أورهان باموك.. بين المدينة والسيرة

أورهان باموك.. بين المدينة والسيرة

سيرة باموك تتقد من أول حضن في البيت العثماني

روائي أمتلك عالماً لا يشعر بالذنب فيه

كُليزار أنور

ارتباط الإنسان القوي بمدينته يبلور شخصيته الأدبية.. هذا ما حصل مع باموق حين تنفس لأول مرة هواء اسطنبول وعاش فيها وأصبحت هي قدرهُ الذي لا يُناقش. ولد في 7/ حزيران/ 1952 لعائلة ميسورة الحال ذات جذور عثمانية.. وعاش مع والدته وأخاه الأكبر وجدته وأعمامه وزوجاتهم في بناء مؤلف من خمس طوابق مكتوب على بابهِ بتباهٍ "بناء باموق".

وعائلته سكنت الطابق الرابع. وكما أن انهيار الدولة العثمانية لاسطنبول منحهم الحزن والضياع.. والعام شمل الخاص.. تفتتت العائلة الكبيرة وعائلتهم الصغيرة عبر المشاحنات الكثيرة بين أُمه وأبيه، وبين أبيه وأعمامه وعماته لكثرة الخسارات التي ألمت بهم. كان التخيل إحدى الغرائب الخاصة به في طفولته.. وشعوره بأن هناك شخص آخر مثيله وكأنه توأمه يشبهه في كل شيء.. هذا الأمر لم يجعله مريضاً بانفصام الشخصية، لأن بمقدوره العودة إلى واقعه في أية لحظة يريد هو.. كما لو أن أحدهم يُطفئ المصباح وهو خارج من الغرفة، فالفرق كبير بين رجل يعتقد أنه نابليون ورجل يُسرُّمن التفكير دائماً بأنه نابليون.

وكان يحب أن يرى كل الأشياء من حوله بالأسود والأبيض ويستهويه الثلج كثيراً، فاسطنبول تبدو أجمل تحت الثلج، إذ يغطي طين المدينة وقذارتها وتصدعاتها وأمكنتها المهملة. وشَكَلَ البسفور أيضاً إحدى أهم المتع الحقيقية التي شعر بها لِما يمثله من أثرٍ لعصرٍ غنيٍ في مرحلة دخلت فيها الحضارة العثمانية وثقافتها تحت التأثير الغربي دون أن تفقد خصوصيتها وقوتها. حضارة البسفور منحته زهواً كونه امتداد لحضارةٍ عظيمة.

البيت (بناء باموق) أول حضن " هل هذا ارتباط ببيت؟ ممكن. لأنني ما زلت أعيش في البناء نفسه بعد خمسين سنة. البيت مهم بالنسبة لي لأنه مركز العالم في رأسي أكثر من كونه جمال غرف وأغراض. ولكن خلف ذلك الحزن هناك إحساس طفولي ومعقد بشجارات الأم والأب، وفقر قادم باستمرار نتيجة إفلاسات أبي وعمي، وصراعات المال والمُلك داخل العائلة."ص (90-91).

ويتطرق إلى علاقته بوالديه الغائبين دوماً لحد الضياع.. وسَكنه لفترة في بيت خالته في (جيهان غير) وتعاملها اللطيف معه هي وزوجها الصحفي والشاعر والناشر (شوكت راضو). وكل هذا ولّد في داخله شعور بالحزن وخلق سوداوية مترسخة في قلبه بتباهٍ.. انه حزن جماعي موحد وفريد بين الذين يعيشون في المدينة.. أي اسطنبول.. هذا ما شعر به (بودلير) عندما زارها وبعدها صديقه الكاتب والناقد (تيوفيل غوتيه) الذي وجد بعض مناظر المدينة سوداوية جداً، فألفَ كتاباً عن ذلك.. وتأثر به الكتّاب الاسطنبوليين أمثال (يحيى كمال و أحمد حمدي طنبنار) وغيرهما من الشعراء.. الكل يشاركون المدينة حزنها وشعورها بالخراب والفقدان.. ويبدو أن سر اسطنبول هو أن تعيش الفقر إلى جانب التاريخ العظيم.

ومن اللواتي أثرن فيه وخاصة بطفولته جدته لأبيه.. خريجة معهد المعلمات، درست التاريخ والتي كانت مؤمنة بحملة التغريب الأتاتوركية، لكن دون أن تهتم بالشرق أو الغرب.. امرأة طويلة ونحيلة وجميلة ارتبطت بجده بعد أن خرجت معه قبل أن تخطب إليه وهذا بحد ذاته جرأة كبيرة في اسطنبول في ذلك الوقت.. ومات الجد بعد أن جمع ثروة جيدة.. وأصبحت الأرملة ربة أسرة كبيرة.. سطوتها سارية المفعول داخل البيت إلى أن أضاع والده وعمه من ايديهما المصنع الذي خلفه الجد في باكورة عمرهما وتتالت الافلاسات وبيعا أمهما الأملاك والأبنية واحداً بعد الآخر.. عاشت حياة مرفهة لديها الحشم والخدم تأمر وتنهي وتدخن وتلعب بأوراق اللعب مع صديقاتها.. وأغلبهن بعمرها ومستواها. ودراستها للتاريخ جعلها تسمي كل حفيد من أحفادها باسم أحد سلاطين الدولة العثمانية المظفرين في سنوات تأسيسها.

كبر الطفل ودخل المدرسة.. أراد من البداية أن يُفهم الصف والمعلمة بأنه تلميذ جيد وذكي.. يرفع اصبعه لكل سؤال يعرفه أو لا يعرفه.. كانت رغبة لإظهار نفسه للمعلمة بأنه ذكي وشاطر مثل الغني الذي يضع قطعة زينة أو ربطة عنق غالية ليُبين للناس ثراه. والأمر الآخر الذي تعلمه في المدرسة.. يحب رؤيته للمعلمة بوصفها "سلطة" يجب أن تطاع ولابد للحصول على مباركتها، بانجازه الفروض المدرسية وسماع نصائحها وحل مسائل الحساب قبل الجميع والحصول على أعلى درجة ليكن بنظر المعلمة أذكى تلميذ في الصف. وعلى مدى خمسة وأربعين عاماً بعد تعلمه القراءة والكتابة يتذكر مكتوبجية المدينة بدءً من أحمد راسم ويحيى كمال وعبد الحق شناسي ونامق كمال وعلي أفندي البصيري وأحمد هشام.. ووصولاً إلى برهان فلك.. اهتموا بكتابة المقالات التي تتناول المدينة وأهلها.. هدفها تقديم آداب العيش والدخول في تفاصيل حياة الاسطنبوليين مقدمين النصائح والانتقادات.. وهذه نصيحة كاتب زاوية اسطنبولي (أحمد راسم) عمرها مائة وثلاثون عاماً: "إذا كنتم لا تجدون موضوعاً بسبب المحظورات السياسية، وضيق الهامش، تناولوا موضوع مشاكل البلدية، وحياة المدينة، لأنها مقروءة في كل وقت!" ص 142.

بعد دخوله المدرسة اكتشف أهله ومَن حوله بأنه يمتلك موهبة الرسم.. وشجعه والده -خاصةً- فاشترى له الأوراق والألوان والأقلام ليرسم، وأبدى اعجابه بكل لوحة يرسمها.. واستجاب للميح وتحولت الموهبة الى مهارة حقيقية تدريجياً.. وشعر بأن الرسم هو امتلاك عالم ثانٍ لا يشعر بالذنب من وجوده.. عالم يخلصه من مضايقات الحاضر إلى واقعية عالم آخر مما جعله يؤمن بأنه شخص خاص ومختلف. ومن الخامسة عشرة بدأ برسم مناظر اسطنبول بشكل مهووس وخاصةً مناظر البسفور.

لم يكن الرسم وحده يشكل اهتمامه الوحيد، بل القراءة ايضاً، ففي صالون جدته لأبيه، في المكتبة ذات الزجاج الجرار التي قليلا ما تُفتح توجد موسوعة الحياة وكتب ضخمة كثيرة.. أخذت قدماه تمشي اليها.. قرأها بنهم وحب.. ومن أكثر الكتب التي نالت اعجابه (موسوعة رشاد أكرم قوتشو) التي يفخر بها قوتشو بأنها أول موسوعة في العالم حول مدينة. ويعتبر إحدى الشخصيات التي أبدعت صورة اسطنبول الحزينة كحزن حياته.

عائلته ابتعدت عن الدين تماماً، فلم ير أحداً من عائلته في بناء باموق يصلي أو يصوم أو يتمتم بدعاء.. ما عدا الخدم.. لذا ارتبط بذهنه الطفولي بأن الله لا يهتم بأمثاله، بل بالفقراء فقط وبأن الدين عائد لهم. درس المرحلة الثانوية في (روبرت كوليج) أربعة أعوام بما فيها السنة التحضيرية لدراسة اللغة الإنكليزية.. هنا أدرك أن طفولته انتهت وأن العالم أكثر تعقيداً مما كان يتصور.. وطالما لديه الميول للرسم فدراسة العمارة تناسبه تماماً.. ودرس بعدها الهندسة المعمارية في الجامعة التقنية في اسطنبول.

كبر الشاب الذي في داخله وبدأ القلب يدق.. وأعطى لأول عشق دخل حياته اسماً مظللاً.. اسمها فارسي ويعني: الوردة السوداء. تدرس في المدرسة الفرنسية، من عائلة غنية، وفي أحد الأصياف جذب اهتمامها.. وأُعجبت به وترددت على البيت الذي أتخذه مرسماً.. كانا يلتقيان هناك ليرسمها وأصبحت نموذجه.. وتوالت اللقاءات.. خرجا إلى اسطنبول لإخفاء عشقهما لا لإعلانه.. كانا يمشيا كسائحين. واعتادت بعدها أقدامهم إلى متحف الرسم والنحت. وانتهى غرامه الأول بسفر الحبيبة إلى سويسرا للدراسة في إحدى مدارسها الفخمة.. كتبَ لها رسائل كثيرة، ولم يتلقَ الجواب!

رؤية الكتاب الأتراك – وخاصةً الكاتب أورهان باموق- عن اسطنبول تختلط دائماً بذكرياتهم، وحبهم الشديد لمدينتهم التي ترعرعوا فيها.. انها شبيه بالولاء. وهي رؤية تختلف عن رؤية الغريب لها الذي جاءها كسائح وعين أخرى، فقد سجلوا الأجانب كيف بدت المدينة بحيادية.. عاداتها وتقاليدها وتكايا الدراويش، والحرائق، وجمال المقابر، والقصر، والسلطان، والحرم، والمتسولين، وكلاب الشوارع، وخطر الخمر، واختباء النساء، وأسرار المدينة، والرحلة إلى البسفور، وجمال المناظر والخيال. وكانت اسطنبول –على مر التاريخ- مثار فضول.. لذا زارها كتاب كثيرون وسجلوا ملاحظاتهم وكتبوا عنها ورسموها أمثال: (الرسام ملينغ، ودي كامب.. والكّتاب: جيرار دي نيرفال، تيوفيل غوتييه، إدموند دي أميكيس، فلوبير، لامارتين، اندريه جيد، بيير لوتي، كنوت هامسون، هانس كريستيان أندرسن). "لماذا يسعدني إلى هذا الحد السماع من الآخرين بأن اسطنبول مدينة حزينة؟ لماذا أبذل كل هذا الجهد لأشرح للقارئ جيداً بأن الحزن هو الشعور الذي منحتني إياه المدينة التي قضيت حياتي كلها فيها؟"ص251.

 

"اسطنبول الذكريات والمدينة" مذكرات الكاتب التركي أورهان باموق/ صادرة عن دار المدى/ 2007/ ترجمة عبد القادر عبداللي.

نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (2957) الصادر 1/4/ 2008.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

View gulizaranwar's Full Portfolio