دراسة تحسين كرمياني عن رواية الصندوق الأسود

رواية الصندوق الأسود.. لكليزار أنور
رواية ناصعة لعبتها الإغواء بالحقائق
تحسين كرمياني
أن تكتب رواية واقعية، عليك أن تخوض في بحرٍ عميق، وأن تهبط إلى قاع الواقع، إلى دهاليز تشربت مداركك قسوتها، وأدمنت ذاكرتك فوضى كائناتها، فالواقع رغم تقلباته كتاب مفتوح، قد تخطأ في توليف فوضاه، أو تشطح قصياً عن متطلبات ديمومته، أن جانبت الصدق في حصد حقائق تضج بها حياة صاخبة تتشعب على قدم وساق. ففي رواية كليزار انور (الصندوق الأسود ) حكايتين متوازيتين. الأولى.. سيرة بطلة كاتبة –ربما- والثانية حكاية (تيجان شوقي) هي ايضا (كاتبة قصص ناجحة)، تختار(الخليج) لنشر ما تكتب، سرعان ما تجد نفسها مرغمة طبعاً لأسباب تتعلق بموهبتها وربما بما تسكنها من آلام وأشواق ومشاريع لتغير واقعها وواقع بلدها، تجد لنفسها صفحة ناصعة تستوعب لعبتها لإغواء القرّاء بالحقائق، وتفلح بكشف أوراق حياتها قبل أن تحصل القطيعة الدائمة مع قلبها.. نجد الرواية تبدأ من مكان يمنح الحياة لمن فقدت كينونتها، مشفى في (سوريا) لأعاده الأمل وديمومة الحياة، ست عشرة امرأة من مختلف الجنسيات، أبتلين بجفاف أرحامهن، أو عقم أزواجهن.. الرواية واقعية، سيرية، تقترح حالة البحث عن طفل، وأحداث الحرب، وما جلبت لنا (القرية الصغيرة) من سرعة المكاشفات والاتصال، ثيمة لقول ما ترغب الكاتبة البوح به صراحة وما تحمل من هموم شخصية وقوة انتمائها لبلدها، ورغبتها في الكتابة، كلها تجتمع لتكوين نسيج الرواية. تبدأ الرواية بمشكلة شخصية: من أين تأتي المصائب..!! لابد أن الحرب هي من جلبت هذه الأمراض عبر الصواريخ والقنابل الكيمياوية والقنابل العنقودية والغازات السامة، وعبر الأطعمة التي غزت البلاد أسرع من وقت سقوطها، والمشروبات التي لم تعد تخضع إلاّ لرقابة المفسدين في البلاد، لابد أن العدو فكر أن تدمير عدوه يبدأ بتعبيد طرق سالكة لقص جذوره، وقف أنهر إمداداته البشرية، بث الفساد في دمه وعقله تحسباً لحرب مستديمة طالما هناك من يستفيد من مصائب القوم، أذاً هي رواية تحكي اقتناص مرض بلاد لم تشفها عقاقير الحرية وأمصال الديمقراطية ولا وعود الدول المانحة، وكل مناقشات الطاولات المستديرة والاتفاقات الكتلوية المبرمة بين الكتل السياسية المتراصة حول الكعكة أكثر مما تتكاتف حول الأوضاع المزرية والمشكلات الشعبية المتفاقمة وفلتان الأمن بغية حلحلتها، مرض يفتك بالجيل القادم ويروج لعميلة تهريب أموال ضخمة لدول شيطانة عرفت كيف تأكل أكتاف الخرفان ومن أين، وتلك من فوائد مصائب قوم لا يعقلون، خلافاً لرأي يسرف في القول ويلح في التأجيل على أن الأعمال الأدبية الكبيرة والخالدة تولد بعد زمان طويل من زمن حدوث الحوادث المقتنصة لكتابتها. نستشف من ان بطلة الرواية الرئيسية هادئة في شخصيتها، رقيقة، تحمل في جوفها قلباً حافلاً بالحياة، وصدراً يسع أحلام شعبها، وعقلاً يراقب من كثب كل صغيرة وكبيرة تحصيها وتدسها في صناديقها السوداء، لا تميل إلى فن (التأجيل) ،تكتب ما ترى و تدسه في صناديقها. اما لغة الرواية فهي عاطفية، حريصة، حالمة، موج ماء رقراق يتدفق، سنا أمل جاذب، الكلمات عنادل تغرد من غير أن تعرف أن الليل خلق لباساً والنهار تغريداً ـ تأخذك بسحر سردها من المبتدأ إلى المنتهى عبر طرق معبدة، سالكة، غير مخيفة.
الرواية منذ السطر الاول تجعلك أن تفتح ذهنك، وتصب كامل جوارحك على سحر مركب جميل يمضي بك ضفة لابد أنها ستظهر حين ينتهي موج الكلمات، وربما تمضي حالماً بحياة تتمنى أن تدوم، حتى تجد نفسك غارقاً في حيرة وسؤال، يطفح كيل السؤال: هكذا تخلد الأعمال..!!.كون لغة الرواية تمتلك لعبتها الماكرة (إلى أبني الذي لم يأتِ).. صرخة صامتة لامرأة ما تزال تحدوها الرغبة أن الله خبأ لها في علمه يوماً آتياً لا ريب فيه، صرخة (امراة) حالة عامة، من ينقذ نساءنا من هذا الهم الضاغط. [ما قبل..المفكرة..ما بعد]. كنت في تجوالاتي الدائمة، تتناهى إلى سمعي جمل سريعة، مقتضبة، تحمل دلالات، تعيها أذن صاغية، مثلاً يوعد أحدهم زميله: سأقابلك بعد الضربة..!! وآخر يقول لصاحبته: لم لم نتزوج قبل الضربة..!! هكذا يؤرخون ناسنا تواريخ حياتهم ويكتبون في مفكراتهم اليومية تفاصيل تطوي آلام ومجاهيل، وكانوا يعنون بالضربة (ضربة أمريكا) الكل راسخ اليقين أن العدو آت، وليس هناك حيلة باليد كي تنجو الحكومة من الغول القادم لابتلاع كل شيء، النفط الأسود، الناس، البنايات، الشوارع، الأحلام، الأشجار، الأنهار، مختصر مفيد (تفليش) حضارتنا القديمة وبناء حضارتهم على أنقاضنا، وتوقف سماء بلادنا من سكب دموعها الشتوي كل حول لتنمو وتزهو خيراتنا. (البطلة) جمعت هذه الأشلاء في صندوقها المفتوح، وعبر يوميات قالت عنها أنها تكتبها كما هي، لا تريد أن تعيد صياغتها، كي لا تفقد حرارة لحظتها، أو تضيف مجريات أحداث تتالت على البلاد، وبالتالي تفقد تلك العفوية والبساطة المؤثرة عند المتلقي، يومياتها في المفكرة، أو يوميات العاشق المخادع صاحب (الصندوق الأسود) القادم عبر بريدها (الإلكتروني) ـ ـ والمسحوب على (الفلاش ميموري) لتقرأها فيما بعد مع زوجها (الذي يشاركها بطولة الرواية). يومياتها كتاب بلد سقط في ظرف سبعة أسابيع، بلغتها الشاعرية، اللغة المرهفة، الحيوية، النشطة، المتفتحة، قالت بل اختزلت ما لاحقتها فضائيات وصحف وكاميرات، وأنهت بعض أيامها بجمل بالغة الشعرية والحكمة، فلسفة الكاتبة وربما أسئلة مقصودة للقارئ، وتمضي إلى اليوم الخمسين، لترسم مستقبلاً بلون صندوقها، يأس متواصل، أحشاء ترفض الإخصاب، حرب صنعت أجيالاً من المفرهدين، بلاد فقدت كيانها وأفرغت مقومات بقاءها، فانزاحت اللغة من مكانتها المرموقة وشعريتها الواضحة ولبست عباءة اليومي والمعيش، لكنها عبّرت بذهنية الكاتبة وثقافتها المتجددة عن الألم والخوف والأمل، عن حكاية بلاد دمرها (رئيس) جنح إلى الفوضوية والقبلية والتفرد في سيرته، قبل أن تأتي رياح التغيير متسلحة بكل أنواع الآلات التدميرية ووحشيتها لتأتي على ما تبقى من القيم والأخلاق وأجساد ناس فقدوا حياتهم مذ ولدوا.
ثمة في الرواية إشكالية تلتبس على القارئ، فهو أمام قصتين تتداخلان وتتفارقان، زواجان مختلفان، أحدهما عبر(الانترنت) والآخر عبر لقاء، ويتم المكاشفة عنه عبر البريد الالكتروني، الزواج الأول يتم في (سوريا) والآخر في (دبي) وتكون النهايتين مفجعتين، فرحيل (ماهر) يقابله المكالمة الهاتفية حول خبر (فشل اختبار الدم) وتقاطر الألم، نهايتان تتوازيان في صناعة السواد الدائم. تثير(كليزار أنور) جملة أمور تتعلق بفن الرواية، الثيمات، عدم اختراق المحرمات، تستشهد/ بأورهان باموق/ في روايته (أولاد جودت بك) على أن الشهرة لا تأتي من تناول موضوعة الجنس، بل بالعمل المعتدل، العمل الذي لا يخدش الحياء، لا يثير الحفيظة، وتضع الكثير من الروايات في خانة الرتابة، أو (تحت الحزام) كما تصف، هنا نجد أن الكاتبة تحاول أن تطرح رأيها أو على أقل احتمال تريد أن تعلن عن منهجها في الكتابة، فالرواية مدارس، وكل روائي يمتلك منظاراً يليق بمزاجه ونظرته إلى الحياة، وتجاربه الشخصية..!!.
فـ(الصندوق الأسود) رواية عراقية خالصة رغم أن الكاتبة أطعمتها برحلتين إلى (دمشق) مرتين وإلى (دبي) مرة، لكنها ظلت تدور حول فلك الواقع المر للعراق، وفقدان الأمل لكل مناحي الحياة، رواية راهنت على التحدي وحملت راية الحرب من أجل كينونتها، من أجل غدها، رغم تواجدها الدائم وسط براكين لا تخمد ومستنقعات تتسع وأغوال تتوالد، رواية كانت لزاماً أن تكتب، لأنها تعالج محنة مشتركة وحلماً بعيد المنال في ظل واقع لا يرحم ولا يريد أن يترجل من غليانه المتواصل، ست عشرة امرأة اجتمعن في مكان واحد خارج أسوار البلاد، من أجل كتابة أساطيرهن، فالطفل هو ديمومة حياتهن، واحدة من بينهن (كليزار أنور) تمكنت أن تكتب أسطورتها، بلغتها العراقية المشرقة. فيبقى السؤال هل تتمكن كاتبة أخرى من أن تكتب لنا من وجهة نظر أخرى أسطورتها لتكتمل الصورة ويتضح المشهد الأليم وساعات المحنة والأرق والانتظار والخوف والصدمة فالآلام العظيمة هي التي تهب موجبات الخلود.
***
نُشرت في جريدة (الأتحاد) في العدد (2878) بتاريخ 16/ 1/ 2012

View gulizaranwar's Full Portfolio