خارج المكان.. مذكرات أدوارد سعيد

خارج المكان.. مذكرات ادوارد سعيد

أدوارد سعيد.. يفعم مكانه بعبق الإمتلاء حتى بعد مماته

البيت يُقبل طفله الغريب بعد رحيل نصف قرن

كُليزار أنور

للمكان عبق سحري في داخل أي منا.. ولا يشعر بالمكان وبوجوده وبهذا السحر إلاَ إذا انتقل المرء بين مكان ومكان، انتقل من بيئة إلى بيئة أخرى ولا يهم أيهما الأفضل وأيهما الأهم بقدر ما عَلِقَ بالذاكرة وبالذات ذكريات ذلك المكان.. الذكريات نقش في الذاكرة الأبدية.. موسيقى الإحساس النبيل.. سمفونية الخلود البشري.

ادوارد سعيد.. مفكر عالمي.. ولد في فلسطين ونشأ في مصر وعاش في أوربا وأمريكا.. يحمل الجنسية الأمريكية. ومذكراته هذه كتبها بالإنكليزية. ويقول عنها: الكتابة عندي فعلُ استذكار، وهي، إلى ذلك، فعلُ نسيان، أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة. استغرق تأليف الكتاب خمس سنوات وكتبه خلال فترة مرضه وعلاجه من مرض سرطان الدم. وهو سجل لعالم مفقود أو منسي.. شعر بلحظة مرضه بضرورة وأهمية أن يُخلف سيرة ذاتية عن حياته التي عاشها وعلاقته بالأشخاص الذين عاشروه.. إنها لعبة الذاكرة التي مكنته – ربما - من مقاومة المرض. إن كتابة المذكرات أشبه بتفريغ الماضي من داخلنا.. وذرف دموع الحزن على زمنٍ لن يُستعاد! والدافع الحقيقي والرئيسي الذي جعل ادوارد سعيد يكتب هذه المذكرات.. هو حاجته إلى أن يُجسر المسافة في الزمان والمكان بين حياته اليوم وحياته بالأمس.

يتكون الكتاب من إحدى عشر فصلاً.. الفصل الأول يبدأ بفترة الطفولة والإطلاع على تاريخ والديه وعلاقته بهما وبأخواته وأخواله وأعمامه وعماته، وعن تأثره بوالدته وأطباعها وعاداتها. الفصل الثاني عن ولادته في القدس عام 1935 على يد قابلة يهودية من أصل ألماني. وفي نظرة استرجاعية عن حياته التي عاشها في فلسطين يصفها بالذكريات العادية، لم يتخللها أي حدث مهم يترك اثاره بعمق على جدار الذاكرة.. واكتسبتْ فلسطين في داخله طابعاً ناعساً بل حُلُمياً. وبعدها عادوا إلى القاهرة وعاشوا في شقتهم في حي الزمالك.. حي يسكنه الأجانب والأغنياء المحليون.وكان الحيز المحصور والمحدد بدقة من هذه المدينة الجبارة يختصر عالمه كله حتى سنوات متأخرة من مراهقته (المدرسة، الكنيسة، الحديقة، البيت). وخلال طيلة فترة الحرب من عام 1942 كانت تحركات عائلتهم بين القاهرة والقدس.. ويصف هذه الفترة بالزمن الموحش والمحير، لأنهم كانوا يهجرون من عالمهم الأليف دون سبب متجهين نحو الغسق الكئيب.

الفصل الثالث يتحدث عن ذكرياته أيام الدراسة الإبتدائية والإعدادية – فقد درس في إعدادية الجزيرة في القاهرة – وعن الطلاب (لم يكن بينهم أي عربي مسلم، فالتلامذة أرمن ويونانيون ويهود مصريون وأقباط إضافةً إلى عدد غير قليل من أولاد الإنكليز) واالمُدَرِسات (لم يكن فيها مدرسين) وكلهن انكليزيات، ولم يكن في المدرسة أي أستاذ مصري! يتحدث بعفوية عن طابور الصباح ونوعية الدروس والنظام الصارم المتبع في المدرسة. وأسعد ذكرياته في إعدادية الجزيرة عندما تعرف على المسرح عام 1944 وحضوره اليومي لمسرحية "أليس في بلاد العجائب" وإعجابه بالتلميذة (ميشلين ليندل) التي مثلت دور أليس.. كان ينظر إليها بإعجاب شديد.. وتحولت بنظره من مجرد زميلة عادية إلى كائن تحيط به هالة من الجاذبية والسمو. الفصل الرابع تعود به الذكريات نحو البيت.. البيت الذي عاشوا فيه بالقاهرة وعلاقته بوالده خصوصاً وهذا التنافر العجيب بينهما..وحنيّة والدته وحيويتها في كل شيء وفي كافة أرجاء البيت، وتدخلها الحنون في حياتهم بلا كلل جارفةً إياهم جميعاً لمدارها المتوسع باستمرار. ويتذكر تلك الفترة التي يتغير الجسد فيها.. وكيف أن لوالديه السلطة حتى على طريقة مشيه ووقفته وطريقة ارتداء ملابسه، وما إلى ذلك من خصوصيات عادية. وكيف أن والده يُعتبر من أوائل – في مصر- الذين امتلكوا بفخر آلة تصوير سينمائية (8) ملم، فسجلوا كل المشاهد العائلية وسفراتهم وزياراتهم العائلية.. ولم يدرِ بأنه سيحتاج هذه الأفلام من جديد بعد نصف قرن لإعداد فيلم تسجيلي عن تأليفه كتاب "الثقافة والامبريالية". مخرجان من (BBC) أخذا الأفلام إلى لندن لتحويلها إلى أفلام فيديو صوره القديمة مع عائلته.

الفصل الخامس بعد إعدادية الجزيرة انتسب إلى مدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين في خريف عام 1946 بصفته ابن رجل أعمال أمريكي وهو لا يملك أي شعور بالانتماء إلى أمريكا. وتعرف فيها على كرة السلة والسوفت بول وكيف أن اللعبة الأخيرة أثارت اهتمامه بحيث حولته إلى رامٍ ماهر وضارب حريف. وتحدث عن شركة (الراية للقرطاسية) التي يملكها والده والموظفين الذين يعملون فيها وعلاقة –والده- بهم وكم كان رأسمالياً حديثاً ذا قدرة هائلة على التفكير المنظم والمؤسساتي.. ويعتبر أول مَنْ اخترع الآلة الكاتبة بالحروف العربية بالتعاون مع شركة (رويال) الأمريكية. وتحدث أيضاً عن اهتمامه بالإذاعة وعلاقته بالموسيقى وشغفه بالسمفونيات العالمية واهتمامه بالاوبرا بشكل خاص.. وتدريباته على آلة البيانو.

الفصل السادس كان عليهم العودة إلى القدس عام 1947 عشية ذكرى وعد بلفور.. وسُجل في مدرسة سان جورج.. وكانت القدس الرمادية الساكنة مدينة متوترة بسبب سياسات ذلك الزمان والمنافسات الدينية بين مختلف المذاهب المسيحية كما بين المسيحيين واليهود والمسلمين " شعرتُ أن غياب البنات والمعلمات مَحَضَ المدرسة طابعاً أكثر قساوةً وخشونةً وجسدانيةً وجعلها أقلّ أُنساً من مدارس القاهرة. على اني سرعان ما تكيفتُ مع الجوّ الجديد، إذ وجدتُ نفسي للمرة الأولى والأخيرة في حياتي الدراسية بين صبيان يشبهونني، فكل فرد من أفراد صفي تقريباً تعرفهُ أسرتي." ص 146. وفي عام 1948 قرر والده الذهاب إلى أمريكا عبر البحر.. ويحدثنا عن إقامتهم في نيويورك وعن جولاتهم السياحيةً.. وعن تجربته في المخيم التي دامت شهراً كاملاً في (ماراناكوك). وهي أول تجربة ابتعاد عن الجو العائلي.

الفصل السابع تعرض والده لانهيار عصبي، فلجأوا إلى قرية (ضهور الشوير) الجبلية اللبنانية ليقضوا معظم أشهر تموز وآب وأيلول ولسبعة وعشرين صيفية متتالية منذ عام 1943.. يوصف المكان بشكل جميل جداً - وهي مسقط رأس أسرة والدته آل بدر- وسفراتهم إلى بيروت وإلى البحر المتوسط وعلاقتهم بالجيران والأقارب والبعض من الأصدقاء الذين التقاهم هناك.

الفصل الثامن بعد إعدادية الجزيرة دخل مدرسة فكتوريا كولدِج والتي كانت تعد "إيتون" الشرق الأوسط.. جهازها التعليمي كله من الإنكليز باستثناء معلّمي اللغة العربية واللغة الفرنسية، مع انه لا يوجد فيها تلميذ إنكليزي واحد. ورغم أن والده أورثه الجنسية الأمريكية، كان عليه أن يغادر مصر لأن قانوناً أمريكياً غامضاً يقضي، لكي يحق له أن يكون مواطناً أمريكياً بأن يعيش خمس سنوات على الأقل في الولايات المتحدة قبل بلوغه الحادية والعشرين.. وكان خيار الانتقال محتوماً بعد أن بلغ السادسة عشرة في تشرين الثاني/ نوفمبر/ 1951. وبعد ثمانٍ وثلاثين سنة من مغادرة مدرسة فكتوريا كولدِج يزورها مرة أخرى عام 1989، ويدخل إليها بطريقة غير مشروعة – كان يوم جمعة - لكن مديرة المدرسة تطالبه بمغادرتها فوراً بعد أن رفضت يده الممدودة للمصافحة! فقد تحولت "إيتون" البريطانية في مصر إلى حَرَم من نوع جديد، إسلامي هذه المرة!

الفصل التاسع غادر القاهرة إلى الولايات المتحدة عام 1951.. ولم يفكر بزيارة الشرق الأوسط إلاّ بعد أربعين سنة بالتمام والكمال.. أي في عام 1991 وهي السنة التي اكتشف فيها بأنه مصاب بسرطان الدم اللمفاويّ المزمن.. وربما المرض وحده جعله يفكر مجدداً بزيارة الشرق.. مرضه جعله يستذكر الأمكنة وحاول إحياء نُتفٍ من حياة قد عاشها أو استحضار بشر غابوا نهائياً من حياته. كانت أول زيارة لفلسطين برفقة زوجته (مريم) وولديه بعد (45) سنة في تموز/ 1993.. وكانت زيارتهم الأولى.. وزار القاهرة بمفرده وتَقَصَدْ أن يزور الأمكنة التي عاش فيها "وحين باشرتُ مرحلة (العلاج الكيمياوي) في آذار/ 1994، أدركت اني دخلتُ إن لم يكن المرحلة الختامية من حياتي، فعلى الأقل المرحلة التي لا عودة عنها إلى حياتي السابقة، مثلي مثل آدم وحواء عندما غادرا الجنة. وفي أيار/ 1994 بدأتُ العمل على هذا الكتاب." ص 269.

الفصل العاشر لابد أن نذكر أن أعمق علاقة ربطته بالمرأة هي علاقته بأمه.. كان وحيدها مع أربع شقيقات. و (إيفا عماد) أول امرأة دخلت حياته في القاهرة.. وهي من أسرة عربية متحفظة.. تكبره بسبع سنوات.. علاقته بها لم تتجاوز لعب التنس والجلوس معاً وتبادل الأسرار الصغيرة وبعض القبل. وبعد علاقة حب دامت خمس سنوات عارضت والدته الزواج منها واستطاعت بشكل غير معلن من إعادته إلى مدارها. الفصل الحادي عشر فطمتهُ سنواته في الولايات المتحدة تدريجياً عن عادات القاهرة ولبنان.. عادات الفكر والكلام والعلاقات، في أمريكا تبدل كل شيء فيه.. لهجته ملابسه مقاييسه التعاملية مع الآخرين. درس في جامعة (برنستون) وخلال القسم الأخير من دراسته فيها يكتشف انه كائن غير ناضج ومتردد ومتخبط ومتعدد الشخصيات، فهو العربي وعازف الموسيقى والمثقف الشاب والهامشي المتوحد والطالب المجتهد والمشاغب سياسياً . في القاهرة لم يرتبط بعلاقة حب سوى مع (إيفا عماد) واثر انتكاسة علاقته بها وسفره إلى أمريكا تواصل بعلاقاته المتشنجة بالمرأة الأمريكية الملغزة، المراوغة، الولهانة إلى حد مدهش. ارتبط بزواج بائس مع إحداهن.. وانفصل عنها ليعود إلى صديقته من (برين مَاور) عاشا كصديقين وعشيقين فعليين..استمرا معاً ولمدة ثلاثة عشر عاماً لتغادره هي مودعة إلى رجلٍ آخر. وكانت سنواته الخمس (1958– 1963) كطالب دراسات عليا في الأدب في جامعة (هارفارد) استمراراً فكرياً لبرنستون، فيما يتعلق بالدراسة الرسمية. وفي نهاية الفصل يعود إلى نقطة البداية.. طفولته وامتداد علاقته بأهله وخاصةً والدته التي ظلّت تشكل له مرجعاً في معظم أوقات عمره وبطرائق لا يعيها تمام الوعي ولا يفهمها بشكل محدد. وكما مات أبوه بالسرطان.. ماتت أمه أيضاً.. وكأن هذا المرض اللعين يتوارث، فجرى في دمه.

* * *

تزامنت كتابة هذه السيرة مع مراحل مرضه، فهل أراد المفكر العالمي ادوارد سعيد أن يفسر للقارئ أو لنفسه – ربما – بأنه كلما تزايد ضعفه وقسوة مرضه وأثاره ازداد اتكاله على هذا الكتاب وكأنه وسيلة يبتني بها روحه بواسطة النثر ما يهدمه المرض في جسمه وهواجسه! انه نوع من التحدي.

 

* " خارج المكان" مذكرات ادوارد سعيد.. صدرت عن دار الآداب/ بيروت/ 2000/ الطبعة الأولى. نقلها إلى العربية/ فؤاد طرابلسي.

* نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (2921) الصادر في 19/ 2/ 2008.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

View gulizaranwar's Full Portfolio