دراسة حامد فاضل عن قصة (المفتاح الذهبي) لكليزار أنور
الإنزياح المكاني في قصة (المفتاح الذهبي) لكليزار أنور
تجريد حسي للمكان الوهمي
حامد فاضل
الأدب بشكله العام، هو إنتاج إنساني، سواء كان أنثوياً أو ذكورياً، فهو مع تعدد ما في سلته من تنوع فنون الإبداع الأدبي/ شعراً/ سردا / مسرحية / مقالة/ نقداً/ بحثاً /.. موحداً في المعنى الكلي لرسالته المرسلة من الإنسان الى الإنسان، شأنه شأن باقي العلوم التي يتعامل معها العقل البشري بايجابية، لتطويعها لخدمة بني جلدته من البشر.. ومثلما لا يحق لنا تقسيم علم الهندسة الى هندسة نسويه وأخرى رجولية، أعتقد وبتواضع أنه لا يحق لنا أن نشطر مدينة الأدب السامية الى صوبين، الكبير منها لأدم، والصغير منها لحواء، لأننا أن فعلنا ذلك نكون قد مارسنا سلطة القمع، وسطونا على حرمة أرض إبداع نصفنا الآخر، لنظللها بغمامة العتمة الذكورية الكامنة فينا، فتهتز أرضنا كأدباء رجال وتربو على عكس أرضهن، وبعدها قد نلجأ الى ترسيم الحدود التي ستكون نتيجتها مجحفة بحق الأديبات من النساء، وهن على قلتهن يهمسن بصوت كالصراخ: لا تنسوا اننا هنا في حقل الأدب لا نمثل النَدَ لكم، وإنما نحن/ الرافد/ الداعم/ المكمل/ لنهر الأدب العراقي المنبثق من ذرى أعالي قمم جبال الشمال، ليسقي أخر حقل بردي في أهوار الجنوب.. وكم من رجل شاعر أو سارد تقمص دور المرأة، وكم من امرأة شاعرة أو ساردة تقمصت دور الرجل، وراح كل منهما يمثل دوره بحرفة عالية، وهما يستخدمان أسلوب السرد الذاتي، فقدم الرجل قاصاً المرأة بضمير المتكلم، وقدمت المرأة قاصة الرجل بضمير المتكلم أيضاً، والأمثلة التي تؤكد ذلك كثيرة ومتعددة، تضيق بها مقالتنا المبتسرة هذه .. أسوق هذه المقدمة وأنا بصدد تقديم قراءتي المكانية/ الحسية/ والوهمية/ لقصة (المفتاح الذهبي) للقاصة كليزار أنور، التي قرأت لها قصصاً متناثرة هنا وهناك، لكني لم أحظ بقراءة مجموعة قصصية لها، رغم ظني أنها ربما أصدرت أكثر من واحدة.. وسبب اختياري لهذه القصة ذات العنوان اللامع، هو أن كليزار أنور ربما حفرت اسمها على جذع نخلة إبداع القصص العراقي، بعد فوز قصتها هذه بجائزة مسابقة إذاعة (BBC ) عام 2003 ، كما انها رسمت صورة سردية حداثوية للمكان، منطلقة من دلالته الوضعية الى مشهديته المخيالية، أي انها حاولت النفاذ من أطار المكان الحسي الى المكان الوهمي أو المتخيل، عن طريق الانزياح التخيلي أو الحلمي.. هذا الانزياح من المكان المادي الى الميتا مكان، يترجمه الناقد ياسين النصير بقوله: (أن تكون ضمن مكان معين، وفي الوقت نفسه خارجه، وأنت فيه) ــ حواريات زهير الجبوري مع ياسين النصير صدرت في دمشق عام 2008 عن دار نينوى تحت عنوان “المكانية في الفكر والفلسفة والنقد“ ــ وارى أن البنية اللاشعورية التي تمثل سداة الحياكة السردية لقصة (المفتاح الذهبي) تكونت لحمتها في وعي القاصة من خلال اختيار الأسلوب السردي الذي نسجت قصتها على نوله.. يقول الباحث المغربي شرف الدين ماجدولين: (إن المبدع يمكنه أن يعثر في موضوعات الطفولة على منبع فني ثر، إن هو تمكن من تحويل تلك الموضوعات الى سمات طفولية مشعة، وتبعاً لهذا النمط من الفهم قد يجد القصاص في طفولته الشخصية، أو في طفولة الآخرين المتخيلة أسلوبا تعبيرياً يسعف في تحبيك السرد، وتجسيد جانب من القيم الإنسانية ) ـ شرف الدين ماجدولين ، الصورة السردية في الرواية والقصة والمسرح والسينما، منشورات الاختلاف ، الجزائر 2010، والذي أراه قد جاء في قصة كليزار أنور (المفتاح الذهبي) على مستويين من الانزياح المكاني، الأول مفتاح الطفولة في المكان الحسي، والثاني مفتاح النضج في المكان الوهمي.
أولاً- مفتاح الطفولة في المكان الحسي:
ترتبط صور الجدات بمخيلاتنا بالمكان الحسي، المتمثل بـ/ المنزل الأول/ الحضن الدافئ/ الموقد الشتائي/ وبما يترع المخيلة بالحكايات، ومخيلات الطفولة صناديق مقفلة على زمان البراءة، ولكل منا صندوقه ومفتاحه، وهو وحده العارف بمكنون الصندوق، والمكان الذي يخفي فيه مفتاحه، وهو المكان الذي يتطلب الوصول إليه العودة من مرحلة النضج الى مرحلة الطفولة عن طريق استرجاع صور الطفولة.. وبرغم أن القاصة كليزار أنور لم تفتح لنا صندوق طفولتها، إلا أنها مهدت له بصندوق جدتها القديم الذي استلمت مفتاحه وهي شابة يافعة .. كما أوحت لنا بالمكان الحسي من خلال الحوار التمهيدي المفتوح، الذي جرى بينها وبين جدتها عند استلام المفتاح، ولكي تهيئ أذهاننا، تركت باب صندوق طفولتها موراباً، كي تحثنا كقراء على الولوج المتخيل الى طفولتها، ومشاركتها في حبك القصة عن طريق الإيحاء الذي مارسته علينا بمفتاح صندوق الجدة، المعادل لصندوق المخيلة في مرحلة الطفولة (لم أسعد بشىء مثل سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي. نادتني في غرفتها.. وأخرجت من صندوقها القديم، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير.. كانت رائعة، فنطقت مندهشة:
- الله ما أجملها!
- استعمليها.. كتعويذة.
- طلبت مني أن أستدير.. طوقت عنقي بها، فركضت نحو المرآة.. وضعت يدي على المفتاح الذهبي لأتحسس جماله على صدري.. قلت ممازحة:
- هل بإمكانه أن يفتح شيئاً؟!
- ربما! فقد تحتاجينه يوما.)
الصورة الحوارية هذه صورة مثالية إيحائية.. إن جواب الجدة المحفز، ترك لمخيلاتنا خيارات عدة نستطيع من خلالها التماهي مع مخيلة القاصة، لتظهير الصور المتخيلة السالبة وتحويلها الى صور حسية موجبة تكون المبشرة بالصورة اللاحقة في القسم الثاني من زمن القصة وضمن المكان الحسي الموزع بين البيت والعمل.. حيث ماتت الجدة، ومرت سنوات على تخرج الحفيدة التي مات أبوها أيضاً، لتتزوج بعدها من رجل بادلته حباً بحب، وكان المفتاح هو السبب.. وجدت مالكة المفتاح زميلها في العمل يحدق في صدرها.. فاستغربت، لأنه من النوع الملتزم، الذي لا يقدم على التصرف غير اللائق سواء معها أو مع زميلاتها فسألته:
- ماذا هناك؟!
- المفتاح!
- أي مفتاح؟
- منذ أول يوم رأيتك فيه ورأيت مفتاحك هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك.
وتتساءل وهي في شك من قدرة المفتاح السحرية (لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي، فمن الطبيعي، والطبيعي جداً، ويحصل كثيراً ومع غيري أيضاً أن أعمل في مكان ما، ويحبني زميلي ويقرر الارتباط بي.. وللزمالة ــ دوماً ــ الدور الكبير في جمع اثنين تحت سقف واحد!) نلاحظ هنا أن مكان الارتباط مكان حسي، وهو بيت الزوجية، أو ما يعبر عنه عادة بالقفص الذهبي، ولعل القاصة استعارت عنوان القصة (المفتاح الذهبي) من هذا التعبير الشائع.. ومثلما كان للمرأة صندوقها الموصد على زمان طفولتها ومكانها الحسي، كان لزوجها صندوقه الخاص الموصد على زمان طفولته ومكانه الحسي، وكلا الصندوقين يفتحان بالمفتاح الموروث نفسه.. والصندوقان هما اللذان يتحكمان في صياغة شخصية واستقلالية كل من المرأة وزوجها، وإن لم يظهرا في القصة، أو يسفرا، ولكنهما موجودان بما يوحي به سياقها العام (جمعنا النصيب رغم اننا كنا طرفي نقيض.. غرب شرق، شمال وجنوب، موجب وسالب.. نختلف في أرائنا ومبادئنا وأفكارنا، ونتفق في محبتنا واحترامنا ووفائنا لبعضنا.) وقد عبرت القاصة عن انصهار الصندوقين أو الشخصيتين في صندوق واحد لأنهما أصبحا يشتركان بمفتاح واحد (لو نظرنا الى أي نهر سنجد أن الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى، وبكل شيء.. هكذا كنا أنا وهو.. ضفتان مختلفتان، لكن، لنهر واحد!).
ثانياً مفتاح النضج في المكان الوهمي:
إن السمات الجمالية في القصة القصيرة الناجحة، تتميز في القدرة على توجيه زمن الحدث نحو النأي باللحظات الشعورية عن المكان الوضعي، والتحليق بها بعد أن تكمل أدوار استحالتها في المخيلة نحو المكان الوهمي ، لتجريدها وتنقيتها من شوائب صور الواقع الاعتيادية، التي تلتقط صور الأحداث العابرة بعدسة الاعتياد اليومي . وضمن هذا المفهوم تعمل القاصة كليزار أنور على إدارة دفة زورق السرد في المقطع الثاني من قصة (المفتاح الذهبي) لتبحر بإحداث قصتها محمولة على أمواج المخيال نحو ضفة النضوج الممثلة بالمكان الوهمي، مبتعدة عن ضفة الطفولة التي يمثلها مكان الحسي.. هكذا تبنى القصة على/ الابتعاد/ و/ الارتداد/ ابتعاد مكاني تسترسل بطلة القصة من خلاله استكشافها المخيالي لأمكنة وهمية تتخلق في المخيلة وتغور في بئر الذات لتنز بالسعادة في جسد البطلة التي ترود أمكنة الوهم، لتسقطها عن طريق الإبدال على أمكنة الواقع الحسية (أرى من بعيد قصراً كبيراً ذا أسوار عالية.. أسير نحوه انه أشبه بقصور بغداد في ” ألف ليلة وليلة”. حين وصلت، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة.. وحين وصلتها وجدتها مغلقة. فتشت بنظري كل جوانبها، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية اليسرى، وفي هذا الباب ثقب صغير. تذكرت كلام جدتي: “ربما تحتاجينه يوماً!”) الذي ستحتاجه بطلة القصة الحفيدة لتفتح باب القصر، وتحري المكان الوهمي الذي استحضرته بـ(الإبدال) من (الأصل)، المكان الحسي الذي شكل أرضية الحدث الأول في القصة ليس مفتاح الطفولة الساذج، لقد تحول ذلك المفتاح الى مفتاح آخر، بعد أن طاله التغير بالإيهام، إنه الآن مفتاح النضج، وبه ستفتح الباب وتتخطى العتبة لتشعر بمتعة الانتقال من صورة طفولة المرأة الى صورة نضوجها رغم بقاء السلسلة الحاملة للمفتاح على حالها (فتحت سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعته في ثقب الباب الصغير.. دخل.. أدرته يميناً.. وفتح.. دفعته، فانفتحت البوابة الكبيرة.. ودخلت) أن الأفعال المتوالية/ فتحت/ أخذت/ وضعت/ أدرت/ دفعت/ دخلت/ كلها أفعال موحية تشي بإخفاء ما لا يمكن اظاهره.. فالصورة السردية أخذت كما يبدو منحى آخر في المقطع الثاني من القصة، باستخدام القاصة الصور المكانية الإيهامية كبدائل للصور السردية الخاصة التي لا يمكن لبطلة القصة التصريح بها، ولكنها تركت لنا من الإيحاء ما يكفي لجعلنا نفهم إحساسها كامرأة تتلفع بعباءة المخيال لإخفاء صورة الأنثى ورسالتها المتسربلة بغلالة السرد الموحي، ولقد استخدمت القاصة المفتاح بالفتح الى جهة اليمين، وذلك يخالف العمل المعتاد للمفتاح، فالثابت أن الفتح يكون الى جهة اليسار والغلق يكون الى جهة اليمين.. وهي إذ تدخل القصر تستخدم الصور السردية الوصفيه الميتا مكانية الطويلة نوعا ما لوصفه/ حدائقه/ طيوره/ دروبه/ قبابه/ سقوفه/ ساحاته/ نافورته/ التي تصفها القاصة وصفاً جميلاً موحياً بالحنين الى زمن المكان الحسي الطفولي الذي فارقته (وتستقبلني ساحة حجرية تحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها.. في وسطها نافورة تنثر دموعها حكايا زمن مضى) حتى إذا ما تعبت من التجوال، جلست لترتاح وهي تتنفس بعمق وتتذكر حبيبها المفتاح (أضع يدي على المفتاح وأتذكره) وقبل أن تهمس باسمه رأته قادما نحوها، هو لم يستغرب من وجودها في القصر، هي التي استغربت من وجوده، في حين انظم هو اليها ليسرا معاً في ذلك القصر الميتا مكاني، وتستمر القاصة بالانزياح المكاني الثر، مستخدمة أسلوب السرد الذاتي لإكمال الصورة السردية للمكان المتخيل لكنها تصطدم خلال تجوالها بغصن نافر من إحدى الأشجار فتفقد سلسلتها وتجرح يدها، يربط هو معصمها بمنديله، وتصاب هي بالإغماء عندما ترى منظر الدم.. المنديل والدم رمزان آخران يدعمان قنطرة العبور الى جانب مرحلة النضج.. تفيق على صوت زوجها:
انتبهت الى ضياع السلسلة، كما انتبهت الى معصمها المربوط بمنديل أبيض.. ويسألها زوجها باستغراب عن يدها وهو يرى منديله يطوق معصمها.. هي لم تجبه (لم أرد.. أدخلت أصابعي في جيب القميص الذي غسلته وكويته بالأمس قبل أن أنام.. تلمست رؤوس أناملي السلسلة.. سحبتها.. كلانا ينظر اليها بذهول.. واندهشت أنا، فلم يكن معها المفتاح!).. نعم لم يعد للمفتاح وجود في حياة بطلة القصة فقد ودعت زمن الطفولة ومكانها الحسي، وانتقلت الى زمن المرأة الناضجة ومكانها
المتخيل.. ويبدو لي أن القاصة استفادت في رسم نهاية قصتها من نهايات قصص الكاتب الفرنسي لويس بونس وبخاصة مجموعته (الحلو المر) الفائزة بجائزة الغونكور التي ترجمها نهاد التكري وقامت بنشرها دار المأمون.
نُشرت هذه الدراسة في موقع الناقد العراقي بتاريخ17/11/2011
نُشرت الدراسة في جريدة (الزمان) العدد (4055) الصادر في 28/ 11/ 2011. طبعة لندن