جمعة اللامي يدون سيرة الطائر المهاجر
مدينة مشيدة من الألم
كُليزار أنور
يقول وليام أوفلاهرتي: "إذا كنت تستطيع أن تصف دجاجة تعبر الطريق، فأنت كاتب حقاً". فكيف بالذي يصف حياة مليئة بالألم والخوف والترقب!
عندما نخلق الشخصية تتبين القصة من نفسها. و"المقامة اللامية" رواية مشحونة المعاني والدلالات.. تعبير فني وإنساني عذب –رغم الألم- لمرحلة مهمة وعميقة ودقيقة. استخدم الروائي جمعة اللامي أدواته الفنية من تداعيات صورية وسايكولوجية وزمنية ومكانية ليحفز فينا الإحساس بما خلقه لنا من دراما وعمق للتجربة التي يخوضها البطل أو التي خاضها الروائي بنفسه، فالأديب يكتب مدفوعاً بقوة داخلية.. انه أشبه بالبركان.
الرواية تبدأ بحكاية رجل عراقي أصيل اسمهُ (ألم) وهو معنى مجازي _حتماً_ لسيرة حياة شعب بأكمله كان يعاني ولم يزل إلى الآن يجر في أذياله نفس المعاناة التي بدأت منذ البداية. حكاية (ألم) يرويها حفيده وتبدأ بهجرته من الكوفة هو وأولاده وأبناء عمومته وبقية أهله وخلصائه ليشدوا الرحال متجهين نحو الجنوب ووصل ركبهم إلى موقع تهجع فيه مدينة (العمارة) حالياً لتكون مدينة الخلاص الأخيرة. وبإحساسه الصادق يعرف بأن نهايته قد قربت وإن طائر الموت الذي يحوم فوق رؤوسهم جميعاً سوف يختاره في تلك الليلة، يجمع شعبه الصغير ويملي عليهم دستورهم الذي بموجبه يواجهون الحياة بحلوها ومرها، بجدبها ووفرتها، بسلمها وحربها، بجمودها وحركتها، فهذا هو قانون الحياة. ومات (ألم) وبنيَ له مرقد في الجانب الغربي من النهر.. وسُميت هذه الديرة.. بديرة " ألم". هذا ما رواه لنا (ابراهيم الأحمد) أحد أقطاب الرواية.. وكبرت المدينة وبدأ الغرباء يجدون فيها المأوى "لقد استقبل أهلنا (جريبان السايب) أول الأمر مثل ضيف، أو بعاطفة تشبه التعاطف، لكن كل شيء انقلب إلى نقيضه. كانت عصا الجنرال هي التي تسوس المدينة من مكمنه في دهاليز المبنى بعد السور الثالث. لقد فرض علينا الانشقاق تماماً كما يفرض علينا الموت." ص26.
ما زال ابراهيم يروي لنا سيرة حياته وتاريخ أجداده وخساراتهم.. يلعب بالكلمات كيفما يشاء ليعوض الهزيمة التي تعرض لها ويتعرض لها كل يوم.. يريد أن يحول الخوف إلى سكينة، وكيف يشعر بالأمان وهو ينتظر في كل لحظة مَن يطرق عليه باب بيته ليمزق أوراق روايته هذه وينهي حياته بطلقتين. يستدعيه الجنرال.. يقابله خلف الأسوار المنيعة (بدائرة الاستعلامات الوطنية) يُعذب من أجل قصيدة كتبها في لحظة هذيان. هل كُتبَ له أن يقف بوجه الغزو الذي توقعه.. وكان يؤمن بأنه سينكسر ويخسر المعركة، لأن الطرف المقابل هم الأكثر قوةً وعدداً وحتى حضارة.. سيقاوم هو ومَن معه مؤمنين بأن الله لن يخذلهم في النهاية البعيدة جداً وسيعودون إلى ديرة "ألم" بعد أن تكون قد انهارت وتحولت إلى أطلال. كانوا متأكدين بأنهم الوقود وسيظهر كثيرون يحتطبون الحرب بأسمائهم. كان البطل رغم خسارة المعركة، فقد يكون هو المستقبل.
"المقامة اللامية"رواية تبحث فكرتها عن وجود الله.. كل يبحث عن الله بطريقته الخاصة.. إنها فكرة مربكة رغم حقيقتها واستمرارية الإنسان بالتفكير بها. والأحداث تتداول بين أقطاب شخصياتها ( أحمد العبدالله، وليد الأحمد، إبراهيم الأحمد، سالمة، ملكة) تنسج تاريخاً لتروي حكاية ديرة ألم.. وديرة "ألم" هي نموذج مصغر لبلد بأكمله والحكاية هي نفس الحكاية ما زالت تدور رحاها مثلما بدأت في تلك الديرة الصغيرة. وينتهي الجزء الأول من الرواية بسجنهم، لكنهم يستطيعون الفرار منه، فالخلاص كان حتمياً، وربما على الورق فقط!
الجزء الثاني يتضمن قسمين يرويهما إبراهيم الأحمد بطريقتين، فالحكاية التي رواها لنا دوّنها في صحف أسماها.. صُحف إبراهيم. "فجأةً، رأيت رجلاً طويل القامة، مقنّع الوجه، يرتدي ملابس عسكرية مرقطة باللونين الأخضر والأسود، وهو يشهر مسدساً حربياً في وجهي. وجّه الرجل كلامه إليّ: _ أنت جمعة اللامي أم إبراهيم الأحمد؟ _ جمعة اللامي. قال الرجل: إذاً سأقتلك. ثم أفرغ خمس رصاصات من مسدسه في رأسي. عدتُ إلى اليقظة متعباً وقلبي يخفق، فاتجهت إلى مكتبي، حيث توجد مسودة هذه الرواية، كما هي الآن بين يديّ القارئ الكريم." ص125.
إذاً.. إبراهيم الأحمد هو الكاتب نفسه.. دوّن لنا حكايته وظل مستمراً في تدوين التاريخ الشخصي لمدينة "ألم" مدينته الرمزية.
والجزء الثالث يتضمن صُحف إبراهيم.. وهي سبعة قصائد شعرية بأنفاس صوفية: (صحيفة العزلة، صحيفة المطر، صحيفة الرماد، صحيفة البياض، صحيفة المروءة، صحيفة الحب، صحيفة الفراغ).
* * *
الروائي جمعة اللامي غادر العراق أوائل الثمانينات وأغلب أعماله تصور حياته هنا وحنينه لمسقط رأسه. خيوط الذكرى _رغم مرارتها_ عالقة في ذهنه وهي التي تغزل كل حكاياه.
* "المقامة اللامية" رواية صدرت عن دار الكندي للنشر والتوزيع/ أربد/ الأردن/ 1999.
* نشرت هذه القراءة في جريدة (الزمان) العدد (3014) الصادر في 7/ 6/ 2008.