بئر البنفسج.. أنوثة الكتابة وأحاديّة الموضوع
أنور عبد العزيز
هي تسع قصص في ثمان وأربعين صفحة للقاصة كليزار أنور صادرة في العدد (19) ضمن سلسلة: (ثقافة ضد الحصار) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 1999م.
وإذا قال أو أقرّ الكثيرون من النقّاد والكتّاب أنْ ليس هناك شيء أسمه (أدب ذكوري رجالي) أو (أنوثي نسائي)، وأنّ الشيء الوحيد المتوافر –وعبر كلّ العصور الأدبية وفي كل مكان- هو وجود أدب جيّد أو غير جيّد خامل ومشلول، أدب إنساني أو غير إنساني، صادق أو مراوغ خنوع، حقيقي بأصالته أو مزيّف، جادّ أو عابث وهازل، فمنتج الأدب هو الإنسان، وهو واحد-ذكراً كان أم أنثى-، لكن كل قصص كليزار التسع تؤكد و-بشكل مغاير- أنّ هناك أدباً نسوياً، وتتّضح أنوثة الكتابة وطريقة تفاعلها مع الحياة وعبر كل أجوائها ومفرداتها ورموزها وإيحاءاتها ودلالاتها على أنّ ما تكتبه يمتلك –وبفعل واضح- هويّة الأنثى وواقعها وعوالمها وأحلامها وليس أدلّ على ذلك أنها، إضافة لكل أحداث قصصها وشخوصها-من هذه اللغة البسيطة الشفّافة العذبة الأنيقة المعطّرة بأنفاس الأنثى وكيانها وروحيتها ووجودها ودفق مشاعرها ورقّة أحاسيسها الظاهرة المكشوفة أو المخبوءة والتي تحرص أنْ تسترها –أحياناً- بألف ستر وغطاء وحجاب، فكلّ ما في هذه المجموعة من مواقف وإشكاليات وطروحات، وكلّ ما فيها من آلام وأحزان أو أفراح، وكلّ ما فيها –شكلاً ومضموناً ومشاهدَ حياتية- وبلغة واضحة فصيحة هو من عالم المرأة، ومن خصوصيات أنوثتها المكشوفة- كما ذكرتُ- والمستورة بحرص الأنثى وانتباهتها وحذرها وهي تواجه عالماً يبدو (رجولياً) متسلّطاً في أغلب حالاته.
أغلب قصص المجموعة محورها واحد وبطلتها واحدة وهذه البطلة إنسانة رقيقة، وهي إما أنْ تظهر كأديبة أو رسّامة أو هي فنّانة، وهذه الكاتبة هي –دوماً- رمز للطيبة والتضحية والإخلاص، وهي الخاسرة –في أغلب الحالات- في علاقاتها مع الرجل الذي لا يبدو –وكما هي- ثابتاً راسخاً وفيّاً لحبه ووعوده.
في (الفراشة) نسيج لقصة حب ورغبات دفينة تظلّ ضائعة مضطربة بين الحقيقة والحلم، وفي القصّة تهويمات وفراشة وطيور وأزاهير ورقّة كلمات تصل حَدّ الهمس المسحور، وفي القصّة كلمات حانية كَذوب الندى والأنسام تستحيل ترانيم تشدو بها الروح، منولوجات تنفث ألمها ووجعها وترقّبها كمزامير حزينة، وفي (آخر يوم) البطلة كاتبة، يصدر لها كتاب يكون (مفاجأة) لحبيبها، وهو يراه معروضاً في مكتبة فيشتريه، ولا ينتظر أخذ باقي النقود من صاحب المكتبة، وتكون (المفاجأة) الأكبر عندما يجد أنّ الكاتبة اختارت اسمه (مروان) بطلاً للقصّة، وباختصار فإنها قصّة حبهما –هو والكاتبة- ورغم كل ما اجتاح هذين الإنسانين الأليفين، ورغم عاصفة الروح المندفعة بعنفوان مشاعرهما المتدفّقة حبّاً وحناناً، فإنّ النهاية جاءت خائبة مؤسية حزينة –وكأغلب نهايات قصصها-، وفي (الوجه الآخر للقمر) أيضاً فنّان رسّام وحبيبة، وتنتهي القصّة بخيبة أيضاً إذ أعادت له خاتم الخطوبة بعد أن تأكدّت أنّ هذا الفنّان ظلّ ويظلّ شرقياً في تصرّفه تجاه المرأة، هو يريدها خالصة متفرّغة له، أمّا أنْ تكون (رسّامة) ومشغولة بلوحاتها ومعارضها، فإنّ الأمر يبدو غير محتمل عنده، لذا فقد وصمته –وهي محقّة في ذلك- (كيف لم أتبيّن كل هذه المدّة بأنه مجرد قشرة صلبة.. ص20) وفي (الشاهد الوحيد) قصّة الحرب والعدوان والخراب الشامل وأطنان من قذائف النار والحرائق وهلع الناس ودمار البيوت والفزع الكبير من مشاهد الحرب المشتعلة، ثم تلك النهاية الرائعة بانتصار الوطن على العدوانيين الأشرار، وتلك النهاية الرائعة أيضاً في القصّة، والرمزية الذكيّة عندما ظلّت لوحة (الموناليزا) رغم كل القصف والدمار باقية ثابتة بابتسامتها الراسخة، فكانت (اللوحة) والابتسامة العنيدة (الشاهد الوحيد) على ما جرى من كوارث في تلك الحرب.. ثم (يبقى الوفاء)، وهي قصّة أخرى للحب بين طبيب وحبيبة قديمة يلتقيان في مستشفى لمرض طفلها –بعد أن تزوّجت من غيره- ومع الحديث والمفاجآت تذكارات الحب القديم، صليب بسلسلة ذهبية متدلٍّ من عنق المرأة كان قد أهداه لها، هذه القصّة أيضاً اندحر فيها حب الاثنين ولم يفوزا ببعضهما، و(شمس تشرق في الليل) أستاذ في الموسيقى ورسّامة وحوار حول الفنيّن: الموسيقى والرسم، ثم –والمسألة طبيعية ومنطقية- ارتباطهما بحبّ عميق وبحلم الزواج، وتسمية الطفلة الأولى (ألوان) –كما يصرّ هو- و(أنغام) –كما تصرّ هي- ثم باتفاق: الأولى أنغام والثانية ألوان، ثم يهاجر الموسيقي للدراسة في كندا، ويوماً يأتيها صوته عبر الهاتف، وتعجز –لفرحتها الدافقة- عن تبادل الكلمات معه، وتبكي، (قمّة الفرح تجعلنا نبكي، حتى أفراحنا تقطر منها الدموع.. ص32)، حسناً فعلت القاصّة عندما تركت النهاية مفتوحة قياساً لأكثر قصص حبّها المخنوقة بنهايات خائبة، و(المفكّرة) قصّة في ثلاث عشرة ( يومية) بدأت في 28 حزيران وانتهت في 31 كانون الأول وهي يوميات لفتاة عاشقة عثر عليها أحدهم، فراح مدهوشاً مستغرقاً بقراءة (الصفحات الملوّنة بالعشق والفرح.. ص33)، وهذه (اليوميّات) هي هموم ومواقف وحالات وبوح وحديث ونبضات قلب نازف بهواجسه وآهاته.. كلّ أيام (المفكّرة) حب وترقّب وهواجس وآمال وحوارات مع الروح حول حبيب كان اسمه (أنمار) و(أسماء من نحبّ هي أجمل الأسماء.. ص34)، ويتحول اللقاء عندها إلى شعر: (للناس عيد يفرحون به وعيدي يوم ألقاه.. ص35)، وكانت دهشتها كبيرة في (معرض تشكيلي) عندما اكتشفت أنه رسّام: (بدأت لا أرى في المعرض سوى لوحاته..ص36)، فتستمر مشاهد هذا الحب الجميل الملوّن، وهو يتغيّر متّحداً بأعماق الروحين، وتمضي الأيام منزوعة من (المفكّرة) ورقة ورقة، وتصلها منه بطاقة (عيد ميلاد) ملوّنة بأنامل فنّان، ثم نصل إلى 31 كانون الأول وانطفاء السنة وانتظار الأمل والفرح بسنة جديدة، وتقول البطلة –الحبيبة: أنّ سنتها تلك كانت أجمل السنين، وتقول أيضاً: (اليوم يضع الزمان الغطاء على آخر ورقة من عام (...) ويقول لها: كوني ذكريات، (وغداً يرفع الزمان الغطاء عن الورقة رقم 1 من العام الجديد. ويقول لها: كوني أمنيات.. ص39)، و(أجراس العودة) فنّان رسّام يعرض رسومه في باريس، ولكنه –بشعور من الإحباط وعدم تقدير فنّه –يعود للوطن حالماً بـ (عبير) التي تركها لأنانيته ولأحلامه الخادعة بالمجد والشهرة في باريس، وفي طائرة العودة لوطنه وحبيبته تذكّر قولها وهي تودّعه: (إنك نهر معروف في بلدك، لا تحاول أنْ تصبّه في بحر أوسع لأنك ستفقده، فالنهر في المصبّ ينتحر..ص42)، وعندما عاد زار –وبشوق مندفع-مكتبها، لكنه لم يجد على المكتب غير كتاب وقلم ونظّارتها الطبيّة، (لكن عبير لم أجدها.. ص43)، وخاتمة القصص: (لقاء على جناح الموت) مستشفى طوارئ وجريح وطبيبة تتبرّع له بالدم.. مع هذا (الجريح) يعود كلّ الماضي وتنبثق الذكرى حيّة عندما تجد تحت ياقة قميصه سلسلة ذهبية وبمصحف ذهبي: (هديّتها له يوم تخرجه، وتتأمل إصبعها فتحنو نظراتها على خاتم جميل أهداه لها لمناسبة ميلادها العشرين)، وكان (خاتم محبّة) كما قال عنه عند إهدائه لها، وكانت السلسلة ومصحفها وعداً منها.. وخلافاً لعدد من قصصها، فهذه القصّة تحتفظ بنهاية سعيدة رغم ضياع بعض السنين من عمر الحبيبين.
وهكذا فقد جاءت (كلّ المجموعة) انثيالات حب وأحلام وهواجس وأمنيات وخيبات أو انبعاث لآمال كانت هامدة خامدة، كتبتها القاصّة (كليزار أنور) بأنامل من موسيقى رومانسية حالمة وبرؤى (أنثوية) رقيقة، وبأسلوب مجانس ومناسب لم يكن غيره يصلح لموضوعه (الحب والوفاء) الأثيرة لديها، أبدع قلم القاصّة عبارات جميلة يمكن التأمل فيها وعدم المرور بها سريعاً: (وكأنه رشق حياتي بحفنة سحر.. ص7)، (شعرت بأنّ الألوان كلّها غابت برحيله وخيّل لي بأني أرى كلّ الأشياء بالأبيض والأسود.. ص59)، (أنظرُ إلى النهر الجاري ويجري نهر آخر في ذاكرتي.. ص13)، (لم يكن يبدو أمامي سوى هيكل لمحارب قديم، كيف لم أتبيّن كل هذه المدّة بأنّه مجرّد قشرة صلبة..؟! ص20)، (إنه فزع الحرب، كل ما استطعنا أنْ نفعله هو انتزاع الأرواح من براثن الموت.. ص22)، (غاية جميلة زرعها في قلبي ومضى.. ص29)، (فالعظيم عظيم بأهله وناسه.. ص41)، (بعد أكوام من السنين يتجّه مركبه نحو شواطئ أيامي محمولاً على أمواج الموت..!ص44).
أفبعد كل هذا نصرّ على عدم وجود أدب نسوي (بل أنثوي صراحة) له عالمه ونكهته وإشاراته ومفرداته وأسراره وغوامضه وهوّيته الواضحة معبّراً عن (نبض الأنثى) وكيانها تجاه القطب الآخر –الرجل- وبكل ما يحمله من إشراقات المحبّة والحنان والبراءة والصدق والوفاء للمرأة عاشقاً منذ أن أضاءت (حوّاء) عيني (آدم) المشعّة بالدهشة لهذا المخلوق الجميل، وقد يكون الآخر (الرجل) –في حالات- متمرداً معلناً استبداده ورفضه لكل هذه الصفات النبيلة، عندها لا يستحقّ أنْ يحمل شرف معنى كلمة (الرجل والرجولة).. تبدو بعض الكلمات والتعابير مكرّرة متشابهة متنقلة من قصّة لأخرى، وحتى بعض المواقف والمشاهد والأحداث والوصف، وربما جاء هذا بسبب من الموضوعية (الثيمة) الواحدة في أكثر القصص، والتي طوّقها (الحبّ) بإساره وتأثيره الطاغي الكبير.. صحيح أنّ الكاتب هو سيّد نفسه وذاته وسيّد كتاباته، ومع اعتزازنا الشديد باختيارات القاصّة كليزار لموضوعاتها –وهي الحرّة في ذلك- ومع إيماننا بأنّ موضوعة (الحبّ) ليست شيئاً ومسألة ضئيلة وهي (ثيمة) ثريّة، فإن أفق الحياة لا يقف عندها فقط، والحياة بإنسانيتها الشمولية والمتنوّعة تمتدّ إلى آفاق أكثر رحابة وحميمية والتصاقاً بحياة الناس والآخرين، وأنّ (مسألة الحبّ) مهما بدت مثيرة وبهيّة وشهيّة ومشوّقة، فإنها تظلّ –وفي المقياس الإنساني للكتابة وحتى في الحياة- محدودة ربما أضرّت بالكاتبة –أيّة كاتبة- إنْ هي أصرّت على الخضوع لموضوعة واحدة فقط، ولم تستطع الإفلات من أسرِها وهيمنتها.. إن فضاءات أخرى كثيرة ضاحكة بفرحها، أو مقهورة متألّمة بمواجعها وأحزانها عند بني البشر تنتظر من القاصّة الالتفات إليها بجديّة وعدم النظر إليها بزاوية هامشية.. هذا ما أردت أنْ أهديه –وبمودّة وتقدير- للقاصّة المثابرة النشيطة كليزار أنور وقد نشرت جهدها الأدبي –وحصراً القصصي- في أكثر من صحيفة ومجلّة ودورية عراقية وعربية، وبعمر أدبي لا يزيد على سنوات سبع واحتفاء عدد من النقّاد والكتّاب بنتاجها عبر تناولهم لقصصها في أكثر من عرض ومقالة نقدية.
* نُشرت هذه الدراسة في مجلة (الموقف الأدبي) السورية العدد (854) الصادر 19/ 4/ 2003.