قراءة في رواية (الصندوق الأسود) لكُليزار أنور
صباح سليم/ الموصل
ليس غريباً أن تتخذ رواية (كُليزار أنور) الصندوق الأسود, الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 2010.. والتي تتكون من (159) صفحة من الحجم المتوسط, شكل سيرة ذاتية وبخاصةً إذا اعتمدنا في تحديد مفاهيمنا الروائية على التحليلات النقدية التي تربط البنية القصصية بالبنيات المجتمعية وتجلي التأثيرات الاقتصادية الكامنة وراء الإبداع الفني. إن اعتبار الرواية عالماً عاكساً للقيم والعلائق القائمة في مجتمع الكاتب, رغم الشكل الخيالي أو الغامض أحياناً, هو الكفيل بأن ينير جوانب التجربة الروائية. ويسعفنا من ناحية ثانية على استشراف مجالات التطور في المجتمع, وبطبيعة الحال, فإن هذه المقاييس النقدية التي أشرت إليها لا تعني بالضرورة تطابقها مع الرواية التي أنا بصددها في هذا المقال, إن اتخاذ السير الذاتية شكلاً للتعبير عن الذات وعلاقتها بالمجتمع, ليست ظاهرة قاصرة علينا فنحن نجدها واضحة وقوية في الإنتاج الروائي الغربي والعربي ففي العشرينات الأولى من القرن الماضي -(زينب لهيكل، وإبراهيم الكاتب للمازني، والأيام لطه حسين)- مع التباين التاريخي والزمني, لقد شرعت كُليزار في كتابة سيرتها الذاتية أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق, وهي الفترة التي تعاظمت فيها أحداث العنف, لذلك نحس إلى جانب الحوافز الدفينة التي تحدو الكاتبة إلى البحث عن (زمنها الضائع) واستخلاص ذكرياتها الأليمة والطريفة من بين براثن العدم, وبذلك الانتقاد الذي تدسه في اشفاق, لتعبر عن حبها لوطنها, وحرصها على أن تتوفر له أسباب الرقي والعظمة على نحو ما اختزنت ذاكرتها في مرحلة الطفولة (تفاجأت ما أن هبطت قدماها على أرض المطار تبخرت أحلامها, لم يقل لها والدي بأن أصغر قرية في بلدها أكبر من عاصمتنا الحبيبة) ص 40 التركيز على تصوير بيئتين متناقضتين.. قد يظن البعض بان في الطفولة تصوير واقعي لحياة قطاع من شريحة الطبقة الوسطى خلال فترات عدم الاستقرار في العراق, ولكني أعتقد شخصياً أن الرواية السائدة والتعليقات التي يقدمها (وعي الكاتب) عند تجاوزه مرحلة الطفولة, هي رؤية رومانسية وطنية لا تقصد إلى تشريح الواقع وإبراز المحركات الفاعلة في المجتمع,بقدر ما تتوخى اقتناص اللحظات الرائعة (الألم أيضاً رائع) وتوجيه الانتقادات العامة, والأمثلة كثيرة على التعميمات الرومانسية التي تنجذب للتفكير المثالي, وتطلق أحكاماً مطلقة.
إن جوهر المرأة في كل زمان ومكان سواءً أكان ذلك في عصور الانحطاط وعصور الرقي البشري, لأن الواجبات التي فرضتها عليها الطبيعة والقيود التي فرضها عليها المجتمع, لم تستطع في أي وقت من الأوقات أن تصرفها, لا أقول عن مستلزمات الأنوثة والتفاني في الزينة فحسب, لكنها لم تستطع أن تصرفها عن واجبها الأساسي وهو الإنجاب والأمومة, وهذا ما بدا واضحاً حتى في إهداء الرواية (إلى ابني الذي لم يأتِ).
ولقد لاحظت أن تقنية الرواية ترجح دائماً الجانب الداخلي في تجربة الكاتبة على الجوانب الخارجية من أحداث أو تصرفات, وإن الذي يتحكم بالعمل الروائي هو ارتباطات كُليزار بواقعها الحياتي, وتاريخية هذه الارتباطات في نفسها.
وقد اعتمدت تقنية الرواية على طريقتين هما إيحاء الجو, ورصد التداعيات. والحديث النفسي, وهنالك السرد والتحليل, أكثر بساطة ولا يتعارضا مع رصد المضامين, أو توضيح مناسباتها. وقد لوحظ أن السرد فيها رغم ارتكازه على تجربة الكاتبة وخصوصيتها من هموم ذاتية أو سفر إلى مدن متعددة,إلاّ أنه ظل يتسع لمشاهد انتقادية صريحة عن الحياة العائلية والمسلكية, أو مشاهد تحليلية عن الاحتلال, وانفعال الناس به كل ذلك يمكن تعقيله في اتجاه خدمة الفكرة الانتقادية للرواية.
وكلنا ثقة في إبداع كُليزار أنور وقدرتها على التطوير –والتجديد- وأنها سوف توظف أكثر فأكثر إمكانياتها ببراعة, فستفيد فكرياً وفنياً من كافة عناصر السرد, ولحظات ارتباطاتها في اتجاه الحياة والواقع.
*نُشرت في جريدة (العربي) العدد (47) بتاريخ 8/ 12/ 2011.