، كان لها ان تطلق الحريات ، وتبيح تعاطي الجنس ، كما تبيح أكل الخبز , بشرطه وشروطه ! وذلك عندما تحفل بكل ألوان المدام المدار ، وأنواع العشق المباح ، وأصناف الحب المراق ، وبكل أفانين الممارسات الصادقة ، والخبيئة آياتها المعجزة تحت أشجار التين والنخيل والزيتون . .
( 264 )
ومن دون أن تعلن زوراً : أن السماء كانت قد صادقت على هتك حرمة كل من آمن بزيتون الجنس وبلح المرأة وتين الحب . . لأن السماء ، كانت قد آمنت بحقيقة وجود نهدين جميلين للمرأة ، لكل قبيحة وحسناء ، وصدر رائع لكل فتاة وامرأة ، وقامة لدنة لكل شابة وأخرى ، وخصر بدين ونحيل لكل حُبلى وولود، وردفين جميلين لكل عاقر وعقيم. .
انها كانت قد آمنت بحقيقة وجود كل هذا ، وآمنت كذلك بواقعية وجود غير هذا أيضا ، مما يمكن ان تدور على محاوره نواعير الايام وأفلاكها ، مثلما هي تدور رحى طواحينها على آيات أخر ، وزّعتها السماء على أديم أبشار خلقٍ آخر !
( 265 )
في حين ارتمت الى جانبهما ورقة متوسطة الحجم ، تضمنت اعتذار من رفيق لهما . . اشتملت على وحي كلمات صاحبها ، إذ مضى فيها بالقول :
ـ لم يستجب لي قلبي ، ولم يطاوعني في أن أهتم باغتيال . . مَن كنتُ في يوم من الايام ، أعشقها حد النخاع ! وأغالب حبّي لها دون أن أبوح لها به ! أو أعرب لها عما يعتورني تجاهها ، كما ان الذي يخفق ما بين أضلعي ، ما كان له ان يُجِبني الى النهوض بمثل هذه المهمة، ولو كلفني القعود عنها . . حياتي نفسها .
( 266 )
فلم أصِب منه ، أيما تأييد وموافقة ، ولا حتى في أن أصُبّ كأس العذاب على رأس صديق من أصدقائي، اطفاء مني لنيران غضبة غيرتي الراعدة ، فأخرق بذلك رأس من كنتُ وجدته الى جانب مَن أحب ، فلربما كان لغيري أن ينتهزها فرصة ، كيما يتخلص من منافسه وغريمه ، فينسف جمجمته ، ويُبقي على طلعة حبيبته المقمرة . .
ولربما تركتُ تنفيذ الامر بحذافيره ، لأني وجدتُكَ بين يدي حبيبتي . . ويداها تغازلك . . فعفوتُ عنك لحرمة ودّي لها ، وصوناً للمشتهى الشخصي لحبّ من أحب ، ودفعاً لأنانيتي المتحاملة ، وحفظاً لأيام الودّ العتيقة ، والتي انتحَت لها جانب الهيام من طرف واحد ! فانزوَت جانباً ، تزعّ نفسها من التمرد على واقع الحال ، أو رفضه . .
( 267 )
أووه طوال كل هذه الايام التعفّفية والتي ما خلتها الا سنين عجافا ، لا تمرّ على المرء ، إلاّ كما يمر ليل الدهور الأدهم !
وعليه ، فلم أكن لأزرع في جسديكما الا ما يطلق على الحيوان لتخديره . . اعتذر عن ذلك ، ولكن ما كان لي سوى هذا الحل الاوحد ، لإسكات حركته دون القضاء عليه ، ولها ان تخدّر المرء ساعة نفاذها في جسده . . وليس لها ايما مردود عكسي . .
بل لها ان تنتشلكما من وهدة هذه الحياة السخيفة . . وهذا الزمان المقيت . . وذلك للحظات من الدقائق التي لها ان تحسن اليكما بمزيد من الأفضال . .
( 268 )
سلامي . . اليكَ واليها . . اليها يا مَن لم أزل أتقلّب بين ثنايا أوراد عشقها، وأجترّ آلام صبّها . . ولو ان كل محاولات الحب هذه ، ما كانت تجد وفي نظري فتيلا . . سوى انها تعجّل في نهايتي النفسية ! التوقيع : الحبيب المجهول . . .
( 269 )
ثم لأرجو احراق هذه الورقة واتلافها بعد قراءتها ، وأعتذر عن الاطالة . .
فاني كنت أنفقت وقتاً ثمينا في تحريرها وتدبيجها ، منذ أن كان خرج اليّ الامر السري بضرورة الاقتصاص والتخلص من كليكما معاً ..
فكان حدسي في محله ، ومطابقا لما توقعته من أن أجدكما معاً لا تفترقان . .
كما لم أتسامح معكما ، الا بشرط أن تعملا على اخفاء هويتكما الشخصية وأي وجود خارجي لكما في البلاد ، وان لا تعلنا عن شخصيكما الاصليين ، كي لا تطالني سهام العقاب لِما قمتُ به من ايهام وخدعة في اغتيالكما !
( 270 )
وفي الغد كان ثمة خبر يستأخذ الابصار . . كما استأخذ الابصار مثيله من قبل ، حينما افاق الناس ذات صباح ، ليطالعوا في أعمدة الصفحات اليومية والثابتة ، خطوطا عريضة وعناوين براقة ، تحدّثت كلها عن عملية قتل جماعي ، واغتيالات مشكوك في امرها ، جرائم كانت نُفِّذَت في احدى البيوت ، والناس نيام .
( 271 )
ولقد اوقع الحادث شكوكا متفاوتة في نفوس واذهان المسئولين في الدائرة الجنائية .. فلربما كان المغدور بهم ، عناصر تنتمي الى جهاز الامن والمخابرات . . بل انه ولربما تداعى الي الاذهان ، ان الامر ، ومما لا شك فيه ، لا يكاد يعدو حقيقة ، مفادها انه غالبا ما تعتاد الاجهزة العليا التعامل معه ! وهو ما يمكن ان يدور في حدود ونطاق الاوامر السرية للغاية . . والتي من المحتمل انها كانت قد صدرت الى عناصر خاصة في نفس اجهزة المخابرات والشرطة السرية ، مكلفة بضرورة تصفية اولئك الناشطين الاخرين من عناصرهم !
ويعلم الله فقط ما هي الدواعي الدافعة لذلك، او الاسباب الخطيرة الكامنة خلف هذه العمليات ، والتي لا تجّاوز حدود خنق الانفاس ، التي ربما حاول اصحابها اطلاق تهديداتهم، بالكشف عن بعض الحقائق الهامة والاسرار ، التي ما إن يتم البوح بها ، حتى تتعرض في خلالها الكثير من الاسماء ذات الاهمية ، والعناصر رفيعة المستوى ! الى الاستقالة ، إن لم تتعرض الى الاعتقال والمحاكمة . .
فما يمنع الذئب ان يأكل ربيبه الذئب ، إن كان يهدد حياته ، أو يرى لحمه المكتنز ينزف دما ، وهو يتضور جوعا !
( 272 )
ولكن ! . . فإن كان لهذا الاحتمال الاخر أن يثبت ، فانه كان بميسوره ان يكشف النقاب عن حقائق ، تكمن وراء سلسلة من الجرائم ، وعمليات القتل التي ومن الاكيد ، أن تتوجه في خلالها الشكوك بصناعة الجريمة وارتكاب الموبقات ، الى الكثير من العاملين في السلك الخاص للدولة . .
أو أن تطال فيها اصابع الاتهام افرادا مهمين وبارزين على الصعيد الامني ، أو عاملين نشطاء في هذا الجانب ، وعلى مستوىً بالغ الاهمية ، يعملون في جهاز الشرطة السرية ، او أن يرقى موج الاتهام لينسف حصون الوزارات ذات الاهمية ، ومسئولين كبارا في البلاد !
أو ربما كانت تقف خلف العملية والحادث ، جهات دينية متشددة ، أو علمانية متطرفة ، لها ارتباطات معينة مع اطراف خارجية ، وكانت العملية تمثل بعدا ستراتيجيا مهما مثلا !
( 273 )
هكذا كانت تتحدث الصحف ، ويتناقل الناس الاخبار ، ويتفنن الكثير في فلسفة مواقع الاحداث ، أو اسباب وعوامل وقوع مثل هذه الاعمال الاجرامية !
أما اليوم ، فقد توزّعت أخبار أخرى في الجرائد ، كانت طلعت به على الناس صحف المساء، وذلك لتأخر الكشف عن آثار الجريمة ، ونظرا للطريقة المُحبكة التي كان نفّذ بها المجرمون عمليتهم الاجرامية الخطيرة . .
( 274 )
فكانت الاخبار قد انتشرت فوق الصفحات الاولى لصحف المساء المحلية ، كما تنتشر النار في الهشيم ، حتى صارت تتناقله سائر الدوريات الاخرى ، وفيما بعد. . لتلوكه أقلام كتابها ، وتمضغه نظرات محلّليها ، وذلك على مر الايام والليالي ، مع انها لم تطل عين الحقيقة ، ولم تستطع وضع النقاط كاملة مبيّنة ، فوق كل الحروف! بالرغم من ان عناوين الجرائد ، صارت تتحرك وفق ما تراه تأويلات الصحافة نفسها ، وتحليلات العاملين فيها ، فضلا عن وجهات نظر كثير من المحققين والباحثين ، في مختلف قطاعات الدولة الثقافية والسياسية حتى صارت تتحرك ، وفق مؤشرات ، وتفسيرات متعددة الاغراض والاهداف :
معادلات جديدة وراء مصرع رجل وامرأة في ظروف مشكوكة ، هل يمكنها ان ترسم الخطوط العريضة للاسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه العملية البشعة ! . .
وفي الوقت الذي اكتشفت فيه جثة شخص ثالث ، كان وُجِد في مكان منعزل . . تشير الانباء الى أن القاتل كان شخصاً واحداً . .
طريقة القتل المستخدمة ، تنبىء بأن اليد الضالعة في المأساة كلها : كانت واحدة ! . .
( 275 )
العملية تصعيد خطير في مؤامرات ، لا يُعرَف مَن المستفيد فيها . .
عملية اغتيال رهيبة لثلاثة أشخاص ، في مكانين متفرقين . . كان القاتل قد سعى الى اخفاء أية معالم شخصية ، يمكن أن توحي للاجهزة المعنية بهوية ضحاياه الثلاث ! . .
الشرطة ما زالت تعترف بعدم توافر أية معلومات شخصية ، تعينها على اكتشاف هوية المغدور بهم! . .
تعرّض المقتولين ( رجل وامرأة + رجل) الى اطلاق عيارات نارية ، ومن ثم مورست تجاههم ابشع جرائم تشويه للوجوه والمعالم الشخصية ! . .
( 276 )
لقد أثبت القاتل وبجدارة : انه كان شخصاً جريئاً ، متمرساً حدّ الغليان ، حاقداً على ضحاياه أشد الحقد!..
بعد استخدامه لاسلحة نارية ، عمد الفاعل الى إنفاق وقت لا يُستهان به ، من أجل أن يغيّب معالم المجني عليهم ، وبكل ما كان أوتي به من قوة ، تمثلت في أنواع وفنون أسلحته الباردة !
كان الذئب المأجور ذكيا الى حدّ حيرّ فيه المختصين في تعيين الهوية، انه لم يُبقِ ما يمكن ان يُستَدّل ومن خلاله على الاشخاص المودى بحياتهم !
ربما كان للمقتولين علاقة باحدى شبكات الارهاب الديني ، ثم تمردوا على أسيادهم في لحظة . . متّفقٌ عليها ! كان المجني عليهم تربطهم ببعض : صلات جنسية شاذة ! سمعة الجهات المموّلة للقتلى ، كانت أثمن من أن تُبقي على حياتهم ! المجني عليهم ، كانوا جناة فيما مضى ، وحتى الساعات القليلة التي سبقت الجناية ، فبشر القاتل بالقتل ! . .
( 277 )
الارهاب الديني ، وسياسات التكفير ، والتشدد والتعصب ، تكمن هي جميعا ، خلف قضية القتل المفجعة ! . .
المقتولون كانوا يحملون اسرارا خطيرة ، تمسّ سمعة رجالات في الدولة . وتحسّبا لضرورة التكتم عليها ، وعدم افشائها . . عمد بعض أفراد السلطات المحلية الى التخلص منهم !
الارهاب السياسي أم الارهاب الديني ، أم كلاهما ، أم ان احدهما كان له ان يتطرف تجاه الاخر ؟!..
مَن المسؤول عن عملية القتل الاخيرة : الحكومة أم الفتيا ؟ ! . . رجالات الدولة ام علماء الدين ؟
هل التمثيل في جثث الضحايا ، مما يبيحه الشرع الذي ينفي التمثيل عموما ، حتى وإن كان في الكلب العقور ؟ ! . .
( 278 )
هل ثمة خلاف ما بين الدين والسلطة ؟ وما بين المتدينين والحكومة؟.. أم ان طرفا ثالثا ، يعمل على الافادة من تضخيم الهوة ما بين الجانبين ؟ !
هل هناك تنافس شاخص على السلطة ما بين الاسلاميين والعلمانيين؟.. ام ان صراع الاحزاب بدأ يطفو على سطح التعاملات السلطوية ، من اجل ان يأتي اليوم الذي تعلن فيه الدولة عن حلّها للاحزاب ، وتجميد فعالياتها، وصولا الى حظر أنشطتها بالكامل ، وذلك تحت ذريعة تجنيب الوطن كثيرا من الخصومات والتقاتلات الجارية بين الاحزاب نفسها كي لا يتورط فيها الشعب ، وتكون فيه الضحايا جسيمة ، وكل هذا لأجل مصالح شخصية وابعادا سياسية فردية ؟ !
( 279 )
مَن المسؤول عن آخر عملية قتل رهيبة ! مقولات الدين القديم ، أم الحكم العصري الجديد ؟ وما هو دور الحداثة في اساليب الدين الجديد بين هذا وذاك؟..
أين يكمن موقع المجدّدين من الإعراب في الساحة ؟ ! . . القاتل متدين محافظ ومتشدّد ، والمقتولون ينتمون الى نفس طائفته ، لكنهم من دعاة الاصلاح والانفتاح ! ومن انصار التجديد والتحديث الذين ينادون بضرورة التغيير في كل السياسات التي تنتهجها الدولة!. .
هل كان الارهابيون ـ بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية وغير الدينية ـ أداة في طوع السلطات المحلية ، أو القوى الاجنبية ، أو كليهما ؟ أم العكس ؟ أم ان عمليات القتل هذه ، لا تمثل سوى حرب باردة ما بين الجناح الديني المجدّد والجناح الديني المتطرف ؟ ! أم انها كانت تجري كذلك ، بين الخط المتطرف والخط الحكومي المهيمن ؟ أم انها تصفية حسابات ما بين الجهات الدينية بشتى توجهاتها وبين أنصار النهج الالحادي ؟ . .
( 280 )
إن جهات خفية أخرى ، هي التي تعمد الى خلق اشكال من الفتن ، وايجاد صور من التناحرات ، عبر افتعالها لمثل هذه الجرائم والاعتداءات ؟ ! كيما تخلص الى زرع الاحقاد ، ونشر بذر الحرب الاهلية القاتلة ، وبث الرعب والخوف في نفوس المواطنين ، وقتل العزّل والابرياء ، وزيادة أعداد الارامل والايامى والمنكوبات ، والايتام والمفجوعين والمصابين وذوي العاهات ! كيما تتسلى بعدئذ القيادات في الدفاع عن مناهجها التي تصرح، بانه كان تطلّب الوصول الى تطبيقها ، جملةً من التضحيات ! . .
( 281 )
لقد ذهبت هذه الصراعات بعشرات ومئات القرابين ، ذهبت بالغثّ والسمين ، لم تبق ولم تذر ! بل الاكثر اثارة ان هؤلاء القادة من المتصارعين والمتسببين في كل هذه الحوادث الدموية ، سيتيسر لهم حظا اوفر ، حينما يأتي اليوم الذي يجلسون فيه الى مائدة المفاوضات ، وصولا الى الاتفاق على حلول سلمية فيما بينهم ، وذلك بعد أن تحيك مؤامراتهم المدسوسة ابتسامات صفراء يتبادلونها بينهم ، كأن لم تشتعل الحرب الضروس بينهم ، فيما مضى من أيام! ولم تغن المشاحنات والعداءات فيما بينهم بالأمس أيما شيء ، وكأنها لم توقع العشرات من الصرعى الذين ذهبوا ضحايا الانانية ، والتمسك بالمطامع الشخصية ، والفكر الذاتي ، فضلا عن المصالح الفردية والتي ما دفع ثمنها الا المُغرّر بهم ممن اصغى الى كلامهم ، حتى استطاعوا تمريره في ذهنه واذهان الكثيرين . .
فما كان منهم الا أن استأجروا منه جمجمته ، بحجة الدفاع عن المبادئ وحياض الخلق النزيه ، حتى تناسوا ان يعيدوا جمجمته هذه اليه ، ولكنهم ربما اعادوها الى ذويه ، كي تأخذ القضية ابعادا الهية وانسانية لمثل هؤلاء المضحين ! . .
( 282 )
وتتواصل المقالات والتصريحات :
ان هذه العدائيات والاستفزازات الخطيرة ، سوف لا يحصد ثمارها سوى الانتهازيون ! ولا يدفع ثمنها سوى جماهير الشعب وقطاعاته كافة ، لا سيما المنسحقة من طبقاته ، لانها دائما كانت وما تزال هي القربان الاول الذي له أن يميل ذات الشمال واليمين ، والذي يشكّل عوام الناس فيه نسبة عالية لا يمكن الاستهانة بها ، لانها تمثل حطب الحرب الاهلية ، وخشب نيران الفتن الحزبية ، والتناحرات الطائفية ، والمشاحنات الخطوطية ، والممالآت الجناحية التي لها ان تملأ الشوارع بألوان خطاها ، وتعج الطرقات وممراتها بأقدامها ، والتي ما تفتأ تتوزع ثمّتَ وعلى الدوام . .
فما كانت لطاحونة الحرب الا ان تحصد جموعها كأول ما تصطدم به آلتها ، لانها أول من تضحي وآخر من تنتفع ! وأول من تتأثر بالشعارات ، وآخر من تهدأ عقيرتها التي لا يعرف أصحابها في الاساس ، لماذا كانوا رفعوها عاليا ، وردّدوا صراخها كثيرا ! . .
( 283 )
ان صور الحرب الاهلية ، يمكن ان تتمثل ، وفي واحدة من نتائجها السلبية الخطيرة ، التي يمكن ان ترمز فيها التداعيات ، الى شيوع ظاهرة الانتقامات الشخصية ، والمعضلات الفردية على قارعة كل طريق ، وفي كل شارع وزقاق ، لتمتد الى داخل الابنية والاحياء السكنية والمناطق الآهلة كثيرا بالسكان . . فضلا عن امكانية ازدياد حالات العنف وتصفية الحسابات الجماعية أو تسوية الخصومات الفردية . .
ثمة عناصر وجهات ، تنتظر وبفارغٍ من الصبر ، اشتعال نيران الفتنة بين الاهالي ، كيما تلتجأ الى تصفية حساباتها الشخصية مع من يكرهون ، ويعتزلون ، او يناوئون ، او حتى مع من يخالفهم في الرأي ، ووجهة النظر ! لتنحسر جميعا تحت صورة الواجب المقدس ، ولوحات الشهادة في سبيل الانتصار للمبادىء الحرة ، والتي ما كانت تمثل لدى هذه الطوائف وامثالها ، الا أحقاداً شخصية وانتقامات بائسة . .
( 284 )
كي تعمل ومن خلال ذلك ، عبر التواصل وفي كل حين . .على انتهاك كل المبادئ والصفات الانسانية والعادات الخلقية ، والطباع البشرية ناهيك عن مصادرتها لحرية العيش بكل كرامة ، وذلك بعد أن تنتزع كل الوان الحب والمودة ، وتقلع كل وردة وزهرة ، كي يشيع الرعب والخوف في كل ربع ومدر ! . . وهكذا دواليك !
لتترك وراءها بيوتاً مسلوبة ثياب اهلها ، اولئك الموزعة اشلاؤهم فوق سلالم منزل ، أو على عتبة مبنى ما ، أو مبثوثة هي أوصالهم في غرف النوم او حجرات الطعام . . بشتى المواضع والكيفيات ، وبمختلف الاجناس والاعمار . . فالحقد المؤرث لا يعرف الرحمة بالصغير ولا بالكبير . . لا بالمرأة الحُبلى ولا بالعذراء الباكر . . فالكل ينتمي الى عائلة الشخص الذي كان ينبغي الانتقام الشخصي منه منذ زمن . .
وها هي الفرصة السانحة ، ما كانت قد تأتّت من قبل ، وما كانت مسوغاتها اليوم إلا حاضرة جاهزة ، ورخيصة في نفس الوقت . . لان زمان الحرب الاهلية ، ما كان ليدع للجيش او الشرطة مجالا للتدخل ، الا بعد ان يقع الحابل بالنابل ، وينتهي كل ذي حقد من حقده ، وكل موتور ( حسب معاييره وموازينه الخاصة ) من نصب غائلة ثأره ، وأخذها ممن كان يتحين لهم مختلف أفانين الفرص!..
( 285 )
ان في الوقت ما يزال ثمة متسع عظيم للتفاهم دون التنازع ، والمصالحة دون الصراع ، ونبذ الخلاف وإحلال روح السلام والمحبة والود ، وحلّ الخصومات دون الالتجاء الى العنف والارهاب ، وسياسة الافراط والتفريط، وانتقاء سياسة التلميح والتهديد ، والتلويح بالأذرع والسواعد ، والوقوف في مواقع التشهير والتسقيط ، بغية اثارة الفتن والإحن ، والاعلان عن أبطال المواسم الاتية ، دون أن يتّق هؤلاء . . ربّهم الله الواحد الاحد ! لا في الناس ولا في معائشهم وعلومهم , ولا فيمن يخلّفونه وراءهم من طفل وامرأة . .
بل انهم لا يأخذون بنظر الاعتبار نتائج مثل تلك الفعال على خارطة الاجيال الاتية ومستقبل البلاد.. انهم يفكرون في انفسهم فقط ، إن هم أرّثوا الاحقاد ، واشبعوا نيرانها بريح من ألواح الجحيم ، كيما تهبّ على الوطن ، فلول من اعاصير الطاعون والغضب ، تكتسح الزمان والامكنة ، تصادر الغثّ والسمين ، لتدعها قفرا بلقعا ! كأن لم تغن بالامس شيئا !
( 286 )
فتتهافت عليها عندئذ فلول الاجانب ، وجنود الصعاليك ، كيما يتناهبوا ارث بطل من الابطال ، كان الموج قد دفع بجثته نحو الساحل . . وان كان لقسمات وجهه الباسلة ، أن تخلّف في نفوسهم من آثار الرعب والفزع ، ما لا تدعهم يجرأون على الدنو منه ، والقرب من جسده المسجّى ثمّة ، الا على كُرهٍ ووجل !
وكأن الخوف من عدم موته , مع يقينهم القاطع به ! لا يزال يخيّم شبحه على أخيلتهم ، فتراهم يتصورون، أنه وفي حال الاقتراب منه ، فان احدى يديه ستنسل سراعا ، لتقبض على أطماعهم الدنيئة ، وان جفنيه سينحسران عن حدقتين ساحرتين ، لهما ان تنتقما من غريمهما ، وتنقضا على فريستهما بأقل من لمح البصر !
( 287 )
فما يزالون على ذلك ، حتى يفد عليهم ما يبدد مواقع الشك ، ويرفع أستار الريب . . وعندئذ تراهم يتنازعونه على مضضٍ من التردد والاعتقال ، تتجاذبهم رهبة الايات السامية ، والامل في الانحدار الى سفاسف الرغبات القاتلة !
ولا بد من التذكير ، بأنه لا تدور طواحين الحرب وعواقبها ، إلا على من أشعل فتائلها ، وأوقد نيرانها . . كأول ما لها ان تتحرك مستشيطة.. فعلى الباغي تدور الدوائر ، لأن من حفر بئرا لأخيه وقع فيه ، فكيف من يحفر بئرا لشعبٍ ، وبأسره؟ !
( 288 )
وفي ظهيرة احدى ايام الشتاء المشمسة والدافئة ، كان هناك رجل وامرأة ، يمشيان معاً ، جنباً الى جنب ، في احدى المتنزهات . كان الحب يعمر في صدريهما ، حيث كانت آماله ، تمتد بآفاقها القصية حيالهما ، دون أي حدود .
امتدت أصابع كفّيهما ، تقترب الواحدة من الاخرى .. انعقدت بهدوء لذيذ .. لان شعاع الشمس الدافئ كان يمتزج مع لسعة البرودة القارصة .. وكما لو كان جسد كل منهما يطلب الدفئ عند الاخر . وكما لو كانت اصابع الاكف لديهما ، قد غدت خيط دفء رشيق، يصيب كل الحواجز التي لها ان تقوم بينهما ، فنسفها ويجعل منها رميما بائدا .
قال لها :
ـ انكِ اشرف امرأة ، كنتُ عرفتها بين النساء !
( 289 )
فقالت :
ـ حتى لو كنت اعمل ناشطة في مؤسسة لتجارة الحب والجنس ، وباشراف القطاعات الخاصة أو العامة منها، والتي بدورها كانت تمتثل الى اللوائح القانونية والشرعية ، المصوّت عليها في المجلس النيابي ، برعاية حكومية من قبل وزارة الصحة ، وجهاز مراقب يعمل على تولّي المتابعة لتقارير العمل في مثل هذه المؤسسات ، والنظر في صحة الشكاوى الواردة اليه بصدد بعض المخالفات او التجاوزات التي يمكن لها ان تحدث في مثل تلك المؤسسات والدوائر التي ما صادق على تأسيسها البرلمان الا لحل ازمة الجنس الخانفة في البلاد ، وازالة عقدته من تأريخ الاجيال ، والعمل على ايجاد فرص العمل للنساء والفتيات ؟
( 290 )
فقال لها متعجبا :
ـ كل هذا تلقينه على مسامعي لانك كنت تعملين في دائرة لبيع الحب بالنقد والاقساط .
استطردت قائلة :
ـ نقد الهوى جملة وتفصيلا .
فأقر لها معترفا :
ـ صدقيني انكِ اشرف من كل من تعاملتُ معهم !
بينما أكدت له مفردة من مفردات مناقبه :
ـ جميل منك ان تحترمَ مشاعر كافة شرائح البشر .
فقال لها :
ـ انك اشرف قديسة عرفتها فطرتي التي تمكث في قلبي .
( 291 )
ـ لاني اصرح بما يعتمل في نفسي ؟
ـ ليس ذلك وحسب ! بل لان ثمة آخرين يرددون الكثير من الكلام ، ويطالبون الناس بعمل الحسنات ، عبر النصح والمواعظ ! مع أنهم أول من لا ينتهي ، عما ينهون الناس عنه . . لكنكِ ما طلبتِ مني شيئاً ، الا وجدتُكِ سبّاقةً اليه ، ومن قبل أن تبادرينني الى صنعه !
( 292 )
بعد لحظات صمت ، اعقبتها نظرات ساكنة، كان تبادلها طرفهما ، قالت له ، وهي ترنو اليه بنظرة حالمة، كانت مسهبة في الاهتمام :
ـ ولكن العالم تراه الان ، يتحدث عنّا ، كما لو كنا قتيلين ، ميتّين !
فقال لها :
ـ اجل ! فهذا ما سيجعل البشرية تفهم رسالتنا بصورة اوضح ، واسرع ، مما لو كنا احياء نطمع في اقناع مَن حولنا بصدق رسالتنا !
ولكنها تساءلت :
ـ ولكن هل سيذعن الناس لافكارنا عمليا ، بعد ان يؤمنوا بها ؟
فأجابها :
ـ هنا اصل المشكلة ! فلربما آمن بها الكثير ، او البعض من هذا الكثير ، لكنه بالتالي ، لا يذعن لها عمليا، ولربما ..
( 293 )
ثم قالت :
ـ ولربما ، لم يؤمن بها البعض الاخر ، لكنك تجده يذعن لها عمليا !
فقال لها هذه المرة :
ـ بل ، قولي ربما كان يراه الناس في ضمن من لا يؤمن بها ، غير انه كان يذعن لها عمليا ، ومن قبل ان نعلن نحن عنها ! أو ندعو اليها .
( 294 )
وفجأة ، ما كان له ، إلا أن يغرقها وتحت اشعة الشمس ، بسيلٍ من قبلاته المجنونة . . وهو ما كان يحتضنها الا بهوَس محموم متفاقم . فاجأها تصرفه المباغت هذا ، والغير مكترث بما حوله من الناس . .
( 295 )
قال لها بعد ان طالَبَته بالكف :
ـ إننا نعيش في بلدٍ لا يقع فوق الخارطة ! واني حقا لا امزح ، ولو بحثتِ عنه في اطلس الخرائط ، وامعنتِ كل الامعان ، وأعملتِ كلّ جهدكِ ، فما كان لكِ ان تجدينه قطعاً ! لأن أرضه ما كانت ، إلا أرضا آمنت بربها حق الايمان ، فآمن أهلها بعرف الرب الحقيقي، ودينه الحقيقي ، ومفاهيمه الالهية وعقائده الحقة . واذا بمثل هذا البلد الامين ، الذي تقوم مساحته فوق هذه الارض التي حفاها الله برحمته ، وحَبا أهلها بمزاولة أعمالهم بمطلق الحرية . . وإذا بمثله أن يعطف علينا ، وعلى مثل هذه الممارسات . . ومن ثم ليشفق على أهلها كثيرا !
( 296 )
ثم أتبع حديثه بوصف للمشاعر :
ـ اننا سعداء حقا ، بل اننا محظوظون فعلا ! لأننا نمتلك حرية العمل بالكثير مما نؤمن به . ولدينا حرية التعبير عن الرأي ووجهات النظر ، حتى ولو كانت لا تتم الا بالشكل العملي ، من مثل ان نمارس الجنس هنا في المتنزه ، ومن دون ان نثير حفيظة أحد !
( 297 )
ثم استدرك ، وهو يتملى النظر فيها باسماً :
ـ فثمة ما يبهجنا حقا ! حينما نفعل ما نرغب بصنعه ، لاننا نحب ! وعليه ، فانه يمكنني ان اعبر عن هذا الحب امام الناس ، وأن أترجم مقدار حظي وسعادتي منه ، امام انظار الجميع !
مع اني لم اتجاوز الحد المعهود ، فضلا عن ان مثل ممارستي هذه ، ما كان لها الا ان تزيد من حسد الاخريات حولك ، فيندفعن لمنافستك ، حين يقترحن على ازواجهن صنع ما نصنع !
بل ، ان القيام بمثل هذا ، ما كان ليمثل الا تحركا تنمويا لكل مشاعر الحب والمودة يتم ايقاعها في ضمن الحدود الشخصية للحرية الفردية ، فليس لأحد ان يتّهمنا بتجاوز العرف والتقاليد . بل على العكس ، فان مثل ذلك التصرف من قبل ذلك الشخص ، سيعتبره القانون وفي حدّ ذاته ، تجاوزا صريحا من قبله ، على حرياتنا الشخصية ومعتقداتنا الانسانية ، بل كان سيعدّه تدخّلا صارخاً وممقوتا . ولربما كان لنفس القانون أن يحاسبه على جرأته ، ويعاقبه إن أخطأ وأعاد الكرة في مرة تالية معنا ، او مع آخرين !
( 298 )
فقالت له ، كمن كان علق ذهنها في مقطع واحد لكلامه ، كان له وحده ان يستقر في رأسها ، هو بحد ذاته ، لا غير ! ولم تكن لتهتم بما قال في جملاته الاخرى . ولقد كانت تعبر عن مشاعرها الكلامية بكل غبطة وبهجة :
ـ واذن ، فانك لتعترف بأن النساء يقترحن، ولا يفاجأن ازواجهن بأفعال الحب ، كما فعلت أنتَ معي وابتدرتني فجأة !
( 299 )
وبكل فرح وسرور قال لها :
ـ هذا ، وبكل تأكيد ! ولكنكِ ، كنتِ قد نسيتِ أن مقترحهم هذا ! ما كان سيجيء ، الا بعد أن يفاجئن أزواجهن بما كنتُ قد فاجأتُكِ به . ومِن ثمّ ، كنّ سيقترحن عليهم ، أن يقابلوهن بالمثل !
* * *
جمال السائح
تمت الرواية بعون الله تعالى-وان فضل الله كان علينا كبيرا